حوار مع القرضاوي 11: هل العلمانية ضد إرادة الشعب؟

عبد القادر أنيس

قراءة في كتاب ( الإسلام والعلمانية وجها لوجه، للدكتور يوسف القرضاوي).
الإسلام والعلمانية وجها لوجه، للدكتور يوسف القرضاوي
انقطعت، منذ عدة شهور، هذه السلسة من المقالات حول كتاب الدكتور يوسف القرضاوي المشار إليه أعلاه لأسباب خاصة، وها أنا أواصل اليوم الحلقة الحادية عشر التي تمحورت على فصل تحت عنوان “العلمانية ضد إرادة الشعب”. حسب تعبير القرضاوي. (ص 78-85). كان هدفي منذ البداية هو تسليط الضوء على ما يسميه البعض العقل الإسلاموي (نسبة إلى ما يعرف بالإسلام السياسي الذي نشرته حركة الإخوان المسلمين) والذي أحدث دمار حقيقيا في الساحة الفكرية والسياسية العربية والإسلامية، خاصة بعد الضعف الذي أصاب القوميين واليساريين في بلداننا. من أهم مميزات هذا العقل، حسب رأيي، الخداع والغش والاحتيال وتشويه الحقائق وأسلمة إنجازات الغير ونسبها إلى الإسلام وقدر كبير من الجهل ممزوجا بالسذاجة، كما سنرى. يستهل القرضاوي هذا الفصل بقوله: “وكما أن العلمانية ضد الدستور نصا وروحا، فهي كذلك ضد إرادة الشعب، ضد الدعوة إلى الديمقراطية”. وكنت في آخر حلقة (العاشرة) قد تناولت بالنقد والتفنيد زعم القرضاوي بأن العلمانية ضد الدستور:

حوار مع القرضاوي 10: هل العلمانية ضد إرادة الشعب؟

فهل العلمانية “هي كذلك ضد إرادة الشعب، ضد الدعوة إلى الديمقراطية”؟ حسب ما كتبه. يقول القرضاوي بعد هذا الحكم الحاسم: “والعلمانيون يباهون بأنهم ديمقراطيون، وأنهم أنصار الديمقراطية ودعاتها، والديمقراطية هي النزول على إرادة الشعب، وقد قال بعضهم: إن إرادة الشعب من إرادة الله! فما بالهم هنا – في قضية تحكيم الشريعة- يخونون مبدأهم، الذي اتخذوه شعارا لهم؟! ويحاولون أن يثنوا عنان الشعب عما يؤمن به، ويعتقد أنه وحده حبل النجاة، وسفينة الإنقاذ، وهو العودة إلى شرع الله”. ثم يقول: “والحق أن العلمانية معادية لإرادة جماهير شعبنا في مصر خاصة، وفي سائر البلاد العربية والإسلامية عامة، وأن تحكيم شرع الله في دنيا الناس مطلب شعبي، تنادى به الجماهير من شتى الطبقات”. ثم يقول: “وهذا ما تبين ـ بجلاء ـ في انتخابات “مجلس الشعب” الأخيرة في مصر “1984م”، قد تبنت الأحزاب كلها، حزب الحكومة، وأحزاب المعارضة، الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية…” وقبل أن أتدخل لدحض أغاليط القرضاوي أحيل الكلمة للدكتور فؤاد زكريا، حسب ما أورده القرضاوي في كتابه هذا الذي يتعرض فيه للحوار الذي جرى أواسط الثمانينات، بين العلمانيين والإسلاميين في مصر. يقول القرضاوي: “ولم يستطع د. فؤاد زكريا محامي العلمانية، أن ينكر القاعدة العريضة، التي تنادي بتحكيم الشريعة، بل اعترف بذلك على مضض، فقال في ختام كتابه “الحقيقة والوهم”: “إن كثيرا من المعترضين على مقالاتي، فقد تمسكوا بالحجة القائلة: إن تطبيق الشريعة هو ـ الآن ـ مطلب شعبي واسع النطاق، ولست أملك أن أخالف رأيهم في هذه المسألة، ولكن كل ما أستطيع أن أرد به عليهم، هو أننا نشأنا في بلد إسلامي، وظللنا عشرات السنين لا نعرف إلا مواطنين متدينين معتدلين، يمارسون العبادة من خلال العمل، والكفاح في سبيل النهوض بأنفسهم ومجتمعهم، ولم تكن صيحة المطالبة بتطبيق الشريعة، إلا صيحة خافتة، لا تأثير لها على المجرى العام لحياة الناس. هذه هي صورة الدين، كما عرفه شعبنا طوال أجيال عديدة، أما الموجة الحالية، فإنها برغم انتشارها الواسع، ظاهرة جديدة ودخيلة على التدين المصري العاقل الهادئ! وكأي ظاهرة دخيلة، ينبغي علينا أن نتعقب أسبابها إلى عوامل طارئة”. انتهى. الانتهازية والتحايل أو ربما الجهل في موقف القرضاوي حول الديمقراطية وحول مفهوم المطلب الشعبي نتعرف عليها من خلال تتبع مواقف الإسلاميين من الديمقراطية التي تدرجت من الرفض الصريح إلى القبول المخاتل والمتحفظ على أهم ركائزها. رفضها مؤسسو حركة الإخوان المسلمين ابتداء من حسن البناء وأبي الأعلى المودودي وسيد قطب وانتهاء بعلي بلحاج الجزائري. كان مجرد التلفظ بها يثير حفيظتهم ويطلق العنان لمخزونهم القروسطي المعادي لها ولكل الحريات. ثم راحوا يستمرئونها بعد أن ضمنوا ولاء جماهير واسعة في مجتمعاتنا. ولكنهم كلهم لا يقبلون من الديمقراطية إلا جانبها الانتخابي الذي يوصلهم إلى السلطة، أما مقومات الديمقراطية الأخرى من حريات مختلفة في الاعتقاد والتعبير والإعلام والفن فهم يستهجنونها ويرفضونها باعتبارها أفكارا وممارسات وافدة بل هي عندهم تشبه بالكفار واليهود والنصارى. وأهم ما يرفضه الإخوان هو فلسفة الديمقراطية كأفكار حديثة قائمة على نسبية الحقيقة وقابلية كل شيء للتطور والتغير، بينما هم يتمسكون بأفكار يرونها مقدسات وثوابت لا يجوز المساس بها. موقف حسن البنا من الأحزاب، والتعددية الحزبية حكم الإسلام في الديمقراطية والتعددية الحزبية

 قال: “ويعتقد الإخوان كذلك أن هذه الحزبية قد أفسدت على الناس كل مرافق حياتهم وعطلت مصالحهم وأتلفت أخلاقهم، ومزقت روابطهم، وكان لها في حياتهم العامة والخاصة أسوأ الأثر، كما يعتقد الإخوان أن هناك فارقاً بين حرية الرأي والتفكير والإبانة والإفصاح، والشورى والنصيحة وهو ما يوجبه الإسلام، وبين التعصب للرأي والخروج على الجماعة، والعمل الدائب على توسيع هوة الانقسام في الأمة .. وهو ما تستلزمه الحزبية ويأباه الإسلام ويحرمه أشد التحريم، والإسلام في كل تشريعاته يدعو إلى الوحدة والتعاون “. وقال: “أحب أن أقول: إن الإخوان يعتقدون من قرارة نفوسهم أن مصر لا يصلحها ولا ينقذها إلا أن تنحل هذه الأحزاب كلها، وتتألف هيئة وطنية عامة تقود الأمة إلى الفوز وفق تعاليم القرآن الكريم” .. وقال: “أيها الأخوان لقد آن أن ترتفع الأصوات بالقضاء على نظام الحزبية في مصر، وأن تستبدل به نظام تجتمع به الكلمة وتتوحد به جهود الأمة حول منهاج إسلامي صالح تتوافر على وضعه وإنفاذه القوى والجهود” .. “ولم يعد الأمر يحتمل أنصاف الحلول، ولا مناص بعد الآن من أن تحل هذه الأحزاب جميعاً وتجتمع قوى الأمة في حزب واحد يعمل لاستكمال استقلالها وحريتها، ويضع أصول الإصلاح الداخلي العام ثم ترسم الحوادث بعد ذلك للناس طرائق في التنظيم في ظل الوحدة الـتي يفرضها الإسلام” انتهى . في الجزائر، رفضتها جميع الأحزاب الإسلامية التي تأسست بعد تزكية دستور 1989 من طرف الشعب. أكثرهم صراحة كفرها مثل جبهة الإنقاذ، بينما رفضها الآخرون بحجة أن في ديننا تغنينا الشورى بوصفها أفضل من الديمقراطية، وأكثر الأحزاب تفتحا (حزب حماس (حمس حاليا) لمحفوظ نحناح) استبدلها بلفظة “الشوراقراطية “. طبعا حسن البنا فيما بعد، ورغم استمرار معارضته للتعددية الحزبية، لم يكن يعارض الانتخابات البرلمانية في ظل دستور شبه علماني لم يكن راضيا عنه وقبله على مضض. لكن، حسب تعبيره، فإن “مؤاخذاتهم علي الدستور يمكن تغييرها بالطرق التي وصفها الدستور نفسه، أي بالأسلوب الديمقراطي” وهو ما يعني عند البنا أنه يمكن قبول الديمقراطية في جانبها الانتخابي فقط ريثما يستولون على السلطة ثم يغيرون الدستور أو حتى يلغونه كما في السعودية أو يضعون أنفسهم فوقه كما في الدستور الإيراني الذي يعطي صلاحيات واسع لولي الفقيه غير المنتخب تجعل مؤسسة الرئاسة ومجلس الشورى مجرد ديكور للتعمية. ثم يقول القرضاوي منتقدا فؤاد زكريا: “وفي (التقديم) الذي وضعه لكتابه، (يقصد كتاب فؤاد زكريا) عاد للموضوع فقال: إن الدعوة إلى تطبيق الشريعة، التي تعلو أصواتها في الآونة الراهنة، ترتكز – بلا شك- على قاعدة جماهيرية واسعة، وكثير من أنصارها يتخذون من سعة الانتشار هذه حجة لصالحها، ويستدلون على صحة اتجاههم، من كثرة عدد أشياعهم وأنصارهم”. القرضاوي لا يبتعد كثيرا عن موقف حسن البنا وهو يقول معلقا على كلام فؤاد زكريا “فمن رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، ليس له إلا الانقياد إلى ما شرع الله، والرضا بما حكم الله، وإلا راجع إيمانه”. وهو ما يعني أن لا مكان في دولته الإسلامية لغير المسلم والملحد والعلماني ووالمعارض. ثم يقول القرضاوي كلاما أكثر صراحة: “وإنما يتخذ دعاة الشريعة من كثرة أشياعهم حجة عليكم، لأنهم يحاكمونهم إلى منطقكم، الذي تؤمنون به، ولا تختلفون فيه، وهو منطق الديمقراطية، الذي يحتكم إلى أصوات الأغلبية، فما رضيته الأغلبية، فهو المحكم، وهو المعمول به، فالأمة التي تمثلها الأغلبية هي مصدر السلطات”. يقول القرضاوي “منطقكم” الديمقراطي وهو ما يعني أنه ليس منطق الإسلاميين. والقرضاوي مازال حتى الآن يتبنى هذا الأسلوب المراوغ. نقرأ له في: موقع اسلام اون لاين “إن الديمقراطية الحقيقية هي من روح الإسلام وتعاليمه”. ويقول: “”نحن نريد لأمتنا أن تسير مسيرة الحرية والديمقراطية، شريطة أن نفهم الديمقراطية بضوابطها؛ فنعرف أنها ديمقراطية المجتمع المسلم الذي يؤمن بالإسلام مرجعا له، ويؤمن بالشريعة حاكما له، ويؤمن بالقيم الإسلامية موجهة له، ويؤمن بالعقيدة الإسلامية أساسا لهويته”. فأي بؤس هذا الذي يتخبط فيه الفكر الإسلامي عند أكبر ممثليه الذي يوصف بالاعتدال. هل يعني هذا أنه يجب أن يقوم في مصر “ديمقراطية المجتمع المسلم” وديمقراطية المجتمع المسيحي، وديمقراطية خاصة بكل طائفة ومذهب؟ ومع ذلك يقول أيضا: “لماذا يقولون بأن الإسلام يرفض الديمقراطية، ونزل على رأيها (الأكثرية) سيدنا عمر في قصة الستة أصحاب الشورى؟”. هنا يجتمع البؤس مع السذاجة مع نية مبيتة لاستغفال الناس، عندما يتستر بمكر على كون عمر قد استولى على الخلافة عن طريق التعيين من أبي بكر كنوع من رد الجميل لأنه كان أول المبادرين إلى مبايعة أبي بكر وقطع الطريق عن كل طامح آخر بعد وفاة مؤسس الإسلام. ثم هو يضعها بين ست نفر من الناس لا غير. وأخيرا ينكشف كل خداع وتحايل الشيخ وهو يقول مهاجما ظاهرة التوريث في الجمهوريات العربية: “”إذا كانت الملكية تورث الحكم؛ فإنها تعلن ذلك، ولها نظامها الخاص وحدودها وقوانينها المعروفة والمعلنة، لكن الغريب هو الجمهوريات الدائمة، والأصل في النظام الجمهوري تداول السلطات وتداول الرؤساء، لكن عندنا الرئيس مخلد ولا يزول عن ملكه أبدا”. وهو تملق وجبن وانتهازية لأولياء نعمته من الأمراء والملوك العرب رغم أن الإسلاميين يتشدقون دائما بأنهم لا يخشون في الله لومة لائم. فأي نظام هذا الذي يزعمه الشيخ لهذه الملكيات القروسطية. وأية حدود وقوانين معروفة ومعلنة؟ هل يحسبها من قبيل الملكيات الدستورية في أوربا التي صار الحكم التشريعي والتنفيذي فيها متداولا بين الأحزاب حسب إرادة الناخبين؟ يقول الشيخ: “ثم إن الديمقراطية في العالم كله، تحتكم إلى عدد الأصوات، بغض النظر عن الكيف والنوع. ولم يقل يوما حزب المحافظين لحزب العمال في بريطانيا، أو حزب الديمقراطيين لحزب الجمهوريين في أمريكا: إن الأغلبية، التي معكم، ليست في مستوى الأقلية التي معنا ثقافة ووعيا ونضجا!” قال القرضاوي هذا الكلام ردا على اشتراط فؤاد زكريا الوعي والنضج لدى الجماهير للقبول بمبدأ الأغلبية التي يراها الإسلاميون في صفهم. ثم يقول القرضاوي: “ولو سلمنا بهذا الشرط التعسفي، الذي انفرد به الكاتب، فمن الذي له الحق أن يقول: هذا نضج، وهذا ليس بنضج، وهذا بعض النضج، وهذا كل النضج؟!” من الناحية المنطقية الشكلية يبدو القرضاوي على حق. لكن عودتنا إلى موقفه وموقف الإسلاميين عموما من الديمقراطية التي تنحصر فقط في آلية الانتخابات وفي حصرهم دولتهم في الإسلام فقط وفي انقلابهم على الديمقراطية حتى في صورتها الانتخابية بعد وصولهم إلى الحكم، وقد رأينا عينات منها في إيران والسودان وغزة مثلا، وفي أفكار القرضاوي التي كشفنا عن جزء منها في هذا المقال حين ينتصر للملكيات العربية على حساب الجمهوريات العربية رغم انحطاط الجميع. فهل يجهل القرضاوي حقا آليات الممارسة الديمقراطية في البلاد الغربية التي استشهد بها وحصرها في الانتخابات فقط؟ هل يجهل حقا أن أهم أسس الابتكار الغربي العظيم هو العلمانية؟ رغم ذلك فرأيي أن الشرط الذي يجب أن نواجه الإسلاميين به ليس شرط النضح والوعي كما رأى فؤاد زكريا عن حق، بل علينا وضع الإسلاميين أمام القبول أو الرفض لمقومات الديمقراطية الحقيقية وأهمها حق الأقلية الذي هو من صميم الديمقراطية، خاصة الأقلية السياسية، في الوجود والتعبير والإعلام والرقابة والتجمع والحزبية والعودة الدورية للاحتكام أمام الشعب. هل يقبل الإسلاميون هذا الشرط أو الشروط؟ الفقه الإسلامي يقول لا. الممارسة الإسلامية المعاصرة تقول: لا. قالت: لا، في كل مكان حكم فيه الإسلاميون، في إيران، في غزة، في السودان. والفقه الإسلامي يقول لا لأن “البيعة مرة واحدة”. في هذا الفقه أيضا، كان الخلفاء يعتبرون حكمهم حقا إلهيا لا شأن للمحكومين فيه. قال عثمان لمطالبيه بالتنحي: (( ما كنت لأنزع قميصا ألبسنيه الله سبحانه وتعالى)). وعليه، فالذين تعاملوا مع حركة الإخوان المسلمين بخشية وريبة لهم ما يبرر مواقفهم، ذلك أننا لا نجد في أدبيات الإخوان المسلمين ما يشير إلى تبنيهم التام للديمقراطية العصرية بما تعنيه من انتخابات دورية وحق الأقلية في الممارسة السياسية وحق المواطنة التامة لجميع المواطنين مهما اختلفت أديانهم وطوائفهم وأجناسهم. لا شيء من هذا القبيل في فكر الإخوان. بل نجد عكسه تماما. ولهذا أنا أكثر عجبا من القرضاوي حين يختم هذا الفصل بالقول متعجبا: “إن موقف الكاتب (فؤاد زكريا) والله عجيب حقا، أنه ينادي بالديمقراطية ويرتضيها إذا كانت نتيجة التصويت في صالحه، فإذا كانت النتيجة في صف الإسلاميين، فهي مرفوضة بأي شبهة أو بغير شبهة، فأين العلم؟! وأين الإنصاف يا معشر العلمانيين، والتقدميين؟!؟!   عبدالقادر أنيس فيسبوك

About عبدالقادر أنيس

كاتب جزائري
This entry was posted in دراسات سياسية وإقتصادية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.