أحوال الأقليات في تركيا بعد سنة 1918

ataturkبقلم:عضيد جواد الخميسي

حين انتهت الحرب العالمية الأولى سنة 1918 كانت الأوضاع الداخلية في ما يسمى ” بالإمبراطورية العثمانية ” مضطربة جدّاً . كان ” كلّ إنسان يفكّر في نفسه ” ، وصرّحت مجلّة “التايمز اللندنية ” أن أخطر مشكلة واجهتها البلاد نجمت عن وجود مئات الألوف من قطّاع الطرق ، بعضهم منظّمون سياسياً ، وبعضهم الآخر من العصابات غير المنظمة ومن اللصوص والهاربين من الخدمة الإلزامية .

كانت استنبول مدينة محتلّة وكان السلطان فيها مقيّد الصلاحيات . لقد كرّست المفاوضات التي أجرتها حكومة السلطان ووقّعت عليها في معاهدة “سيفر” حقّ القوى الغربية في التدخّل في قضايا تركيا الداخلية ومقاطعاتها السابقة . واستخدم الغربيون الكثير من الأقلّيات في الإمبراطورية العثمانية كذريعة للتدخل السياسي ، ففي نهاية الحرب العالمية الأولى استخدم الغرب الأرمن والأكراد والموارنة واليهود والآشوريين ، تمـاماً كما استغلّ العرب في بدايتها . لقد أدّت معاهدة “سيفر” إلى بعث الآمال القومية عند الأقليات والمطالبة بها ، ما أدّى إلى توتّر في العلاقات بين الأقلية والأكثرية ، وإلى عداء ما زال الشرق الأوسط يعاني منه .

فكرة أرمينيا مستقلّة ، وخطّة حكم ذاتي للأكراد في المناطق التي هم الأغلبية فيها ( تؤدي فيما بعد إلى الاستقلال إذا شاء الاكراد ) ، وقيام وطن قومي لليهود في فلسطين ، وسيطرة الموارنة على لبنان الكبير ، وامتيازات خاصّة للآشوريين في شمال العراق .

ومع انهيار روسيا القيصرية ، وجد الأرمن أنفسهم في شرقي الأناضول في ظل ظروف خطرة . وبدأ المبعدون منهم بالعودة إلى بيوتهم مباشرة بعد أن وقعّت تركيا معاهدة الهدنة . وفي أيار سنة 1918 ، انتهز القوميون الأرمن قيام الثورة الروسية من جهة وانتصار جيوش الحلفاء من جهة أخرى فأعلنوا قيام الجمهورية الأرمـنية في القوقاز . كما أن استسلام الإمبراطورية العثمانية لقوات الحلفاء بعد خمسة اشهر أدّى إلى انسحاب الجيوش العثمانية من ” ترانسكاسيا ” في نيسان 1919 ومن شمال شرقيّ إيران ، ما أدّى إلى تقلّص الأخـطار التي كانت تواجه الجمهورية الأرمنية الفتيّة . وبمساعدة القوات الملكية البريطانية بسطت الجمهورية الأرمنية سيطرتها الكاملة في ولاية كارس كلّها . وكان قد سُمح لأكثر من 50 الف لاجىء أرمني ، كانـوا قد تركوا هذه الولاية حين تخلّى االروس عنها ، بالعودة إليها ، ولكن ، عبّر أوامر مشدّدة لا تسمح لهم بدخول أرمينيا التركية . إلاّ أنّ مقاومة الإغراء بالتقدم نحو أرمينيا التركية كانت صعبة ، فباشر الأرمن حالاً بتوسيع نطاق حدود الجمهورية لتشمل غربا الأناضول ، مندفعين بحلم العودة مجدداً إلى فلاحة تراب فان وبدليس و أرضروم و ديار بكر وما وراءها من أراضٍ ، وما شجعهم اكثر هو اعتراف معاهدة “سيفر” رسمياً باستقلال الأرمن في تركيا الشرقية .

في الوقت الذي كان الأرمن يحاولون السيطرة على تركيا الشرقية ، كان اليونان يحلمون بتحقيق ” فكرتهم الكبرى “، إذ نزلت القوّات اليونانية مدينة إزمير تحت حماية الحلفاء وتابعت لتضمّ غربي الأناضول ، متخيّلة أنّها ستعيد بناء الإمبراطورية البيزنطية في حدودها القديمة ، بحيث تكون القسطنطينية عاصمتها وأيا صوفيا كاتدرائيتها .

أمّا صيف سنة 1920 فلقد شجّع مسيحيي الأناضول على نحوٍ اكثر إذ كانت القوّات الفرنسية قد وصلت جنوب غرب تركيا ، وتطوع الأرمن اليافعون في خدمة الجيش الفرنسي تحت إمرة قادة فرنسيين ، وصرّحت البعثات الأرمنية أنّ الطوائف المسيحية في النصف الغربي من تركيا أعلنت قيام ” دولة كيليكيا المسيحية المستقلّة ” .

وحين شعر الأتراك بالهزيمة والإهانة قاموا بردّة فعل معاكسة . فبعد انتهاء الحرب ، أدّت عودة الأرمن إلى الأراضي التركية إلى نشوء حركة تركية تبغي منعهم من الاستيطان وحراثة حقولهم ، وقالت ” التايمز ” أنّ الأتراك أرسلوا عصابات على نمط قطّاع الطرق من قِبل وجهاء محليين للقيام بذلك ، وأدّى ذلك إلى قيام حرب ” بكلّ ما يلازم الحرب من بشاعة “.

وهل كان الإنكليز هم الذين أتوا بالأرمن؟
كتبت “كيرترود بيل” تقول: إنّ العديد من الأكراد ارتاعوا من التحقيق الذي أجراه الإنكليز والأرمن حول الأعمال الشنيعة التي قاموا بها (الأكراد) ضد الأرمن في العام 1915″ .

بدأ مصطفى كمال في ربيع سنة 1919 يجمع القوّات الوطنية لينقذ تركيا ذاتها من التمزّق . إنّه ليس من الضروري الانشغال بتفاصيل السنوات القليلة التالية إلاّ في ما يتعلّق بالنصف الثاني من سنة 1920 ، حين أُزيل خطر اليونان ، واستطاعت القوّات التركية السيطرة على القسم الأكبر من الرقعة التي طالبت بها الجمهورية الأرمنية ، بما في ذلك ” كارس ” و” أرداها ن” .

نقلت الإرسالية الأميركية على جبهة كيليكيا أخبار الحرائق وإراقة الدماء ، وفي مرعش أُجبرت القوات الفرنسية التي ساعدها الأرمن ، بعد ثلاثة أسابيع من القتال ، على الانسحاب ، ووقّعت القوّات الأرمنية في أيدي الأتراك الذين كانوا آنذاك ” مشحونين بالكره الشديد نحوهم ” . وفي بداية سنة 1922 وقّعت القوّات الفرنسية معاهدة هدنة مع الأتراك حيث أعلنت فيها على انسحاب الفرنسيين من كيليكيا مقابل اعتراف حكومة مصطفى كمال بالحكم الفرنسي في سورية . أمّا الأرمن ، كمواطنين أتراك ، فلقد كان عليهم أن يسلّموا أنفسهم للسُلطة التركية ويقبلوا الضمانات التركية لحمايتهم . وسُمح للذين فضّلوا مغادرة الأناضول إلى سورية المحتلّة من قِبل فرنسا . ولقد كتب الدكتور ” جان ميريل ” رئيس كلية تركيا المركزية في عينتاب يقول ” أمّا خيبة الأرمن ” فقد فاقت تلك التي عانوها في أثناء قوافل المذابح والسوقيات ، لأنها أضافت إلى مرارة الحدث ” إدراكهم بأنّهم تعرّضوا لخيانة ” .

في سنة 1922 منح الأتراك المسيحيين كلّهم ” ترخيصاً إلى كل المسيحيين ” بمغادرة تركيا ، فألّف المسيحيون مرة أخرى أسراباً من اللاجئين ترتجف من الخوف والذعر ، واصبح السريان الأرثوذكس والكلدان المسيحيون ، بالإضافة إلى الأرمن ، ضحايا الانتقام التركي . لقد هاجرت سنة 1921 و 1922 أعداد كبيرة من هاتين الجاليتين ، عدا الأرمن ، فوضعت بذلك نهاية لوجودها الذي دام قروناً طويلة في أضنة وفي أورفه خاصّة . وكانت الأكثرية الساحقة من هذه الأعداد ضحايا عاجزة أمام القوى التي ولّدتها الأحداث المذكورة آنفاً ، وبريئة من أيّة طموحات سياسية . ثمّة كاتب سرياني يتحدث عن بعض الأفعال السيّئة التي قام بها بعض الفتية الثائرين من طائفته في عهد الاحتلال الفرنسي ، والتي أثارت استياء المسؤولين الأتراك .

وكغيرهم من الاقليات ، بعد شعورهم بالحريات الجديدة المعلنة عنها في تصريحات الرئيس الأمريكي ، طالب السريان الأرثوذكس حضور مؤتمر السلام في باريس ، وأنضم بعض قادتهم ، خاصة الذين هاجروا إلى الولايات المتحدة الأمريكية ، إلى ممثلي” المنظمة الوطنية للآشوريين في أميركا ” وما لها من مطاليب طامحة . وانضم إلى الوفد في باريس بطريرك السريان الأرثوذكس ، أغناطيوس أفرام الأول برصوم ، الذي كان آنذاك مطران سورية ، وخاب ظنّه حالاً ممّا شاهد هناك .
وفي إحدى جلسات مؤتمر السلام بدأ البطريرك يدافع عن حقوق العرب بدلاً من الدفاع عن قضيّة شعبه . وقد صفّقت له الوفود العربية الموجودة وسمّي مطران العروبة و” قسّ الزمان ” .

خارج كيليكيا ، ظلت أعداد ضخمة من الكلدان والسريان الأرثوذكس والسريان الكاثوليك في قراهما ومدنهما بعد ترحيل الأرمن ، ومع أنّهما وقفا إلى جانب الأتراك حين وُقعّت معاهدة الهدنة ، إلاّ انهما كانتا غالباً موضع انتقامهم ، لقد تعرّضت هذه الأعداد مرّة ثانية للمذابح والترحيل في ثورة الأكراد في العام 1925 ، مع أنّ ذلك جاء بعد فترة طويلة من تسوية الأتراك لخلافاتهم مع المواطنين غير المسلمين .

كان الدافع إلى الانتفاضة الكردية ، كما لاحظ كاتب كردي ، السعي إلى إيجاد دولة كردية مستقلة ، وضمانة الحقوق الوطنية للشعب الكردي . كان شعار الثورة الرئيسي ” تحقيق استقلال كردستان تحت الوصاية التركية واعادة السلطنة ثانية . ” ولكن الوطنيين الأتراك صمّموا على سحق الانتفاضة ، فإن ” لم يتلقّن الأكراد درساً ” في فترة مبكرة جداً فسوف تكون الولايات الشرقية مصدر خطر كبير على الدوام ، وهذا سيرغم الجمهورية الفتيّة على إبقاء جيوشها هناك ولن يكون سهلاً على الدولة تحمّل تكاليفها .
لقد اقتنع الجمهوريون الأتراك بأنّ الأكراد كانوا قد لقيوا دعماً من الحكومة الإنكليزية في العراق ، حيث كانت الإدارة البريطانية المنتدبة تميل إلى جانبهم . وأكثر من هذا ، لقد وجدت حكومة أنقرة في الأكراد عدواً أيديولوجياً ، منهم من يمثلون ثورة مضادّة ، أي إنّ تركيا القديمة تقاتل تركيا الجديدة . وحين احتلّ الأكراد ديار بكر وخربوط لفترة قصيرة ، نصبوا محمد سليم ، الابن الأكبر للسلطان عبد الحميد الثاني ” ملكاً على كردستان ” . وطالب المتمرّدون بإعادة القوانين الدينية والمؤسّسات التي كانت ” حكومة أنقرة الملحدة ” قد ألغتها ، كما دعوا الأتراك المسلمين لينضمّوا إليهم في حربهم المقدّسة ( الجهاد) ضدّ الجمهورية الجديدة .

ولم تمض فترة طويلة حتى انهالت قبضة حكومة أنقرة الثقيلة على الانتفاضة الكردية وقوضّتها وألقت القبض على قادتها . و في نيسان 1925 سيق الثوار إلى الجبال ، وعندها قال عصمت باشا أمام الهيئة الوطنية العليا ” إنّ الجبـال ستصبح مقبرة لهم .
وحكمت المحكمة العسكرية التركية التي انعقدت في ديار بكر بالموت على الشيخ سعيد و 47 من القادة الأكراد ونفذت الحكم في آب من العام 1925 . كتب “غاسيملو” يقول ” دُمِرت 206 قرية ، واحترق 8,758 بيتاً وقتل 15,500 شخص ” ، ونُقلت قرابة ألف عائلة كردية من وجهاء الأكراد إلى الأقسام الغربية من الأناضول .

أما السريان الأرثوذكس الذين استُثنوا في أثناء الأعمال الوحشية التي تعرّض لها الأرمن ، فلقد اصبحوا ضحايا خلال سحق التمرد الكردي ، وتعاون بعض المسيحيين السريان مع الأكراد وأعطاهم بعضهم الحماية إمّا عن خوف أو عن قناعة ، لذلك ، طوّقت الحكومة عدداً من السريان الأرثوذكس والكلدان ونفتهم من القسم التركي الذي ادّعت الحكومة الإنكليزية أنّه للعراق إلى شمال ” خطّ برسلز ” ، ونسب بعض الناس الذين قاموا بالتحقيقات الفورية عملية الإبعاد هذه إلى رغبة الحكومة العسكرية التركية في مصادرة المواشي والقمح من القرى المسيحية لتطعم قواتّها الجائعة والغاضبة .
ومن الناحية السياسية ، كانت السلطات التركية تخشى أن يكون ولاء المسيحيين للسلطات البريطانية والعراقية عبر الحدود . لقد صرّح الجنرال ” لادونر ” ، المسؤول مِن قبل عصبة الأمم عن تحري عملية الأبعاد ، ” أنّه اقتنع وبدون شكّ ” أنّ الضبّاط الأتراك قادوا أولاً عملية الاحتلال ، ثمّ فتشوا القرى بحثاً عن السلاح ، وبعد فترة قصيرة سلبوا أهاليها ونهبوا بيوتهم وعرّضوهم لأشنع أنواع التعذيب والقتل . كان الترحيل عاماً .
لقد طردوا بطريرك السريان الأرثوذكس مار أغناطيوس الياس الثالث من دير الزعفران وحوّلوا الدير إلى ثكنة تركية .
لم يغادر جميع السكان المسيحيين في الأناضول بيوتهم في أثناء وبعد الحرب العالمية الأولى ، فلقد رجع بعض الذين كانوا قد عبروا الحدود إلى سورية أو العراق إلى قراهم . وفي أثناء النزاع احتفظ سكان طور عابدين بمعاقلهم الجبلية ، وكما في الماضي ، لجأوا إلى كنائسهم وأديرتهم . وكانت قرى مثل قلث ، ومدو ، وباسبرين ، وآزخ ، وحاح من بين ما يقارب 60 قرية بقي معظم سكانها من المسيحيين حتى منتصف سنة 1970 . ويرجع تاريخ إحدى الكنائس في ” حاح ” ، ” كنيسة العذراء ” ، إلى أيّام الرسل . إنّ فسيفساءها البيزنطية الرائعة لم تُمسّ ، وقد تكون أقدم كنيسة في العالم لا تزال تستعمل حتى الآن ، لقد جاء في وصف ” جيرترد بيل ” لزينة هذه الكنيسة وزخرفتها الدقيقة : ” إنّها جوهرة طور عابدين “.

كتب طالب أمريكي ، ينتمي إلى إحدى الكنائس الشرق الأوسطية ، وقد زار طور عابدين سنة 1974 يقول : ” أنّ ما يميّز كنائس المنطقة وأديرتها عن غيرها من الآثار الباقية للمسيحيين القدامى في آسيا الصغرى هو عبارة ” لاتزال قيد الاستعمال ” . وخلال زيارته شاهد الطالب المؤمنين يجتمعون في مختلف الكنائس لصلاة . وهناك في قرية ” قلث ” شاهد كنيسة سريانية بروتستانية عدد أعضائها 20 عائلة من بقايا نشاط البعثة البروتستانتية التي كانت مزدهرة في ما مضى .

كانت جميع الطوائف المسيحية في النصف الشرقي من الأناضول موجودة في ماردين بعد اضطراب سنة 1914 – 1918 الذي ساد ذلك القسم من تركيا . وكان السريان الأرثوذكس أهمّ الفرق المسيحية في المدينة إذ حلّوا محلّ الأرمن . وكانت ” رعية كبيرة ” للسريان الأرثوذكس ، في الريف المجاور في الستينيات من القرن الماضي ، ولبعضهم كنائسه الخاصّة وقسسه .

يبدو للوهلة الأولى ، أنّ الأوضاع قد عادت إلى وضعها الطبيعي الذي كان سائداً في ما قبل الحرب العالمية الأولى . كانت إرسالية تركيا الشرقية التابعة للهيئة الأمريكية قد فتحت مدارسها في ماردين في أواخر سنة 1924 . كما صرّح المرسلون الأمريكان في أثناء القلاقل الكردية ، في أواخر العشرينيات وبداية الثلاثينيات ، أنّ المسؤولين الأتراك في المدينة كانوا ودودين كثيراً وقدّموا مراكز للإرسالية لها حراسة خاصّة .

ومع أنّ ماردين بقيت ، خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية ، مدينة تتكلّم اللغة العربية إلاّ أنّ جميع سكّانها كانوا يتكلّمون اللغة التركية أيضاً . كما أنّ قسماً من الخدمات الدينية التي ما زالت في العربية عند السريان الأرثوذكس كالقدّاس وقراءة الأناجيل كان قد تمّ نقله خلال الستينيات إلى اللغة التركية . حتى ذلك الحين ، كانت جميع الكتب الخاصّة بالطقوس الدينية مكتوبة إمّا باللغة السريانية أو العربية . وكان للمدينة مطران مسؤول عن جميع السريان الأرثوذكس المسيحيين في تركيا حتى وفاته في أواخر الستينيات . وأصبحت ماردين بعد ذلك تابعة لسُلطة مطرانية منطقة الجزيرة في سورية .

أمّا خارج نطاق مناطق طور عابدين وماردين فكانت إستنبول وضواحيها مركزاً لتجمّع السريان وفي إستنبول ، سنة 1963 ، بنت الطائفة المؤلّفة من قرابة سبعة آلاف نسمة مجمّعاً يضمّ مدرسة وكنيسة وأطلقت عليه اسم ” كنيسة الوالدة مريم للسريان القدامى “.

وجد اللاجئون من الأناضول بيوتاً جديدة وقرى في سورية ولبنان والعراق ، حيث قدّمت لهم يد المساعدة عن طريق أفراد طائفتهم الذين عاشوا مدّة طويلة في هذه الأماكن التي كانت سابقاً تابعة للعثمـانيين . كما أنّهم تلقّوا دعماً وتعاطفاً من قوّات الحلفاء الذين كانوا قد احتلّوا هذه المناطق في تلك السنوات العصيبة .
أغرت الأراضي السورية الواقعة جنوبي تركيا الأكثرية من السريان الأرثوذكس والسريان الكاثوليك ، بالإضافة إلى عدد كبير من الكلدان والأرمن والأكراد وبعض اليهود . لقد وجدوا فيها ملجأ هناك ، وذلك بفضل الاحتلال الفرنسي الذي وفّر لهم الأمن .
لقد جاء الناس المتضرّرون من أحداث بداية العشرينات في مقاطعات كيليكيا وكردستان التركية والذين أتوا ليستقرّوا في حلب وحماة وحمص ودمشق ، ولكنّ غالبيتهم وجدت بيوتاً وقرى في الجزيرة السورية ” أرض لا أحد ” أو ” أرض بلا شعب “التي لم يكن فيها قبل 1927 شعب مستقرّ ، عدا 45 قرية كردية .

ونتيجة الثورة الكردية في منتصـف العام 1920 وفي الـعام 1930 في تركيا ، كما ذكرنا سابقاً ، نزح ما يقارب 20 الف كردي إلى شمال الجزيرة على الحدود السورية – التركية حيث سكنوا هناك ، وجلب أغلبهم أغنامهم ومواشيهم واستقرّوا كفلاّحين إمّا في قراهم أو في أراضٍ يملكها أكراد . لذا ، ازداد عدد سكّان الجزيرة خلال السنوات 1919 – 1939 ، وأدّى ذلك إلى ارتفاع عدد القـرى والمستوطنـات إلى ما يقارب 700 مستوطنة . وفي سنة 1935 وحدها نشأت 150 قـرية في المنطقة ، استقرّت في بعضها آخر موجة من العشائر الآشورية المهاجرة من العراق إثر اصطدامها بالحكومة العراقية .

أما المهاجرون السابقين ، الذين تكوّنوا من سكّان كانوا قد فرّوا حديثاً من الحرب والمجاعة ، فقد خافوا من احتمالات هجرة جماعية أخرى بعد خروج الفرنسيين ، وكان هذا الاحتمال قد بدا قريباً وذلك في منتصف سنة 1930 حين أراد الفرنسيون في سورية ولبنان ، والإنكليز في العراق ومصر ، إيجاد نهاية لعلاقاتهم الخاصّة بهذه الدول . خشيت الطوائف المسيحية بأسرها في الشرق الأوسط ، ربّما بإستثناء اليونان الأرثوذكس العرب وأقباط مصر ، من أن يتسلّم الحكم من القوى الأوروبية نظام عربي مسلم لا تجربةَ له ، فطالبوا بمنح ولاية الجزيرة إذا خرج الفرنسيون من سورية بعض الحكم الذاتي المحلي ، مع شرعيّة خاصّة كتلك التي في ولاية إسكندرون . لقد اتّحد كما كتب “جان هوب سيمبسون” السكّان بأجمعهم من مسيحيين وعرب وأكراد “المطالبة بحكومة محليّة”

سيطر القلق في الجزيرة ، وكذلك في جبل الدروز ومناطق العلويين ، لمّا تمّ توقيع المعاهدة الفرنسية – السورية سنة 1936 . ونصّت المعاهدة على استبدال المسؤولين الفرنسيين بآخرين سوريين . أمّا مطاليب الأكراد والمسيحيين في حدودها الدنيا فكانت تنصّ على تعيين إداريين من سكّان الجزيرة ، ولكنّ الحكومة المركزية رفضت هذا الشرط وأصرّت على أنّ الجزيرة جزء متكامل من سورية . كما برهن المسؤولون في دمشق ، لسوء الحظ ، مرّات عديدة على عدم اهتمامهم بمخاوف السكان المحليين وهواجسهم ، غير أنّ الحكومة المركزية كانت تُرضي جميع الأطراف ..

المصادر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المجلة الدولية لدراسات الشرق الأوسط، – العرض البريطاني في اسطنبول وتركيا ـ 1978.
فإن هوروفيتز _ الدبلوماسية في الشرق الأدنى والأوسط. _ برينستون، 1956.
ريتشارد جي _هوفاننسيان _ الاحتلال الأرميني من كارس، 1919.
اغناطيوس أفرام برصوم، بطريرك أنطاكية السورية وسائر المشرق_ كتاب اللؤلؤ المنثور، جامعة كولومبيا، 1965 .
“الأكراد والمسألة الكردية”، مجلة الجمعية الملكية لآسيا الوسطى 1948.

About عضيد جواد الخميسي

كاتب عراقي
This entry was posted in فكر حر. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.