ما إن انتهيت من مشاهدة كلمة سيادة المشير لأبنائه من الشباب حتى قفزت من مقعدى وعزمت النية على ان اذهب لأقرب تجمع للأطباء لأثنيهم عن عزمهم على القيام بالإضراب الجزئى. لقد نجح سيادة المشير فى أن يغير فكرتى تماما عن مصر وعن ابنائها الجاحدين الذين ينتظرون ان يأخذوا فقط بدون ان يعطوا اى شىء لأمهم الحبيبة.
سيادة المشير يقول لنا بصوته المملوء بحنية وعطف لا يخطئها الا خائن أو عميل «انت محتاج تدى اكتر ما بتاخد» وقال ان هذا ما يقوله لضباطه حتى يحثهم على العمل تجاه الشعب. ثم يضرب مثلا رائعا بأبوين فقيرين يتخرج ابنهما فيرد لهما الجميل، ويتمنى ان يعم هذا السلوك بين الجميع.
الحقيقة ان هذا مثال رائع استطيع ان اقنع به هؤلاء الأطباء الجاحدين الذين يسألون فقط «حناخد ايه من مصر» ولا احد منهم يقرر بينه وبين نفسه «حدى ايه لمصر»
أصل الطبيب الجاحد من دول ذاكر ودح ثم ذهب ليقضى تكليفه فى مناطق نائية ثم تم تعيينه كنائب بوزارة الصحة حيث يقضى ساعات غير آدمية فى المستشفى ثم يضطر ان يجرى وراء المستوصفات ومستشفيات بير السلم ليجد ما يكفى لدفع فاتورة تليفونه، ثم تنعم عليه الدولة بمرتبات طائلة كما تعرفون. فسحقا لهؤلاء الأطباء الذين يجرأون ان يطلبوا أى شىء من مصر.
اتذكر من سنة ونص كده كيف قام أطباء الإخوان باحتلال الجمعية العمومية للأطباء لإفشال المطالبة بالإضراب. يومها قام الرجال والنساء بحجز المقاعد واقاموا صلاة الجمعة على الكراسى بلا قبلة صحيحة وبلا سواتر بين الجنسين ليضمنوا التصويت ضد الإضراب. ساعتها قال الإخوان: «يجب ان يتحمل الأطباء من اجل مصر» وخرجت الفتاوى التى تحرم الاضراب. ده ايام ما كان النظام على قلب الإخوان زى العسل.
تذكر هذا المشهد اليوم لأنك فى الايام القليلة القادمة سيتم اتهام نفس الأطباء الذين وقفوا ضد الإخوان بأنهم إخوان وارهابيون.
من ثلاث سنوات نظم الإخوان حملة «شغلنى مكانه» ليساندوا المجلس العسكرى ضد الاضرابات وثورة العمال.
تذكر ذلك ايضا فحين تندلع الاضرابات فى البلاد سيقول لك الاعلام ان هؤلاء إخوان ايضا.
تراجعت عن الذهاب إلى مقر الاضراب فيبدو ان حجة «اديتوا ايه لمصر» لن تنفع مع هؤلاء الجاحدين.
رجعت لأكمل كلمة المشير الحانية الذى سأل فيها الشباب: «قبل ما تفطر انت سألت نفسك، عملت ايه للبلد دى؟»
طب والله سؤال مفحم، ويمكن ان اذهب به إلى اضرابات العمال فى المصانع والسائقين فى هيئة النقل العام، فأكيد اكيد سأجدهم فطرانين وشبعانين وان كل ما يحدث هو عبارة عن «دلع مرئ» يريدون به ان يأخذوا من مصر بدون ان يعطوا اى شئ.
كلمة المشير صاحب مقولة «أد الدنيا» يخرج على الشباب بنفس الحنية فيقول لهم ان الشباب لابد ان يفكر فى مصر قبل ان يفكر فى «حتجوز امتى وحاعيش امتى»
و كأن مصر كائن خرافى افتراضى لا يستطيع العيش الا على انقاض شباب لا يملك قوته ولا يفكر فى الزواج ولا يجرؤ حتى على تناول طعام الافطار قبل التفكير فى كيفية تقديم نفسه قربانا لهذا الكائن الخرافى.
انا افهم جيدا خطاب المشير الذى يشجع الشباب الا يكون انانيا وان يعلى قيمة الايثار وان يفكر فى ان ما يفعله ينعكس على البلد. كل ذلك جميل جدا. ولكننى اتساءل: إلى من يوجه المشير كلامه؟ هل يوجه المشير كلامه لشباب لا يستطيع الزواج ام يوجهه للعمال المطحونين والعواطلية الذين لا يملكون ترف تناول طعام الافطار قبل التفكير فى مصر؟
يتساءل المشير: «هل فكر واحد مننا ان يذهب مشيا إلى جامعته أو شغله حتى يوفر على البلد؟»
والحقيقة ان هذا حل عبقرى لخفض نسبة التلوث المرعبة فى القاهرة. ولكن عمليا هل يعرف المشير ان هناك من يسكن فى البدرشين وقليوب وبشتيل ويعمل أو يدرس فى وسط القاهرة؟ هل اذا استجاب الشعب لهذا المنطق النبيل هل سيقوم به الوزراء وضباط الجيش واللواءات، فنستغنى كلنا عن السيارات والمواصلات العامة؟ ام اننا سنعتمد على الفقراء ليقوموا بممارسة الرياضة اليومية بالنيابة عننا بعد ان يتنازل عن افطاره لأنه حاسس بعقدة ذنب لأنه لم يفعل شيئا لمصر؟
حديث التقشف ليس جديدا علينا، قبله كان مبارك «يسم بدنا» بمقولاته الشهيرة مثل: «اجيبلكم منين» ليأتى المشير السيسى ليقول لنا: «تأمين صحى؟ طب منين؟»، «شغل؟ طب ازاى». لذلك فيجب فعلا ان نظلم جيلا أو جيلين «على حد قوله» حتى يستمر الاخرون، ولكننا لا نعرف من هم الاخرون؟ هل هم ما تبقى من الشعب بعد ظلم تلاتين سنة جايين؟ (جيلين يعنى) ام الذى سوف يستمر هم من حول السلطة الذين يخربون ميزانية الدولة من مرتبات وعمولات وبدلات ضخمة ثم نيجى على العامل والطبيب ونقول له «مافيش؟»
هل البرنامج الاقتصادى للفريق السيسى يتمحور حول «استحملوا؟» «شدوا الحزام؟» «تقشفوا؟»
لو كان هذا هو برنامجه فيجب ان يتوجه به للمؤسسات الحكومية وليس الشباب أو المواطنين الذين اذا تقشفوا هم ايضا فبذلك انت تقضى على القوة الشرائية فى البلد وتقودها إلى الكساد.
ففى سنوات الكساد العظيم ايام الثلاثينيات بدلا من ان تشد امريكا الحزام وتطالب مواطنيها ان يجوعوا اكثر مما هم جعانين، قام روكفلر واباء الصناعة الامريكية بضخ كميات اموال ضخمة مستغلين تسهيلات الدولة للقيام بأكبر حركة إعمار فى امريكا الشمالية.
فالكساد والتضخم لا يتم علاجهما بمزيد من ربط الحزام، ولكن يتم علاجهما بتشجيع المواطنين والمستثمرين بتدوير اموالهم فى السوق. اما التقشف فيتم تطبيقه على الانفاق الحكومى الذى يتجاوز بمراحل قرار منع المياه المعدنية فى مجلس الوزراء.
قبل ان يتوجه الينا المشير السيسى بقوله لنا «اديتم ايه لمصر» ربما كان من الافضل ان يطرح هذا السؤال على المؤسسات الاقتصادية للجيش التى تسيطر على نسبة ضخمة من اقتصاد البلد بدون مساءلة حقيقية وبدون تعاملات ضريبية تأخذ به مصر حقها من هؤلاء الذين اخذوا ما يريدون فعلا.
التقشف «وخلاص» ليس حلا. وسياسة «شد الحزام» لا تبنى اقتصاد امم. بل يبنيها مناخ صحى للاستثمار وخلق الوظائف وضرائب عادلة على الكل (اكرر على الكل) وبيئة مناسبة لجذب رؤوس الاموال تتضمن المكاشفة والشفافية حتى لمؤسسات الجيش الاقتصادية. اما مسميات مثل «خفض الانفاق» و«التوفير» فهو يسرى فقط على مؤسسات المال العام، واذا اردت ان تلغى الدعم فامنعه عن القادرين والاغنياء والمصانع التى تحاسب على الكهرباء مثل حساب الفقير. نحن نحتاج لكل ذلك قبل ان نفكر فى مطالبة العاملين بالخارج بمرتب شهر أو لأن نسعى لفرض جباية عليهم سواء بالعافية عن طريق ضريبة أو بالكلام الحنين.
فأبناء مصر بالخارج سيدى المشير حاولوا باستماتة قبل ذلك ان يضيفوا للبلد من مشروعات تعليمية وتنموية والكثير منهم رجع لبلاد برة بسبب الفساد مرة وبسبب البيروقراطية مرة وبسبب تعنت سياسى مرات، فالاعلام سيدى المشير جعل كل من يحمل جنسية اخرى أو حتى عاش خارج مصر خائنا وعميلا حتى يثبت العكس.
الغريب ان الاعلام الذى صفق لعبارة «أد الدنيا» يتمايل رأسه بإعجاب وهو يستمع إلى دعاوى شد الحزام و«نستحمل» وظروف مصر الصعبة. فنفس هذا الاعلام كان يسخر من مرسى وهشام قنديل ورفاقهما حين تكلما عن الملبوسات القطنية وغلق المحال بالليل. اما الان فالاعلام نفسه هو من يطالب الشعب بأن يستيقظ خمسة الصبح ليتوجه للشغل ولكن فاتتهم مقولة المشير السيسى «الناس عايزة شغل، طب منين؟»
الشعب ليس عالة على الوطن، بل هو طاقة بشرية يجب استثمارها.
مصر يا سادة ليست كيانا منفصلا عننا يحتاج ان يقتات علينا فنموت حتى يحيا هذا الكيان. مصر هى الشباب اللى عايز يتجوز ويعيش والعامل اللى عايز مرتب آدمى والطبيب اللى عايز عيشة كريمة ليخدم مرضى مصر الذين يستحقون رعاية صحية محترمة.
مصر هى «إحنا»، مصر ليست مؤسسات الدولة التى يتم حمايتها من المكاشفة والمحاسبة والتدقيق الضريبى تحت دعوى السرية والامن القومى، فى حين يتقشف البسطاء فيمشون إلى الجامعة والعمل (ان وجد) ولا يفكرون متى سيتزوجون وكيف سيعيشون.
هل هذا هو البرنامج الاقتصادى الذى ينتظر البلد؟ المزيد من: «اصبروا»، «اجيبلكم منين؟» «ماهو اصل انتم كتير وعمالين تزيدوا»
ربما ينجح، مين عارف. فلنسأل المواطن عن آثار هذا البرنامج بعد كام سنة، وانا متأكد من انه سيجيب عليك بسعادة بالغة وهو يفكر فى البلد قبل تناول طعام افطاره غير موجود وسيبتسم لك فى رضا وهو يشد الحزام على ما تبقى من هيكله العظمى.
*نقلاً عن “الشروق” المصرية.