أحقا شهيد.. أم يهودي يستحق القتل؟

لم يريا الحواجز العالية بينهما.. لم يشعرا بعمق الفجوة.. كل ما احسا به هو الحب الذي جمعهما.. هو مسلم من الناصرة أي عرب إسرائيل (كما يسميهم فلسطينيو الخارج والدول العربية ) ويحق له الزواج بكتابية.. وهي معلمة يهودية تركت أهلها و’طردت من عملها لزواجها من العربي.. ولم ’تبالي.. وضحت بكل شيء من أجل الحب الذي جمع بين قلبيهما..

.لم تخلو حياتهما الزوجية من المصاعب والمتاعب.وأثمر هذا الحب عن ثلاثة أطفال.. جوليانو كان الثاني ولد عام 1958.. عاش مع والدية مابين الناصرة وحيفا. وعانى جوليانا من كلا الثقافتين.. فكما يقول.. في الخارج كان يواجه ديكتاتورية الدولة اليهودية وعنصريتها.. وفي الداخل كان يواجه ديكتاتورية وإستبداد والده العربي… ومن خلال علقات والده بالحزام.. ولد في نفسه حقه في الحرية وفي التمرد وفي أن يكون ما يريد.. في الثامنه عشرة حاول تبني هويته الإسرائيلية والتحق بجيش الإحتياط.. إلى أن واجه إزدواجية الهوية التي يحملها في أعماقة.. حين طلب منه رئيسه تفتيش رجل مسن.. عرف أنه قريب له.. ورفض إطاعة الأمر..مما أدى إلى سجنه.. ليخرج منه إلى مستشفى الأمراض العقلية لفترة ’شفي بعدها من هويته الإسرائيلية.ولجأ إلى تعلم الفن.. بعدها إنطلقت هويته الأخرى و تبني هويته العربية لدرجة أنه طرأت له فكرة الإلتحاق بمنظمة التحرير الفلسطينية.. ولكنه لم يفعل.. وفي عام 1987 قرر البحث عن نفسه.. وسافر إلى الفيلبين.. وعاش على شواطئها حرا طليقا لا يحمل عبء أي هوية أو جنسية ولا يأكل إلا المشروم.. وهناك ’شفي من كلا الهويتين.. وعاد.. بعد قراراه بأن لا يكون إلا إنسانا بلا هوية لا تقف في وجهه الحدود الجغرافية و لم تعد الهوية تعني له شيئا.. وقرر إستعمال قوة الحرية التي تغلغلت في أعماقه ليعبر عن هويته الإنسانية بطريقة مبتكره جديده يبين من خلالها لكلا الطرفان العربي والإسرائيلي بأن لا سلام ولا حرية بدون أن يرى كلا الطرفان حاجتهما إلى التعايش.. وقبول حق الآخر في الحياة بناء على إنسانيته فقط.. كان يخرج إلى شواطىء نتاليا.. ويخلع ثيابه ثم يغطي جسدة بما يشبه الدم. أو زيت الزيتون ليرسم على جسده رسومات تعبر عن رفضة قمع سلطات الإحتلال الإسرائيلي للفلسطينيين.. ورفضه لإحتلال.. ثم ينقل صورة أخرى للفلسطينيين.. بأن خلاصهم من الإحتلال يجب أن يكون في نفس درجة بحثهم عن الحرية بالتخلص من من ديكتاتورية عرفات لكي يحصلوا على الحرية الحقة.

في بداية الإنتفاضة السلمية الأولى..وبعد قرار سلطات الإحتلال الإسرائيلية إغلاق مدارس جنين.. قررت والدته الإنتقال هناك.. وفتح مراكز تعليمية للأطفال حتى لا ’يحرموا من الدراسة.. أكثر من 1500 طفل تخرج من مدرستها..عديدون منهم من التحق فيما بعد بكتائب الأقصى لتحارب الإحتلال.. وبرغم أن كل ما فيها كان غير مألوف للفلسطينيين.. إلا أنهم أحبوها لأنها إستطاعت إعادة الحياة والبسمة لأطفالهم.. وحين تلقت جائزتها التقديرية لعملها الخيري من السويد.. صرفت قيمة الجائزة على بناء مسرح صغير لتعليم الأطفال فن التمثيل والرسم والإبداع كإحدى الوسائل لتوجيه طاقاتهم نحو شيء إيجابي يبعدهم عن مآسيهم اليومية تحت الإحتلال.. وطلبت منه أن يساعدها في تنفيذ فكرتها لبناء المسرح وتعليم الأطفال الفنون.. عام 1993 بدأ المسرح أعماله.. سمته مسرح الحجر. لأنه كان رمز للحجارة التي يرميها الأطفال الفسطينيون معبرين عن رفضهم للإحتلال…خلالها بدأ جوليانا بتنفيذ فكرته الفنية بإخراج فيلم عن والدته وأطفالها الفلسطينيون.. وتحت إسم آرنا وأطفالها شاهد العالم مأساة الطفل الفلسطيني تحت الإحتلال..

وحين توفت والدته آرنا عام 1995 بعد وفاة زوجها ببضعة أشهر.. لم تجد مقبرة واحدة تتقبل دفنها.. لا في جنين ولا في حيفا.. وحين قرر أن يدفنها في حديقة منزلهم في حيفا.. قبلت إحدى المقابر دفنها فيها….
عاد جوليانا إلى التمثيل.. وبنى لنفسه إسما عملاقا في تل أبيب.. مثل العديد من الأدوار الصعبه.. وإنتقل للعيش في بيت والدته في حيفا مع زوجته وأطفاله..

وحين إندلعت الإنتفاضه الثانية.. حول بيته إلى خلية تنظيميه.. بعدها إنتقل للعيش في جنين.. ومحاولة مساعدة أطفال مخيماتها من خلال المسرح الصغير.. وبرغم مشاركته حياة الفلسطينيين.. وتوطيد علاقات مع شباب تعلموا في مدارس والدته.. إلا انه بقي مشتبها به.. فهو عند الفلسطينيين إسرائيلي.. وعند الإسرائيليين هو خائن؟؟؟؟

عمل مع الفلسطينيين.. وشاركهم لقمتهم.. وبؤس عيشهم.. ومع ذلك قتلته رصاصة فلسطينية.. رفضت النظر إليه كإنسان.. بلا دين وبلا هوية.. سوى هويته الإنسانية..قتلته رصاصة ملثم لم ترى طفله جالسا بين رجليه وفر هاربا من خلال أزقة المخيم الذي ساهمت والدته اليهودية في تخفيف أحزان أبناؤه.. لم يتقدم أحد من سكان المخيم للإدلاء بإسم القاتل للسلطات..لم يركض أي منهم لمحاولة إنقاذه.. ومات على مقعد سيارته الصغيرة بينما إبنه يلعت في المقود.. نعم كرمه الرئيس أبو مازن وأطلق عليه لقب شهيد.. ولكني لا أظن بأن السلطة الفلسطينية ستعمل للبحث عن القاتل وتقديمه للعدالة.. لأن جوليانو.. وأمه الميتة.. زوجة العربي المسلم التي ضحت بكل شيء ستبقى وإبنها يهود.. كفار.. وملحدين. يرفضهما كلا المجتمعين.. ولكني بينما أنا واثقة من أن السلطات الإسرائيلية وبرغم تخليها عن كلاهما.. ستعمل من تحت الستار لمعرفة من هو القاتل.. وستقتص منه عاجلا أم آجلا إما بتقديمه علنا للمحاكمة.. وإما برصاصة طائشة من جندي إحتلال… ’قتل جوليانا فقط لأنه وجد بأن هويته الإنسانية أرقى بكثير من هويته الجغرافية.. أو الدينية أو العرقية..

قبل سنوات وحين ’سئل الرئيس بيل كلينتون عن هويته.. أجاب بأن هويته عالمية.. أي بلا حدود ولا ترتبط بأرض.. لأنها أرقى ما ستصل إليه الإنسانية.. ربما ويوما ما.. آمل أن لا يكون بعيدا وأن لا ندع الكثير من الأرواح من أجل ها الرقي الإنساني…

المصدر إيلاف

About أحلام اكرم

كاتبة فلسطينية تهتم بحقوق الانسان منظمة بصيرة للحقوق الإنسانية سعدت كثيرا حين وجدت مقالاتي منشورة على منبر المفكر الحر .. ولكن ما أود أن ألفت إنتباه المرحرر والقراء وللصدق فقط بانني وإن كنت أعتشق مصر وأكن الكثير من الحب والإحترام لمصر ولشعبها الكرام .. ولكني لا ولن أتنكر لأصولي الفلسطينية .. فأنا من أصل فلسطيني .. درست وتخرّجت من جامعة الإسكندرية .. وإن ندمت على شيء فهو عدم معرفتي أو علمي بما تحمله الإسكندرية من تاريخ عريق قرأت عنه في كتب الأستاذ يوسف زيدان .. أعيش منذ سنوات كثيره في لندن .. فيها تعلمت الحب .. والإنسانية والحياة .. ولكني لم أغلق عيني وأذني عن رؤية الجوانب السلبية أيضا في الثقافة الغربية .. وبكن تحرري وتحريري من العبودية التي شلّت تفكيري لزمن طويل .. هو الأساس الذي ثني على الكتابة علّني أستطيع هدم الحواجز بيننا كبشر .. وهي الحواجز التي إخترقتها حين إستعدت إنسانيتي وأصبحت إنسانة لا تؤمن بالحواجز المصطنعه .. وأروّج للحقوق العالمية للمرأة .. مع شكري العميق للمفكر الحر .. وتقديري للقراء ..
This entry was posted in ربيع سوريا, فكر حر. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.