لكل شعب خرافاته. يربط الأوروبيون خرافاتهم بأشباح الموتى ونحن نربط خرافتنا بالجن ويربط الأفارقة خرافاتهم بالسحر مع تداخلات مختلفة بين الشعوب. كل شعب اخترع عالماً خفياً موازٍ للعالم الذي يعيش فيه.
في أوائل السبعينيات كنت طالباً في المرحلة الثانوية. بدأت في تلك الفترة أفقد الإيمان الساذج ولكن على المستوى النظري فقط. قررت مع بعض الأصدقاء البحث عن حقيقة تحضير الجن في حفلات الزيران دون تحيز.
في إحدى الليالي ذهبنا شلة. منصور وصالح وأنا إلى حفلة زيران كبيرة. تدافعنا وزاحمنا لنقف خلف مزيور يعرف بولد أبو سمرا. تبين لنا من ضخامة الفص في خاتمه أن جن ولد أبو سمرا من شيوخ أهل الأرض (الله يقاصرنا ويقاصرهم بالإحسان). في أي حفلة زيران ستشاهد دائرة من الجمر والحطب الملتهب يصطف حولها دلال وأباريق وتستخدم النار أيضاً لتسخين الطيران. يقال إن المزيور يلتهم الجمر ويخرجه جاونية أو عود بخور يملأ الأجواء بعبقه. يؤكد الثقات أن المزيور يطأ النار دون أن تحرقه. تحت سلطة هذا الخيال تركنا كل شيء وركزنا انتبهانا على ولد أبو سمرا. تبين لنا من استجاباته للطيران أن ثمة فناناً أصيلاً يجوب دماءه. يدخل بين فترة وأخرى في غيبوبة الفن الطفيفة ثم (يتنسف) كما كان يقال بطريقة ممتعة لا يشوبها تكلف. في لحظة خاطفة التفت على الرجل الذي يقف إلى جانبه وقال له: لا تنسى. من سوء حظه أن منصور سمعه. منصور شاب قوي البنية ومتهور. بدا أن المزيور يحضر لشيء. أخذ يرتفع بوناته وأنينه عن عالمنا ويذوب في أصوات الطيران. كاد يقنعنا أن حيويات أخرى تختلط بروحه. فجأة صرخ صرخة والتفت بشكل خاطف نحو صاحبه ثم انطلق نحو النار. دون تردد انقض منصور على مساعد المزيور وقبضه من وسطه. أصبح المزيور في وضع خطير. لن ينقذه أحد، يبدو أن الخطة قد انهارت. لم يكن أمامه إلا أن يتراجع أو يدخل في النار وفي كلتا الحالين ستنتهي أسطورته وربما حياته. تبين لنا لاحقاً وهذا ما فهمه منصور في تلك اللحظة أن المزيور سوف يندفع بكل جدية وحماسة نحو النار فيقوم مساعده بتدريكه وإسقاطه أرضاً فيبدأ دور العقول الخرافية من المتلرجين لإكساب هذه التمثيلية الأبعاد الأسطورية اللازمة. لكن منصور بدد كل شيء. صارت النار حتمية. لم يبق بينه وبينها سوى متر واحد. لن ينجو حتى لو أراد. فقد السيطرة والحكمة فضاعف سرعته ليقفز على النار رغم سعة دائرتها فسقطت قدمه في وسط النار. خرج من الجهة الثانية وغاب في الظلام تاركاً وراءه صراخاً يقطع نياط القلب.
تلك الحادثة كانت كارثة ونكتة وواحدة من أهم دروس العقل في حياتي.
* نقلاً عن “الرياض”