قصة الحجر الأسود

بقلم حسين عبد الحسين/
يقف في الأسبوعين المقبلين مليونا زائر أمام الحجر الأسود، في الركن الجنوبي الشرقي للكعبة، في مدينة مكة السعودية، للبدء بالطواف كجزء من شعائر الحج السنوية، وسيحاولون تقبيل الحجر للتبرك به، أو توجيه التحية له عن بعد، إن لم يتسن لهم الاقتراب منه.
وأن يقوم الدين الداعي للتخلي عن عبادة الأصنام والحجارة إلى إجلال حجر هو أمر مربك. ويزيد في الإرباك التبريرات الإسلامية غير المقنعة، المستقاة في غالبها من أحاديث منسوبة إلى من هم أصحاب سند ضعيف.
مذهب الحجر الأسود هذا يبدو أنه كان منتشرا في مناطق تمتد من تركيا، إلى سورية ولبنان والأردن، والأرجح حتى مكة
يمكن تلخيص التفسير الإسلامي بالقول إن الرسول وصف الحجر بأنه من حجارة الجنة، وتم إرساله إلى إبراهيم، الذي ثبته في مكانه. وفي بعض الأقوال إنه سيكون للحجر عيون وفم يوم القيامة، وإنه سيشهد شفاعة لمن قبله. وفي الأحاديث أيضا أن الحجر نزل من الجنة أبيض، لكن خطايا الناس سودته.
كما ينقل التقليد الإسلامي أن الخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطاب (634 ـ 644 ميلادية) توجه للحجر بالقول: “إني لأقبلك، وإني أعلم أنك حجر، وإنك لا تضر ولا تنفع. ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك ما قبلتك”. مع حديث عمر، يصبح إجلال الحجر الأسود بمثابة تقليد متوارث عن الرسول، وهو تقليد تبناه أقرب الصحابة، مثل عمر، من دون أن يفهموا سببه.
لكن الحجر الأسود، الذي قد يبدو أحجية منحدرة من زمن عرب قبل الإسلام (الحج تقليد سابق للإسلام)، ليس من الأحجية بشيء، بل إنه يمكن كتابة تاريخه بالاستناد إلى عدد من المصادر المشرقية والرومانية السابقة للمسيحية والإسلام.
أقدم المصادر منسوب إلى الفينيقي فيلو، من جبيل اللبنانية، والذي كتب بالإغريقية في القرن الميلادي الأول، نقلا عن أعمال فينيقية أقدم كتبها سكون عطا. في وصفه لبدء الخليقة، نقل فيلو رواية فينيقية مفادها أنه في البدء كانت العناصر الأساسية الأربعة ـ الريح والماء والتراب والنار ـ وأن الريح اشتهت الماء ودفعتها، فامتزجت بالتراب وأنتجت وحلا، فطالته النار، فكان حجرا يسبح في الفضاء، ويرى ويسمع، فراكم حكمة، وصار اسمه الإله صافون، أي صوفيا بالإغريقية، آلهة الحكمة.
واللافت أن من معاني صفات أو صفاء أو صفا (مشتقات صافون) بالعربية هي الحجر، وقد تكون كلمة صوفية، مذهب المتصوفين، منحدرة من اسم هذا الإله الأول. وفي تقاليد الصوفيين أن الطالب يرتدي رداء أبيض، وفوقه عباءة سوداء، وهو ما يشبه الحجر الأسود المكي. حتى “عباءة الرسول”، المعروفة بـ”البردة” والتي يفترض أنها محفوظة في تركيا، هي سوداء من الخارج وبيضاء من الداخل.


والأسود هو لون الخلود، فيما الأبيض هو لون دورة الحياة المبنية على الموت والقيامة من الموت.
في عقل الأقدمين، بدأت الحياة الأولى بحجر أسود، وهو حجر الأساس لكل الخليقة، وهو الذي اتجه إليه المؤمنون في عبادتهم. من طوائف الحجر الأسود من تركت خلفها بعض الآثار، مثل صورة معبد “ايلا غبالوس” المنقوشة على نقد يورانيوس انطونيوس، وهو معبد كان في مدينة حمص السورية، ولم يبق منه أثر. والإله غبالوس كان يتمتع بشعبية حتى أسبغ اسمه على أحد أباطرة الرومان بعد موته، وهو الإمبراطور ماركوس أوريلوس (218 ـ 222 ميلادية). ويعتقد المؤرخ فيرغوس ميلار أن اسم “ايلا غبالوس” يعني “إله الجبل”، وهو ما لا يبدو صحيحا، والأغلب أن الأحرف “غ ب ل” تتطابق مع كلمة “قبال” أو “قبلة”، أي المركز الذي يتوجه إليه المؤمنون في صلواتهم وعباداتهم.
مذهب الحجر الأسود هذا يبدو أنه كان منتشرا في مناطق واسعة تمتد من تركيا، إلى سورية ولبنان والأردن، والأرجح في الحجاز حتى مكة. ويلفت ميلار إلى أنه تم العثور على نقوشات مكتوب عليها اسم الإله غبالوس في ضواحي تدمر. وفي السياق نفسه، يمكن الإشارة إلى أن بعض البلدات السورية التي لا تزال تحمل اسم هذا الإله، مثل الحجر الأسود، ضاحية دمشق، ويمكن أن بعض البلدات الأخرى حملت أسماء مشتقة من “قبلة”، مثل جبلة السورية وجبيل اللبنانية.
استخدم الأتراك الحجارة السود بمثابة طواطم مانحة للشرعية الدينية للحكم
أما الحجارة السوداء، كحجارة نيزكية متساقطة من السماء، فلم يتبق منها في أماكن العبادة إلا في مكة، وفي اسطنبول التركية. وحسب بعض الروايات، فإن الحجر الأسود المكي يتألف من ثماني قطع، فيما ست قطع من الحجر الأسود نفسه موجودة في تركيا.
والرقم ثمانية هو رمز الحياة بعد القيامة، مثل في الأضلاع الثمانية لمبنيي قبة الصخرة وكنيسة الصعود في القدس. أما الرقم ستة، فهو يرمز إلى كل من يحمل صفة “رسول”، وهو رمز مستوحى من الدورة الكاملة لكوكب المشتري، الذي يسير بين نجمتي الصباح والمساء وكأنه رسول بينهما.
القطع في تركيا موجودة في مسجد محمد صوكولو، وهو شخصية خيالية في الغالب يفترض أنه كان زوج إحدى حفيدات السلطان سليمان الأول (1520 ـ 1566 ميلادية)، الذي تم نقل واحدة من الحجرات الست إلى مقام قبره، وأخرى إلى الجامع الأزرق.
هكذا استخدم الأتراك الأحجار السود بمثابة طواطم مانحة للشرعية الدينية للحكم، فيما الأرجح أن هذه الحجارة، وغيرها نيزكية سوداء كثيرة، كانت منتشرة في عدد من المعابد منذ زمن سحيق كرمز للإله الأول، قبل أن تتم إعادة تعريف تاريخها، وتحويلها من رمز لدين الإله صافون أو صوفيا، الحجر الأساس للخليقة، إلى حجر من الجنة، وهو حجر لا سبب واضح للتبرك به، غير التقليد بلا تشكيك، على ما فعل الخليفة عمر.

شبكة الشرق الأوسط للإرسال

This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.