ناديا خلوف : كلنا شركاء
اكتشفتَ وجود الشّبيحة خلال تواجدك في “سجون سورية الأسد”لمدة ثلاثة عشر عاماً، كانوا ينكلون بالسّجناء رغم أنهم في الخدمة الالزامية، وقلت:” تخيل نفسك أن هذا الوحش كبّلك ومضى يضربك إلى أن يشبع ويشفي غليله. هذا السجان مجرد مجند إجبا ري. أي مجند غير متطوع. عسكري يقوم بالخدمة الإلزامية عمره لايتجاوز الثامنة عشر من العمر أو في أقصى الحدود عشرون. أتساءل:
لماذا سكنت هذه العدوانية المنفلتة من عقالها.. الخالية من أي مبرر في قلب شاب صغير. يتمنى أن يجلد إنساناً محجوز الحرية لا يعرفه ولم يسبق أن رآه؟
أعطيتَ هذا التّعريف للشبيح قبل ّالثورة السورية وهو يمثّل- حسب رأيك- العدوانية المنفلتة. هل هذه الأخلاق العدوانية بدأت تأخذ طابعاً يتجاوز السّجّان إلى الكثير من السّوريين بحيث أصبحت من ضمن القيم المجتمعية المقبولة، ومن هو الشّبيح حالياً؟
الجواب
لقد مارس نظام حافظ الاسد التعذيب الممنهج طوال مدة حكمه ووجوده في السلطة. نقول, أية سلطة غير متجذرة سياسياً واجتماعيًا في البنية الاجتماعية تلجأ إلى أقسى أنواع التعذيب لتكريس سيطرتها على المجتمع. في العام 1997 كنت في مهجع يقال له المهجع الثالث, الباحة الرابعة. كان يوجد في الباحة قالب حديدي مثل قالب الحذاء الذي يصلح عليه الأحذية. يتم تدريب المجندين الجدد على التعذيب من خلاله. هذا القالب على مقاس القدم. ويوجد أكبال, ومدربين. وشرطة. يبدأ الضرب عليه مدة شهر أو شهرين, إلى أن يتقن المجند الجديد فن التعذيب بشكل كامل. ويغرزوا في قلبه الشجاعة والقوة حتى يقتلوا كل حس إنساني في قلبه. ثم يرسلوه برفقة الأقدم منه إلى المهاجع, رويدا رويدا يبدأ بالجلد إلى أن يتحول إلى جلاد شبه محترف معدوم الضمير والحس.
في سورية التجنيد إجباري. عند الفرز يأتي قسم كبير إلى سجن تدمر العسكري مرسلا من قبل الشرطة العسكرية لخدمة العلم كمجندين إجباريين. ويجري غسل دماغ لهولاء الشبان الصغار, عبر تخويفهم من السجناء, والتشكيك بوطنيتهم, يقولون لهم عنا:
ـ إنهم خونة, ضد القائد ومسيرته الوطنية. إنهم عملاء الصهيونية واسرائيل والامبريالية العالمية. أو أنهم جواسيس أو ما شابه ذلك.
التدجين يبدأ بمرحلة مبكرة من العمر, في فترة الطفولة, عبر طلائع البعث, يزرعون في عقل الطفل الصغير حب الرئيس ومدح صفاته الشخصية والوطنية, وعندما يشب تتلقفه شبيبة البعث. كل الأفكار تتمحور حول الرئيس وقيادته الحكيمة ونبله وحكمته. “طبعًا لا يقولون لهم أن الرئيس حرامي ومجرم أو أنه دون أخلاق إنسانية أو وطنية”. وعندما يصبح مجندًا يكون الشاب قد أمتلئ بالديماغوجيا والكذب والتشوه النفسي والعقلي والإنساني.
مرات كثيرة, كنت اسمع بعض السجانين الشباب, يرجو, يتضرع للرقيب أن يدخل المهجع ويخرج أحد السجناء ويعذبه. ليس مهما سين أو عين, المهم أن يفرغ الحمولة, أو الشحن الذي خزنه في أعماقه, منذ زمن طويل في جسد السجين السياسي المقهور. وببساطة, السلطة في أي بلد تستطيع أن تعيد تشكل المجتمع وفق مقاساتها كما فعل حافظ الاسد, الذي الغى السياسة من المجتمع وحول البلد إلى صحراء قاحلة مفرغة من السياسة والانتماء إلى الوطن, والأفكار. أصبح مفهوم الوطن على مقاس التكوين النفسي والأخلاقي للرئيس وعائلته. لهذا لست بمستغرب أن يكون لهذه العائلة, عائلة الأسد, هذا العدد الكبير من الاتباع المشوهين على عدة مستويات.
من أجل بقاء السلطة خسرت سورية الكثير الكثير, تمزق المجتمع وتشرذم. الموت السريري للقوى السياسية الحية, عبر زجهم في السجون مدد طويلة تصل لعشرات السنين, مضايقة الأهالي. أشياء كثيرة لا يمكن في هذه العجالة أن أسردها جميعًا.
الشبيحة, أشباه بشر, مشوهين نفسيًا وعقليًا. ولا يمكنهم أخذ المبادرة لوحدهم. هناك موجه, دليل لهم, أباء مزيفين, الأجهزة الأمنية التي تسهر على دفع هذه القطعان إلى الشوارع دون رادع أو وازع من ضمير.
لايمكننا أن نحاكم هؤلاء البسطاء. في المحصلة أنهم ضحايا سلطة قذرة تعرف ماذا تفعل. ومدعومة. مع الأسف الشديد أنني أرى ارتياح واضح من سلطات الدول الكبرى لممارسات السلطة السورية في تصفية الناس وقتلهم وتشريدهم وتخريب البلد بمن فيه
ما زال رئيس الدولة لا يشعر بأي تأنيب لما يحدث في طول البلاد وعرضها ويعتبر نفسه أنه يحارب الإرهاب. فما عتب على ذلك الإنسان البسيط, الشبيح, المستلب, ضعيف المحاكمة العقلية, الملوث في تفكيره وعقله. ولماذا نستغرب ذلك, أليس بشار خريج مدرسة والده القاتل؟
.
2ـ رغم ذلك الشّجن الذي تعبر فيه عن حال الإنسان السوري من خلال ألمك، هناك ألم آخر، فأنت تحمل ذاكرة أخرى موروثة من آبائك، وأجدادك”الأرمن”والذين لازال بعضهم على قيد الحياة، وصور المجازر التي نفذت بحقهم ماثلة أمام أعينهم يروونها لكم. هل ما جرى في سورية من مثلاً يشبه مجازر الأرمن، والسّريان،من قبل الدّولة العثمانية ؟ وهل كان ما يجري هوتطهير للمناطق السّنية كما جرى في حمص؟
الجواب
أقسى المذابح والإبادات التي تمت عبر التاريخ كانت تحت رايات إنسانية براقة, تلبست أو ارتدت غلاف أخلاقي وقيمي لحشد الهمم ووضع الاتباع البسطاء في جوقة واحدة. كنشر الدين أو القومية أو الدفاع عن المثل العليا, الوطن, وحقوق الإنسان والتحرير والديمقراطية.
عندما يكون هناك خواء أخلاقي وإنساني وتصحر فكري وعدم القدرة على التصالح مع الواقع تلجأ السلطات إلى التصفية الجسدية وقتل الخصوم بدواعي زائفة.
خرجت الدولة العثمانية من أزمة وجودية بعد الحرب التي شنتها الدولة القيصرية في العام 1878 عليها, الذي ترتب على ذلك, خسارتها للبلقان بالكامل. وخسارة الجزء الأوروبي من السلطنة ومصر والجزائر وتونس. ومطالبة العرب والأرمن بحقوقهم السياسية والاجتماعية. ونتيجة عطالة السلطة, تكوينها الاستبدادي, وعدم قدرتها في الانفتاح على المجتمع وإقامة دولة وطنية ديمقراطية علمانية, لم يكن ولا بد من حل هذه الأزمة بمذبحة عامة.
تم تصفية مليون ونصف المليون مواطن عثماني, ينتمي إلى القومية الأرمنية بحجة تأمين الخاصرة الشرقية من الجبهة. لكن الوثائق التي نشرتها زوجة وزير الداخلية طلعت باشا تفضح ذلك. حيث أن التعميم الذي نشرته وزارة الداخلية يعطي الأوامر بتصفية الرجال والأطفال والنساء والشيوخ دون أية رحمة أو شفقة. وتم ذلك بدم بارد وأمام مرأى ومسمع العالم المتحضر والمتخلف كله. وتبين أن الادعاءت التي كانت تطلقها الولايات المتحدة واوروبا بخصوص حماية الأقليات كانت كاذبة. بل مملوءة بالكذب.
الخوف الوجودي للاتراك أدى بهم إلى قتل مواطنيهم من قومية مختلفة. ودائمًا نقول أن السلطة العاجزة لا تنتج إلا العجز ويكون البسطاء هم الضحايا سواء المحسوبين على السلطة أو معارضيها
أغلب الذين قتلوا هم ناس عاديون, لا علاقة لهم بالسياسة. فلاحين, حرفيين, عمال, تجار, اصحاب محلات. ونساء وأطفال وكبار في السن وشيوخ.
الحقيقة, لا أعرف لماذا يقتلون فلاحًا يعمل في الأرض وفي قرية معزولة عن العالم بدم بارد.
السلطة في العالم كله لا يعنيها دين أو قومية أو وطن. ما يهمها هو استمراريتها في الحكم. لهذا أرى أنه يجب علينا أن نحمل السياسة مسؤولية ما يجري.
رأيت جدي عندما كنت طفلًا. لم يكن يعرف القراءة والكتابة. واعتقد أنه لم يغادر قريته اطلاقًا, ولم ير المدينة في زمنه. يعرف الله, الصيام والصلاة. ولا اعتقد أنه سمع باسم السلطان أو الاتحاد والترقي. هرب, بعد أن رأى كيف قتلوا أولاده أمامه, وأخوة زوجته, جدتي. السؤال:
ـ هل هؤلاء كانوا يشكلون خطرًا على الدولة في تلك المرحلة. أم أن الدولة مخروقة وخربانة من الداخل ومأزومة, وكانت بحاجة إلى كبش فداء لتتكئ عليه؟
إنني أحمل الهم الإنساني العام في قلبي وعقلي. فالطفل الذي يقتل في روندا أو تركيا أو أرمينيا أو سورية هو أخي أو أبني أو زوجتي أو أختي. في المحصلة جميعهم ضحايا يقبعون كأمانة في أعناقنا, في عنق التاريخ. ويجب إعادة الاعتبار لهم. عندما كنت طفلا صغيرا كنت أجلس بالقرب من جدي وجدتي ومجموعة من العجائز في الليالي الشتائية الباردة, اسمعهم يسردون حكايتهم عن الإبادة, يبكون وينوحون. إنه البكاء ذاته الذي أراه في عيون الطفل السوري أو الأم السورية أو في روندا.
3- سجنت ثمان سنوات في عدرا،وخمس سنوات في تدمر. أيّ مرحلة من السّجن كانت أقسى؟ وكيف كنت تستطيع المحافظة على توازنك، وتفريغ شحنات الغضب التي تلم بك؟
ـ بالطبع سجن تدمر هو الأقسى
الإنسان أقوى مما تتصور, لديه قدرة عجيبة على التحمل لو ملك الإرادة. لقد اكتشفت نفسي في السجن. لم أكن أعلم أنني بهذه الصلابة والقوة. في جسد الإنسان وعقله آليات عجيبة تتفاعل معه, تحميه وتقف إلى جانبه في أشد اللحظات قسوة. لا أدري كيف تتشكل أو تبنى. في اللحظات الصعبة يستنفر الجسد والعقل ويتحولان إلى ترسانة مسلحة بالقوة والصلابة. على كل إنسان أن يجرب ويحاول أن يكتشف شخصيته. الكثير لا يعرف نفسه, يعيش ويموت ولا يدرك مصادر الضعف والقوة, الشجاعة والجبن في داخله. الازمات تكشف معدن كل واحد. الكثير يظن نفسه شجاعاً لكن بمجرد أن يصفع مرة واحدة ينهار ويقبل الأحذية, والبعض الآخر يعتقد أنه ضعيف ولكن بمجرد أن يوضع على المحك يكتشف أنه صنديد. والمسالة برمتها تعتمد على القناعة. إذا كنت تقتنع بفكرتك فأنها تمدك بأسباب القوة أو تدمرك أن كنت غير متأكد منها.
في سجن تدمر لم يكن لدينا الوقت لالتقاط أنفاسنا. الخوف الوجدوي الدائم, التعذيب اليومي الممنهج, الرقابة علينا مدة 24 ساعة. عدم السماح لنا بالنوم المستمر. كل عشرة دقائق يوقظوننا من النوم عبر الدق على السطح. أنا ورفاقي كنا متضامنين مع بعضنا, همنا مشترك أن نمرر الوقت بأقل قدر ممكن من الألم الجسدي والنفسي.
التعذيب الذي تمارسه السلطة لا تترك لك فرصة أن تشحن. يتم التفريغ عبرهم. عندما يضربوننا ننسى همنا الصغير ليندغم بالهم الأكبر, ألا وهو التعذيب. التعذيب أيضا تفريغ طاقة!
4ـ كتبت في “يوميات في السجون السورية”: “كنت بين جدران الأمل أنظر إلى ما حولي, بشراً وأشياء, كصور متنقلة أو حلم غريب الأطوار, مثبتاً بصري على الوجوه, على ابتساماتهم المرهونة للزمن, على القدر الكبير من المرارة والقهر المدفونين في حدقات أعينهم. في داخل كل واحد منهم صور لحنين وأمل بعيد. أرواح مركونة في عزلة بعيدة, غابت عنها ألوان الحياة والفرح”
كان هذا وصفاً لحالة تشبه توقّف الزّمن. هل اعتقدت ولو للحظة أنّك أخطأت بحق نفسك. لأنك دخلت السّجن، وجعلت زمنك يتوقف؟ وهل لو عاد الزمن بك إلى الماضي وأنت مدرك مرارة التّجربة. هل سيكون لك نفس الموقف؟
الجواب
يريد السجان أن يوقف الزمن, أن يحول ضحاياه إلى أشباه بشر, مومياء معزولة عن زمنها. يفرغها من علاقتها بعالمها. أن تتحول الجدران إلى كتلة صماء عازلة, ليبقى الزمن في الخارج صنمًا لا حياة فيه. ويتحول المجتمع برمته إلى حجارة صوان جامدة. السجان, الجلاد, الديكتاتور في العمق, مومياء, وثن أو صنم يعمل على تصنيم الزمن ليبقى زمنه فقط. لهذا يلجأ إلى تدمير البنية النفسية للإنسان وتحويله إلى شيء, مستلب أو مغترب, مجرد كتلة هامدة, خامدة.
لهذا لم اشعر على الاطلاق ولو للحظة واحدة أنني أخطأت. كنت مقتنعًا, ومارست تلك القناعة بكل إرادتي لأبقى إنسانًا.
رفضت العفو العام في 14 كانون الأول من العام 1991. وفي محكمة أمن الدولة العليا ثبت أقوالي, وحكموا علي 13 سنة سجن. حقرت المحكمة والقضاة. كان رأي أن نقاطع المحكمة عبر الصمت. أن أقف أمام القاضي وأدير له ظهري. لم يقبل أي إنسان من المعتقلين كلامي. اعتبروا أن هذا تصرف ينم عن ضعف. لو عاد الزمن إلى الوراء سأفعل ما تحدثت عنه حول المحكمة. وفي 22 تشري الثاني من العام 1995 رفضت أن يدرج اسمي بقائمة العفو. وبعد شهر ونصف أخذونا إلى تدمر, كسر الرؤوس الحامية كما كان يقول لنا اتباع السلطة.
في السجن, زادت معرفتي وثقافتي عبر القراءة والاحتكاك مع بقية المعتقلين. مدني بالرؤية الحقيقية للحياة وعالم السياسة وخباياها.
إن الانتقال إلى عالم إنساني آخر, أقل قسوة واكثر رحمة, لم يحن بعد. نحتاج إلى واقع موضوعي جديد, اجتماعي سياسي مختلف تمامًا عن عصرنا, سواء في بلادنا أو العالم. ما زالت السياسة تدار بالوسائل التقليدية. والزمن يأخذ طريقًا أخر.
عندما خرجت من سورية التفت إلى الوراء رأيت صورة حافظ الاسد وأبنه, قلت:
ـ الوداع يا سورية. لن أعود إليك مرة ثانية. كنت قاسيًا جدًا مع نفسي وعلى نفسي. لقد تعبت من السجن. ولا أريد أن أذل مرة ثانية. بالرغم من كل ما يملكه المرء من شجاعة, إلا أن الحقيقة, هي هي, الانكسار النفسي والروحي يقبع في الدم. ما فعلته هذه السلطة في شعبنا يحتاج إلى أجيال حتى يتعافى.
5ـ آرام كربيت كاتب، وروائي سوري، قرأتُ مقاطع من ” رحلة إلى المجهول” تحت عنوان:” من أدب السجون”. وأرى في هذه التّسمية ظلماً. أنت لست دخيلاً على الأدب كتبت عن الحياة، وعن الآخر. وأعتقد أن تسمية:” أدب الحياة “ربما أفضل. هل تعتقد أن السّجن له دور إيجابي في تطوير كتاباتك؟
الجواب
لم يخطر في بالي أن أكتب عن السجن. كنت أقول لزملائي في تدمر, لو كان بيننا روائيًا لجسد هذه التجربة كلوحة فنية عظيمة. لوحة قادمة من عالم الجحيم. هذه التجربة جديرة أن تطلق صرخة في وجه الظلم. سألوني في فرنسا, هل ارتحت عندما كتبت هذا العمل. قلت:
ـ كتبت هذا العمل من أجل الحياة. من أجل المستقبل. من أجل أطفالكم يا فرنسيين والمان واتراك وعرب وأفارقة وامريكا اللاتينية. لا أحد يضمن أن لا تنقلب السلطات على نفسها في الزمن القادم وتتحول إلى دولة استبدادية تحكم من قبل العسكر سواء في فرنسا أو السويد أو الولايات المتحدة أو غيرهم. لا غرابة تحت الشمس. السلطة كمفهوم في جوهرها استبدادية, ترتدي البرقع من خارجها لتتلون مع كل مرحلة زمنية.
لم أكن أتخيل أنني سأنجز هذا العمل. عندما عشت في الأردن بعد خروجي من السجن جلبت الكثير من الكتب وقرأت. كان لدي فراغ كبير. وكنت وحدي. كتبت عن السجن بأسلوب ركيك جدًا. مزقته ورميته. ثم كتبت مرة ثانية ورميته أيضًا. مئات الصفحات كتبت, وربما آلاف ومزقتهم, إلى حين تجرأت ونشرت أول نص في الحوار المتمدن, بعض الذكريات من منزل الموتى. ندمت وأردت سحبه. رأيت النص منشورًا. كانت صدمة لي. تابعت الكتابة إلى حين تحدث معي الصديق صبحي حديدي, الذي شجعني على الاستمرار بالكتابة إلى أن يتحول إلى كتاب. وهذا الذي حدث. قالت المترجمة الفرنسية ناتالي عن الكتاب بعد الانتهاء من الترجمة:
ـ فيه حس إنساني صافي ونقي وصادق
ورأيت الذهول في عيون الفرنسيين الذين قرأوا الكتاب أثناء ندوة لي في باريس. حيث نفذ من المكتبة التي كنت اتحدث فيها. لا أعرف إن كنت أديبًا أو لا, بيد أني أكتب عن الهم الإنساني العام, عن غربته, اغترابه, عن الوجع والألم والتشرد والقهر.
6ـ ماذا يجري في سورية الآن؟
ـالجواب
إعادة إنتاج سلطة هشة, ضعيفة لا حول لها ولا قوة, ليتحول بلدنا إلى لبنان آخر أو عراق آخر.
أنا مقتنع تمامًا أن النظام السلطوي الدولي يعمل على إعادة إنتاج سلطة أكثر خضوعًا, لنقل خنوعًا. السلطات المأجورة التي جاءت بعد هزيمة عام 1967 انتهت. استهلكت تمامًا. مفعولها انتهى. ودائما, المتروبول يريد سلطات تعمل على تسريع اندماج البلدان الصغيرة في مشروعها دون الالتفاف إلى مصائر الناس والسكان والبيئة أو التربة. أرى اللوحة متكاملة. ليس مهمًا ماذا يخرب؟ السؤال من يدفع باتجاه التخريب لخلط الحابل بالنابل؟
الثورة في أي مكان من هذا العالم هو العمل على تحسين الشروط الداخلية والخارجية لأي بلد. هو مصلحة الناس في الحياة الكريمة. لدينا في سورية هم اجتماعي وسياسي وإنساني ووطني كبير. هزيمة 1967 تركت تصدعًا في عمق الوعي الاجتماعي والإنساني, في البنية النفسية لإنساننا, وفي داخل كل واحد منا. بالإضافة إلى الهم الاجتماعي والسياسي العميق الذي يعانية إنساننا, هناك هم الحريات, التخلص من القهر, التي دفعته للخروج إلى الشوارع للتخلص من نظام, يطلق عليه, سياسي, بيد أنه خليط من قطاع طرق, رعاع, دلالي مزاد, بياعي امشاط على ناصية كراج, مجرمين على نصابين ولصوص, متوحشين, على مرضى بالبرانوية. شيء مقزز.
قلنا الثورة مصلحة اجتماعية ووطنية, وهي متفارقة مع مصالح الدول في النظام السلطوي الدولي. لا يوجد دولة في العالم تقبل أو تريد استمرار الثورة في أي مكان. كيف العمل؟ هذا السؤال هو الأهم. هناك تضامن شبه واضح من قبل النظام السلطوي الدولي على إجهاض الثورة, وتفريغها من مضمونها ومطالبها الحقيقية, عبر حرفها وتزييفها, ودفعها نحو التسلح بمالهم ورجالهم. دفع قطعان الجهاديين, وما هب ودب ليضيع الحابل بالنابل, لنصل في النهاية إلى نتيجة, يتمنى المرء أن يعود العسكر لحكم البلاد وإعادة إنتاج السلطة بحلة جديدة.
مع الأسف, بعد ثلاثين شهرًا من الصراع السياسي وغير السياسي لم نستطع أن نخرج من قوقعتنا. التصحر السياسي, العجز, العاجز لم يستطع أن يخرج من استنقاعه ويتصالح مع نفسه ويخرج من دائرة الشروط التي وضعتها الدول داخل الثورة. إننا نتأرجح في المكان, وشعبنا يدفع المزيد من الدم المجاني لخدمة أجندة خارجية, تعرف وتعلم ماذا تفعل.
7-عرّف جنيف”2″كما تراه، وبرأيك كم جنيفاً يلزم حتى يتوقف يزيق الدّم؟
لا أريد أن أعرف أي شيء. تحولت سورية إلى مزاد, بازار سياسي, للمساومات, وتفريغ الازمات التي تعصف بدول العالم.
لا يوجد أي طرف يمون على نفسه. السلطة أصبحت أسيرة من يمدها بالمال والسلاح لتستمر بالقتال. ورأي لو أن بشار الأسد أراد أن يستقيل فأنه لا يستطيع. لا تقبل روسيا أو ايران أو الولايات المتحدة. لقد أصبح أسير قصره إلى حين تنجلي الأمور. والمعارضة لا تمون على نفسها, تأخذ المال السياسي من السيد الخارجي وتعقد مؤتمراتها الفاخرة وكأنهم في مهرجانات الأوسكار لهذا فأنهم رهائن بيد من يدفع أكثر ولا علاقة لهم بالوطن وهموم الناس. قلت في مقابلة مع صحيفة اللومانيتيه, الحل أصبح خارجيًا. متى؟ هذا السؤال تفرضه المساومات والبازار السياسي الخارجي. نحن لم نعد نملك قرارنا السياسي والوطني, لا السلطة ولا المعارضة. الحل بيد الولايات المتحدة. ستفرضه عندما تقتنع وترى أن هذا المكان يجب أن يتوقف القتال فيه.
8-كيف تتوقع أن تكون سورية المستقبل؟
الجواب
ـ السؤال يحيلنا إلى سؤال آخر. تقصد سورية كأرض أم قوى سياسية, شكل السلطة, النظام السياسي القادم. بالتأكيد, لن تعود سورية القديمة كما كنا نعرف, لا بشكلها السياسي ولا بوضعها الاجتماعي. نحن مقبلين على زمن آخر. طالما أن الحل خارجي, برأي سيكون لدينا طائف سياسي جديد. سلطة قائمة على المحاصصة المذهبية والطائفية. مثل العراق. هذا الشكل الماضوي للحكم يحيلنا إلى القبائل والطوائف, إلى الزمن الماقبل مدني. هذا الشكل من الحكم مفيد لصناع القرار السياسي الدولي, أنه قليل الكلفة عليه, يتم فيه تآكل الدولة والمجتمع على المدى الطويل. اقتتال عند الحاجة. الدوران في المكان ذاته, وعدم الخروج من الشرنقة الماضوية. العقل الماضوي ليس له هم وطني أو اجتماعي. إنه كالحلزون, يبحث عن استمرارية قوقعته. أو إعادة إنتاج العسكر, بيدان ذلك يجب أن يتم تحت بنية سياسية واقتصادية وعسكرية هشة جدا وضعيفة جدًا.
9- خرجت من السّجن بوزن أربعين كيلو غراماً، بدوت كعجوز، ولم تعرفك أختك، وكانت لحظة تدعو للتأمّل. هل كان رفاقك في التنظيم يقدّرون صمودك، وإلى أي تنظيم كنت تنتمي؟
ـ نعم, خرجت بوزن أربعين كيلو غرام. ولم تعرفني أختي. في تلك الليلية جاء الكثير من الناس ليسلموا علي. أول سؤال طرحته على نفسي:
لا يمكن أن أعيش بهذه الرتابة التي يعيشها الناس. إنهم منفصلون عن عالمهم وحياتهم, يعيشون التكرار ذاته, في المأكل والمشرب والجنس والانجاب. لا يفكرون حول كيفية الخروج من القوقعة التي فرضت على البشر عبر التاريخ. جاؤوا إلى هذا العالم ورأوه كما هو واقتنعوا أنه هكذا ويجب أن يستمروا كما هو مستمر. شعرت أن الموجودين في عالم وأنا في عالم أخر. كنت مع بقية زملائي في السجن الذين بقوا من بعدي. أقول أنهم نيام الأن, على خواصرهم, الطماشات على وجوههم, لا يحق لهم أن يذهبوا إلى المرحاض أو لشرب الماء. بينما الذين موجودين معي, الزائرون, أشباه بشر لا يعنيهم أي شيء في هذا البلد إلا استمرارية التكرار الذي عاشه ابائهم وأجدادهم ويريدون أن يكرروه.
لا يعنيني من يقدر صمودي. من هو ذلك الأب الذي سيقدر صمودي؟ كما, لم يعد يعنيني وجود الأب من عدمه” الشكل الرمزي للأب” . أنا استمد قناعتي من نفسي ولا يعني من يربت على كتفي, يقول لي, يعطيك العافية. العمل السياسي تطوعي, قناعة نابعة من الذات. هو رفض لهذا العالم المعوج, رفض لقيمه وكذبه وزيفه. شيء من الألم يحرك ذاتي, يدفعني أن أفكر في مرارة الواقع وبلادته. والخروج منه وعليه للأنتقال إلى عالم أقل قسوة.
كنت انتمي إلى الحزب الشيوعي /المكتب السياسي/.