أحمد جبريل الذي يقال إنّه فرّ إلى طرطوس، وربّما إلى مكان آخر في سوريّة، اسم لا يُنسى. يذكره، وسيذكره طويلاً، الفلسطينيّون والسوريّون واللبنانيّون لأنّه حلّ في كلّ مكان حلّت فيه النوازع الإمبراطوريّة لحكم حافظ الأسد.
هذا الرجل الذي بدأ حياته ضابطاً في الجيش السوريّ، لم يكن بعثيّاً، كما كان فلسطينيّو منظّمة الصاعقة، فلم تربطه تالياً صلة عقائديّة بالنظام الأسديّ والبعثيّ.
وهو لئن دعمه النظام السوريّ وكافأه بوضعه في الصدارة السياسيّة الفلسطينيّة، إلاّ أنّه لم يصنعه من الصفر مثلما صنع جماعة «فتح الانتفاضة» مثلاً ممّن تولّوا شقّ «فتح» ومنظّمة التحرير الفلسطينيّة. فاسم جبريل يعود إلى «جبهة التحرير الفلسطينيّة» التي أسّسها في 1965.
وهو لم يكن مجرّد قاتل مُستَأجَر ومتقلّب كما كان صبري البنّا (أبو نضال). ذاك أنّه أنشأ حدّاً أدنى من تنظيم أسماه «الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين – القيادة العامّة»، فضلاً عن أنّ بندقيّته وجبهته ظلّتا سوريّتي الهوى، من البداية حتّى النهاية. فهو قد يعمل لمصلحة معمّر القذّافي أو سواه، إلاّ أنّه يفعل هذا منفّذاً أمر مهمّة يصدر في دمشق.
وهذا الهوى هو الذي وضعه في موقع التضادّ الدائم مع ياسر عرفات، صاحب «القرار الوطنيّ الفلسطينيّ المستقلّ». وقبل ذلك حال دونه ودون البقاء في «الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين» التي جعلها جورج حبش بيت الصوفيّة الفلسطينيّة الضنينة بالسياسة والمعنى.
وهو، بالطبع، لم تستهوه الحذلقات الفكريّة لـ «الجبهة الشعبيّة الديموقراطيّة»، فلم يُضع مرّة بوصلة الطريق إلى قلب الأسد «البراغماتيّ» وقلب سلطته.
أحمد جبريل نسيج وحده. إنّه الرمز الأصيل لسياسة الاستئجار السوريّ، والسوريّ حصراً، للقضيّة الفلسطينيّة. بل هو رمز الإيمان الصلب بجدوى سياسة الاستئجار. وهذا من دون أن يكون معروفاً بأيّ هوس قوميّ عربيّ من النوع الذي عصف ببعض مجايليه المتمسّكين بأنّ فلسطين جنوب سوريّة، أو بأنّ الاثنتين أجزاء من «وطن عربيّ واحد». إنّ وعيه السياسيّ يقف عند كونه ضابط متفجّرات!
وعملاً بسياسة الاستئجار، وعقدُ الإيجار غير محدّد بمدّة زمنيّة، كان معروفاً سلفاً أين يقف جبريل في كلّ تناقض فلسطينيّ مع النظام السوريّ: ضدّ عرفات، ضدّ حبش، ضدّ أهالي مخيّم اليرموك. وبسبب وفائه البالغ والمنقطع النظير، تُرك له موقع صغير، إنّما مؤثّر، في «استراتيجيّة المقاومة اللبنانيّة» المرعيّة سوريّاً وإيرانيّاً. ومثل هذه الشراكة الصغرى مع «حزب الله» لم يحظَ بها أيّ طرف فلسطينيّ أو لبنانيّ موالٍ لسوريّة الأسديّة.
لقد قضى أحمد جبريل سنوات طويلة (عمره 75 عاماً) وهو يمارس هذا الدور. ويبدو اليوم أنّ شيخوخة الدور تتقاطع مع شيخوخته. فالخديعة انكشفت فيما المسيرة إلى فلسطين ساقت جبريل إلى أمكنة كثيرة صُبغت كلّها بالدم، لم تكن فلسطين بينها.
لكنّ الوعي السياسيّ الفلسطينيّ مطالَب بأن يطرح على نفسه السؤال الحارق: كيف، باسم فلسطين وقضيّتها، تنشأ ظاهرة كظاهرة أحمد جبريل؟ وكيف تستمرّ في موقع قياديّ عقداً بعد عقد؟
ذاك أنّ هذا السؤال قد يسمح بوضع اليد على مكمن الخديعة التي خُدع بها الفلسطينيّون جيلاً بعد جيل باسم قضيّتهم. أمّا انكشاف الخديعة فيحلّ محلّه حرق أطفالهم في مخيّم اليرموك، بينما يفرّ أحمد جبريل إلى مكان آمن. آمن حتّى الآن.
نقلاً عن صحيفة “الحياة”