الجمال يولد من رحم المأساة أحيانًا، ولكل شئ نظنه اعتباطياً جذور ينسحب إليها، علي سبيل المثال، لولا غرق السفينة “تيتانيك” ما كان لـ “سيلين ديون” أن تجد وعاءًا تعتق فيه للخلود كلماتٍ ككلمات
“My Heart Will Go On”،
أنا أيضًا، لولا غرق “تيتانيك”، ولولا أن التاريخ دائري يستطيع كل من أراد أن يصل مباشرة إلي أي حدث تاريخي أراد انطلاقًا من أي حدث تاريخي، وكل حدث، ودون أن يضل، ما كان لي أن أجد ذريعة لأبدأ كلامًا عن الثورتين المضادتين اللتين لا ثالث لهما في تاريخ مصر بكلام عن “سيلين ديون”، فالعلاقة وإن بدت غريبة وطيدة جدًا، أو، هكذا يخيل إليَّ!
في ربيع العام 1912 غرقت السفينة “تيتانيك”، كانت مأساة يعرفها الآن حتي الأطفال، أضاف إليها بعض العلماء مؤخرًا تفاصيل بكر، مذهلة!
لقد اكتشفوا أن “تيتانيك” كانت تحمل على متنها مومياء فرعونية لكاهنة “إخناتون” مكتوبًا تحت رأسها تعويذةٌ تقول:
(انهض من سُباتك يا أوزوريس، فنظرةٌ من عينيك تقضى علي أعدائك الذين انتهكوا حرمتك المقدسة)
كانت مومياء الكاهنة قد اكتشفت في معبد العيون بـ “تل العمارنة” في محافظة المنيا، أول بقعة علي ظهر الكوكب دق بها إنسانٌ لا مراء في وجوده أجراس وحدانية الله، “إخناتون” طبعًا!
كان قبطان السفينة المنكوبة ” إدوارد جون سميث” خوفاً علي مومياء الكاهنة قد وضع التابوت خلف غرفة القيادة، وأكد الكثيرون ممن كرّسوا وقتهم لتوثيق تلك النهاية المؤسفة للسفينة وملابسات غرقها علي ضوء ما تمكنوا من الوصول إليه من شهادات بعض الناجين أن القبطان “سميث” أصيب قبل ساعات من وقوع الكارثة بالهذيان، ولقد سمعه بعضهم وهو يصرخ:
– الأشباح، العفاريت.. كلّا، إنني سيد هذه الجزيرة العائمة أفعل بها ما أشاء!
أعرف أن مثل هذه الحكايات تروق المزدحمين بيقين ممتلئ في صحة ما تعارف الناس علي تسميته بـ “لعنة الفراعنة”، لست من هؤلاء، مع ذلك، أعلم أن شخصًا آخر أصيب بالهذيان لمدة أسبوعين سقط علي إثرهما في الفجوة التي لابد له منها، أقصد، مات، عندما اكتشف دودة البلهارسيا في مومياء فرعونية، إنه العالم الألماني العظيم “تيودور بلهارس”!
“جان فرانسوا شامبليون” الرجل الذي أيقظ لهجة المصريين القدماء من سباتها بعدما اعتقد العالم أنها ذهبت إلي المجهول كما ذهبوا لم يسلم من مصير مشابه، لقد أصيب هو الآخر بالهذيان وبالشلل قبل أن يموت في شرخ شبابه، لكن، هذا الأمر لا يرتقي أبدًا لأن يحصي كأنه ظاهرة!
في ربيع العام 1912 غرقت السفينة “تيتانيك”، وفى ربيع العام 1912 أيضًا، عثرت إحدي البعثات الألمانية على رأس الملكة “نفرتيتى” الشهير بين أطلال “تل العمارنة”!
وفيما بدا أن روح الثورة التي أججها “إخناتون” في “أخيتاتون” التي هي الآن “تل العمارنة” أوحت إلي النحات “تحتمس” بأن يخصص أوقات فراغه لإبداع ما يليق بالخلود ويرج أعماق المؤجلين بقسوة، حتي تلك الأعماق العامرة بالشر، كان تأمل ذلك الرأس الشهير الذي أبدعه “تحتمس” هو أول طقوس “أدولف هتلر” الصباحية!
فإن مما هو الآن في حكم المؤكد ألا شيئًا جعل الدموي “هتلر” يقف فعلاً علي مشارف الجنون كما فعل رأس “نفرتيتي”، واسمها يعني : الجميلة أقبلت، لم تنعكس الروح التي كانت تهيمن علي “تل العمارنة” علي أصابع “تحتمس” وحده، إنما، كان ثمة إيقاعات جديدة تتحرك في أعماق كل المبدعين هناك نستطيع أن نلمسها بوضوح في كل ما وصل إلينا من فنون تلك الحقبة وأدبها، ذلك التمرد الإيجابي علي الفن القديم وتجاوزه، تلك الوجوه الطولية المسالمة، النظرات الإسكاتولوجية السائلة، فضلاً عن البساطة التي تجعل العيون لا تري في “إخناتون” وعائلته إلا مجرد مواطنين مصريين لا عائلة حاكمة تعيش في عزلة عن العوام!
أيضًا، هي هي روح “أخيتاتون” التي، في واحدة من أوائل السرقات الأدبية في التاريخ، جعلت بعض اليهود يخصصون أوقات فراغهم للسطو علي أناشيد “إخناتون” حرفيّاً وينسبونها إلي أنفسهم في كتابهم الأدبي المعروف بـ “مزامير داود”، لكن، من الجيد أن كل العالم الآن يعلم الجذور الحقيقية التي ينخفض إليها أدب اليهود، ولقد انحاز الصواب إلي “سيجموند فرويد” تمامًا عندما قال:
– إن الحضارة المصرية هي عقدة اليهود التاريخية!
ثمة بابٌ آخر مفتوحٌ علي مصراعيه للدخول إلي “تل العمارنة” من تلقاء غرق “تيتانيك”!
لقد ورد في التعويذة المكتوبة علي مومياء الكاهنة اسم “أوزوريس”، وهو إله جوهري لأشياء كثيرة من بينها الزراعة، والسماد من أشياء الزراعة المفصلية، وهناك حكايتان شهيرتان كان البحث عن السماد بدايتهما وانتهت كلتاهما بضجةٍ تناثر غبارها علي كل القارات وجعلت الكثير من الافتراضات التي اجتهد المؤرخون لكي يملأوا بها الفراغات الزمنية لبعض الأحداث التاريخية الملتبسة بلا قيمة!
هاتين:
في أحد صباحات العام 1945، كان الفلاح ” محمد السمان” يبحث عن سماد لأرضه بالقرب من مدينة “نجع حمادي” بصعيد مصر، فوجد أثناء الحفر علي بعد أمتار من دير “القديس باخوم” جرة خزفية عندما كسرها وجد بداخلها 13 مجموعة من لفافات البردي، هي التي تعرف الآن بمخطوطات “نجع حمادي” أو مكتبة “نجع حمادي”، وبفضل ذلك الاكتشاف غير المقصود أصبح العالم الآن يعرف أدق تفاصيل أول معركة شعواء بين الغنوصية والمسيحية القويمة، كما أصبحت الأناجيل التي تصنفها الكنيسة علي أنها أناجيل منحولة ظنت أنها نجحت في إخفائها إلي الأبد تباع الآن علي الأرصفة في كل مكان، ألا إن الكنيسة لم تجد ذرة من الرحمة في قلب العم “محمد السمان”!
وفي أحد صباحات العام 1887، كانت امرأة مسنة من قرية “الحاج قنديل” القريبة من “تل العمارنة” تبحث أيضًا عن السماد بين أطلال “أخيتاتون”، كعادة أهل القرية جميعًا، عندما ارتطمت أصابعها وهي تملأ وعاءها بالسماد بجسم صلب أخرجته فشهقت من فرط الدهشة، لقد أدركت علي الفور أنها عثرت علي كنز عليها أن تبحث علي الفور عن تاجر يشتريه، كانت قد عثرت علي قوالب من الطوب المحروق عليها نقوش، الطريف، أن تاجرًا مدلسًا اشتري من المسكينة كنزها بعشرين قرشًا فقط!
عندما شاع الخبر في قرية “الحاج قنديل” أصيب أهلها بما يشبه الجنون، وانتشرت بينهم حمي البحث عن قوالب الطوب، ووجدوا الكثير منها، بل وجدوا جدارًا من طوب أصفر وأحمر وأسود رصت بطريقة منظمة فى صفوف، حملوها على حميرهم وعادوا إلى القرية، ولم تمض على ذلك أيام حتى كانت هذه القوالب بين أيدى التجار فى “أخميم” و “ألاقصر” و “القاهرة”، كانت المرأة بكل بساطة، ومن بعدها أهل قريتها، قد اكتشفت رسائل “تل العمارنة”، وهي مراسلات دبلوماسية مكتوبة بالخط المسماري من حكام كثر إلي “إخناتون”، تلك الرسائل تمثل أول شكل للعلاقات الدبلوماسية في العالم!
وكما كانت أول دعوة للتوحيد في العالم، وأول سرقة أدبية في العالم، وأول شكل للعلاقات الدبلوماسية في العالم من نصيب “أخيتاتون” ، ذهب الكثيرون من علماء المصريات إلي أن أول اغتيال سياسي في العالم كان من نصيب الفرعون الشاب “توت عنخ آمون” ابن “إخناتون” كما أكدت اختبارات الحامض النووي، ولعلَّ العثور علي آثار صريحة لعدة كسور فى عظام فخذه وجمجمته، بالإضافة إلي زواج وزيره بأرملته الطفلة بعد وفاته وتنصيب نفسه فرعونًا، يجعلنا غير محتاجين أن نتوغل في التنقيب عن الذي وقف خلف ظلال نهايته المريبة!
الغريب أن “توت عنخ آمون” أشهر الفراعنة علي الإطلاق لم يسجل التاريخ له إنجازًا واحدًا يوازي شهرته أو يؤكدها، كان السبب الوحيد لذيوع صيته، في واحدة من وثبات الصدفة الحيوية، هو، فقط، وصول عالم الآثار “هوارد كارتر” إلي مقبرته وكل كنوزه ليضعه في قلب الديمومة قبل وصول لصوص المقابر إليها، لقد وجدها سليمة لم يُلحقِ الزمن بأي من محتوياتها التلف، بدت للوهلة الأولي كأنما أغلقها عمال المقابر قبل قليل وانصرفوا إلي مراقدهم في الأبدية، هذا تمامًا ما ذكره “كارتر”، وهذا غريبٌ، لماذا؟
مما لا شك فيه أن تلك القوة التي تصدي بها “إخناتون” لإرث آمون المقدس وجرأته عليه وعلي كسر ما اعتبره غيره قانونًا طبيعيًا للحياة، وذلك الجموح في معركته العصبية التي خاضها ضد الكهنة، أيقظ في صدور الكثيرين من العوام شدوًا مريبًا؛ كما ألهمهم إمكانية ميلاد عالم جديد بقوانين أخري، ألهمهم؛ أيضًا، الحاجة الملحة إلي ميلاد هذا العالم، هؤلاء العوام؛ بدورهم، تحت ضغط تلك المشاعر الجديدة التي تتحرك في أعماقهم، استهانوا بتراث آبائهم؛ وبكل شئ، وهم، وهذا هو الأهم؛ أحسوا أنهم يستحقون واقعًا أفضل من ذلك الواقع الذي بذَّرَ آباؤهم فيه أعمارَهم متوارين في الظلال الكبيرة لحزمة من اللصوص والكهنة الفاسدين يسرقون مقدراتهم وحرياتهم بإسم “آمون” وقوانينه؛ وهم، أيضًا؛ عقب موت “إخناتون”، عندما أدركوا استحالة ميلاد عالمه الأبيض مع صلابة العضلة الأمنية للدولة قرروا أن يسرقوا حياة اللصوص الآخرة؛ لم تردعهم التعاويذ السحرية علي مقابر السادة ولا تهديدات الكهنة، لم يردعهم شئ عن انتهاك حرمة كل مقبرة وأي مقبرة تطالها أيديهم وسرقة محتوياتها وبيعها لمن يجود بأي ثمن، أي ثمن!
كانوا، لأول مرة، قد لمسوا فعلاً القانون العميق للحياة!
مقبرة “توت عنخ آمون”؛ فقط، حتي يجد جديد، هي المقبرة الوحيدة التي هربت من نقمة العوام، ولهذا سبب!
لموته المفاجئ، وغير المتوقع، ربما، يبدو أن قرارًا صدر بحفر مقبرة “توت عنخ آمون” علي عجل، كما يبدو أن الاختيار وقع علي مكانها ارتجالًا لم يكن بناءًا علي أفكار مسبقة، علي الرغم من ذلك، يبدو أن حزمة من البنائين والفنانين المشتعلين بروح الثورة التي بثها أبوه في الصدور بددوا في بنائها الكثير من إبداعهم وإخلاصهم، عندما فرغوا من بنائها وتلوينها ونقشها واكتملت طقوس التحنيط والجنازة وأغلقوا علي الفرعون أبوابها، حدث، بالصدفة، أن مقبرة أخري لإمرأة من الأسرة الحاكمة كان يتم تشييدها إلي جوار مقبرة “توت عنخ آمون” فألقي العمال تراب الحفر علي الباب المفضي إلي مقبرة “توت”، ذلك التراب كان درعًا إضافيَّاً عن غير عمد حمي “توت” من غارات العوام، وهذا كل شئ!
بصرف النظر عن أهمية المآلات في الحكم علي الناس، كان “إخناتون”، قائد أول الثورات البيضاء في تاريخ الإنسانية، واحدًا من أصحاب العقول الممتازة بعرض التاريخ الإنسانيِّ وعلي طول التحفظ الصحيِّ؛ مع ذلك، كان، أيضًا، وبنفس القدر، واحدًا من السلبيين العظام، فهو، علي الرغم من استيعابه التام الدوائر لما يمتلكه كهنة “آمون” من أدوات القوة ولما لصلابة مفاصل دولة “آمون” من عمق غائر، لم يحاول أبدًا أن يغضب، وأن يمطرَ في أوجاعهم العائلية بقوة السلاح، كان كل ما فعله فقط، ومتأخرًا جدًا، عندما أفرطوا في رجمه بالمكيدة تلو المكيدة فأوجعوه فعلاً، هو أن قام بهدم صنم “آمون” وتمزيق صوره في كل مكان، وما من شك في أن وجود الفن القديم ونجاته من الدمار حتي ذلك الوقت كان من العوائق التي واجهتها الروح الثورية في تسللها من نفس إلي نفس!
كان “إخناتون” خطأ نفسه وارتكاب ذاته، ذلك أنه عندما احتدم الصراع وبلغ ذروة النقطة ارتكب أكبر حماقاته علي الإطلاق وقرر في العام السادس من حكمه الرحيل عن العاصمة التاريخية “طيبة”!
وفيما بدا أنه كان قد اتخذ ذلك القرار قبل تنفيذه بوقت طويل لم يفكر طويلاً قبل أن يقع اختياره علي “أخيتاتون”، “تل العمارنة” الحالية عاصمة بديلة لدولته؛ تلك اللحظة، كان منحني ثورته قد بدأ في الانهيار تدريجياً، وحتي النهاية!
إن المرء الآن ليعجب كيف لامرئ في رجاحة عقل “إخناتون” أدرك القانون العميق للحياة لم يفطن إلي أنه كان يخوض معركة حقيقية، ومفتوحة علي مصراعيها لكل الأساليب، ومن كل جانب، وبلا قوانين تحكم الطرف الآخر الذي يعتبر كل من يحاول الاقتراب مما يظنه ملكًا له ولعائلته من بعده هدفًا مشروعًا للقتل والتنكيل، كيف؟!
أعتقد أن وجه التاريخ المصري كان سوف يكون أجملَ ملامحًا وأكثرَ وسامةً لو أن “إخناتون” التقي في ذلك الوقت “فريدريك نيتشه”، أو، قرأ كتابه “هكذا تكلم زرادشت”، أو هذه الجملة من “هكذا تكلم زرادشت” علي الأقل:
“بعض الناس لا يحقُّ لك أن تمدَّ يدك إليهم؛ بل كفَّ الوحش؛ وأريد أن تكون لكفك مخالبُ أيضًا”
نعم؛ متي أردت العصف بفكرةٍ ما لا يلزمك سوي أن تقدِّسها، لكن، يجب عليك أن تفعل الكثير لضخ نقاط الدم في وجه فكرة شحب لونها، لا أقل من ترميم جراحها المشرعة للرجم حتي لا يجد الطاعنون موطئًا للدخول بأحذيتهم إلي قلبها؛ ولا أقل من أن يكون لك درعًا يحميها لوقت الحاجة، فالعالم كريه كوجه بلادي الكريه؛ ولا يحترم إلا الأقوياء!
لقد نجحت الثورة المضادة، أول ثورة مضادة في التاريخ؛ بعد أن نجح الكهنة في تصميم سيناريو الدولة الفاشلة للنيل من “إخناتون” وتأليب القلوب عليه، لا جديد تحت شمس مصر، لكن المفارقة المثيرة أن حدثًا إقليمياً هو الذي لعب الدور الجذريَّ في إنزال الهزيمة بمشروع “إخناتون” وجعله طللاً مفتوحًا علي مصراعيه لآخر غارات الكهنة، لقد انهارت المملكة الآسيوية علي يد الحيثيين، وبطبيعة الحال؛ راجت تعليقًا علي ذلك الحدث تجارة الكهنة في كل عصر، لقد بعثروا الشائعات في كل مكان بأن سقوط المملكة الآسيوية هو انتقام “آمون”؛ حيلة بسيطة ومستهلكة، لكنها تنجح، لا تلمسوا شيئاً!
إذًا، لقد انتصرت الآمونية، وعاد القطيع من تلقائه إلي حظيرته الأولي، لكن “إخناتون”، قام بآخر تجلياته العظيمة وأنزل بالكهنة آخر لطماته الموجعة ليثبت فعلاً أنه كان داهية بطقس بسيط، لقد مات!
انتقامًا منه، نشط الكهنة في العمل علي طمس اسمه تمامًا من كل السجلات الملكية المكتوبة أو المنقوشة حتي أنَّ ذلك أحدث التباسًا لدي علماء المصريات ظل قائمًا لعقود حول وجوده من عدمه، كما نشطوا في تأليب العوام والهمج علي عاصمته فخربوها واعتبروها تلالاً ملعونة ظلت أطلالاً مهجورة حتي مجئ الرومان وحتي استوطنتها بعد رحيل الرومان قبيلة “بني عمران” ومن هؤلاء اكتسبت اسمها الذي الآن تحمله “تل العمارنة”!
ولأنه لا شئ يولد من تلقائه، ولأن الفراغ لا ينحسر إلا عن فراغ، ذهب الكهنة إلي هوامش قذرة في ذاكرة التاريخ، وبقي “إخناتون” في القلب، عظيمًا ونقيًا وجميلاً كحلمه العظيم النقي الجميل، وبقيت الفكرة حية ودافقة وبيضاء تلهم الكثيرين، هذا جعله سرًا مغلقًا وشخصية غامضة ومنفتحة علي الكثير من التأويلات، هذه بعضها:
ذهب البعض إلي أن النبي “إبراهيم” لم يأت من مدينة “أور” فى شمال العراق إنما من “تل العمارنة”، وأنه هو هو “إخناتون”!
وأكد آخرون أن النبي “موسي” ما هو إلا الإسم العبري لـ “إخناتون”!
العالم الكبير “سيجموند فرويد” كان أقل تهورًا من هؤلاء، فهو فقط يرد الريادة في فكرة وحدانية الله إلي”إخناتون”، لكنه، يري أن “موسي” قد اطلع علي أفكاره وفلسفته وآمن بها!
كل هذا الاستربتيز اللفظي لا أساس له من الصحة، وأياً كان الأمر؛ كانت تلك الأحداث هي أول انقلاب علي ثورة نظيفة في تاريخ مصر، كما كان انقلاب 30 يونيو علي ثورة يناير العظيمة هو الانقلاب الثاني علي ثورة عظيمة في تاريخها، وهذا طبيعي، فلم تحدث في مصر أبدًا ثورات حقيقة، حتي ثورة سنة 1919، أضخم انفعال جماعي استجاب له شرائح واسعة من المصريين وتزاحموا حوله لم تكن أبدًا ثورة بالمعني الذي يتحد بتعريف الثورة، يمكن أن نسميها مطالب فئوية، أو رغبة في بعض الإصلاحات والامتيازات وهذا كل شئ!
في السياق نفسه، كان انفعال المصريين الأقل بقيادة “مصطفي كامل” عقب حادثة “دنشواي” الشهيرة مطلبًا فئويًا باستبدال اللورد “كرومر” بمعتمد بريطاني آخر ليس أكثر!
فقط، ثورة يناير 2011 هي الأقرب شبهًا بثورة “إخناتون”، و “ميدان التحرير”، عاصمة الثورة، هو الأقرب شبهًا بـ “أخيتاتون”، وهي تعني: أفق إله الشمس!
مصرُ عادت شمسُك الذهبُ!
وكما نجح انقلاب الكهنة نجح انقلاب يونيو، وكما حاول الكهنة بكل ما في وسعهم تشويه الصورة الذهنية لـ “إخناتون” في أذهان العوام، استنفر النظام المصري كل أدواته لتشويه كل ما أو من يمت إلي “ميدان التحرير”، ويواصل، والغيوم كثيرة وحبلي بالأسود، ومفاصل النظام القديم تزداد صلابة كل صباح، والظرف العالمي ينحاز إلي جانبه، لا أحب الثعالب، لذلك سوف لا أستسلم لحذر الحكاية، وسأقول مباشرة أن ما أعرفه وما يغرد لي به البوم صباح مساء أن أدوات المعركة بشكلها الذي الآن نعرفه لا يمكن أن تسفر إلا عن المزيد من الخسائر المجانية، وأن المعركة لابد أن تتخذ شكلاً آخر وأبعادًا حادة أخري تناسب معركة صفرية، إما الدوران في هامش السيد وإما الحرية بكل تجلياتها وصورها، إما الشعب وإما العسكر، خاصة أن الصراع لم يعد مجرد صراع علي أحلام مسروقة إنما لون من ألوان الدفاع عن النفس!
لابد من جرح عريض يتناسل في دمه الجميع، لابد من إحداث فجوات تسمح بمرور كل الموتورين إلي قلب الدولة العميقة مباشرة، صفع النظام في الأطراف يزيده لياقة وقوة، كما لابد، بنفس القدر، أن نصدق، قبل كل شئ، أن النظام المصري لا يقاتل منفردًا، إنما (الوطن) العربي من الماء إلي الماء في خندقه، ولديهم أسبابهم التي نتفهمها، لون آخر من ألوان الدفاع عن النفس، بل في خندقه العالم، بل الكون من القطب إلي القطب تكريمًا لأمن “إسرائيل”، لكن، كل هذا المدد سوف لا يتبخر إلا بعد ياردتين أو أقل من الإحساس بالخطر وبسيولة المشهد، فلا أعتقد أن فأرًا بقي علي ظهر “تيتانيك” لدقائق من بداية الغرق، هذه بديهية لا تحتاج إلي الوقائعية للحكم علي صحتها!
في النهاية، أسألكم أن ترددوا معي تعويذة كاهنة “إخناتون”، وهي مسك الختام، وإنَّ المسكَ بعضُ دم الغزال:
(انهض من سُباتك يا أوزوريس، فنظرةٌ من عينيك تقضي على أعدائك الذين انتهكوا حرمتك المقدسة)
محمد رفعت الدومي