من محمد الإيمان إلى محمد التاريخ -7

الفصل السابع

الهذيان الإهتياجي الإكتئابي وهذيان نهاية العالم

1 ـ الذهان الإهتياجي ـ الإكتئابي

“في بعض الحلات،النوبة الهاذية تترافق بتعبير حقيقي هاذي هلوسي.هذا الجنون الهاذي يمكن أن يشتمل عل موضوعات صوفية أو نبوية مع أفكار التأثير(…)الله يسّر لي ويتحدث على لساني(…) أو أنا مريم العذراء أو موضوعات اضطهاد وثأر(…)”

(طب نفس الراشد ص 199)

********

الذهان الإهتياجي ـ الإكتئابي مرض ذهني يتميز باضطراب المزاج،وتحولاته اليومية أحياناً من النقيض إلى النقيض،بالانتقال من نوبات الإهتياج إلى نوبات الإكتئاب.يعرفه الطب النفسيب أنه:”ذهان، أساساً وراثي،يتميز بتكرار،وتناوب،وتجاور أو تعايش حالات اهتياج وحالات اكتئاب.كما توجد حالات عديدة وسطى،تتراوح بين الاهتياج والاكتئاب الجزئيين أو المعتدلين(…)يبدأ هذا الذهان عند الراشد بين 18 و20 عاماً”(1).

“عدد من المرضى الهاذين،من الذين لم يُعبّروا قط في الأوقات العادية عن اعتقاد ديني،يمكن أن يعتبروا أنفسهم:الله،أو الشيطان،أو العذراء المقدسة،أو ممسوسسين من الشيطان أو أنبياء… إلخ، تحت تأثير ذهان إهتياجي ـ إكتئابي،أو إلتياث ذهني،أي فوضى ذهنية،أو هلاوس أو انفصام ذهني. هذا الاعتقاد الجديد، لا علاقة له بأي فكر ديني حقيقي،بل هو مرتبط مباشرة بالنكوص المرضي إلى الطور الأسطوري”(الطبيب النفسي ب.مرشِ في كتابه:”سحر وأسطورة في الطب النفسي”).

أعطى عن ذلك الحالة السريرية،التي عالجها في مستشفى فوش بباريس:الأنسة(أ) 20 عاماً،التي ترجمناها في فقرة الهلاوس مع حالات سريرية أخرى.

“النكوص المرضي إلى الطور الأسطوري”(2)،حقيقة طبية جوهرية.لأن المرض الذهني،كهذيان النبوة أو التعصب الديني،هو نكوص من الطور العقلاني،آخر طور تطور إليه”الإنسان العاقل”،إلى الطور الأسطوري،أو السحري أو الديني اللاعقلاني،وهي أطوار تجاوزها تطور البشرية الذهني منذ قرون. مسار تطور البشرية مر بالطور السحري،ثم بالطور الأسطوري،ثم بالطور الديني وأخيراً بالطور العقلاني،الذي نحن فيه الآن.كل نكوص من الطور العقلاني إلى أحد الأطوار الـ 3 السابقة له هو عادة عرض لمرض عقلي.

الطور الإهتياجي:يتجلى في حالة اهتياج فكري ونفسي ـ حركي واهتياج المزاج، كما أن وظيفة الهلاوس تطمين المريض،فإن وظيفة الإهتياج هي تنفيس توترات المريض.”المهتاج لا ينام إلا 3 ساعات،لكنه لا يشعر بالتعب،نشيط لكن نشاطه يدار إدارة سيئة”.

اهتياجات الذهان الإهتياجي ـ الإكتئابي هي عادة صارخة:الضحك،الغناء،الرقص والشطح،كما هو عند الصوفية إلى الآن،وكما رأينا ذلك عند انبياء عشتار وأنبياء اسرائيل.”لكن توجد أيضاً اهتياجات حقيقية حيث الإهتياج أكثر اعتدالاً.”(3).

قد تكون هذه الحالة من الإهتياج المعتدل هي حالة نبي الإسلام،الذي لم تروي عنه السيرة أو السنة تعبيراً صارخاً عن اهتياجه كالوجد،إكستاز.لكن السيرة والسنة بخيلان، بكل خبر يُشتم منه الخدش في شخصية نبي الإسلام، بما هو”الإنسان الكامل بإمتياز”؛لكن الإهتياج بدا واضحاً في أسلوبه القرآني المحموم، المتدفق كالسيل العَرِم،كما عند إشعيا،الذي تأثر به محمد كثيراً واستلهمه،كما سنرى ذلك في فقرة تالية.

في حالة الإهتياج القصوى:”تسارع مجرى الفكر،هو الحد الأقصى،هو اللحظة التي لا يعود فيها الكلام وسيلة بل يغدو في حد ذاته غاية،لعبة في خدمة الفرحة الوجودية(…)تسارع مجرى الفكر يشمل شكل ومضمون الفكر،فالأفكار تتلاحق بكل سرعة، دون أن يمضي المريض بأية فكرة إلى نهايتها.فالفكر يتدفق ألفاظاً بلا معنى.التداعي بين الأفكار سطحي،على حدود التماسك،منطق التداعيات يظل غالباً مفهوماً:قافية،سجع،لعب بالكلمات وأحياناً الإكثار من الشعارات،والأمثال السائرة والترتيل،تحصيل الحاصل أو أفكار جاهزة،تتوالى وراء بعضها البعض، لتجعل خطاب المريض مفهوماً إلى حد ما.وبالطريقة ذاتها، يمكن أن يُقطع الخطاب(…)برقية أو بعبارات أجنبية.على مستوى المضمون، ثراء الأفكار ليس إلا ظاهرياً، كما شخص ذلك الطبيب النفسي كرابلن:”انبجاس الأفكار ليس أبداً ثراء أفكار بل مجرد كلمات،أي أن مضمون الأفكار يتحكم فيه موضوع تهييج للخيال لا حدود له”(4).

هذا الإستشهاد الطويل بالغ الأهمية.لأنه يصلح تعليقاً طبياً نفسياً على معظم سور وآيات القرآن، التي يكثر تفصيلها ويقل تحصيلها.لنضرب مثلاً بالمطلع الأول من سورة العاديات:”والعاديات ضبحاً، فالموريات قدحاً،فالمغيرات صبحاً،فأثرن به نقعاً،فوسطنا به جمعاً(…)”:”تدفق ألفاظ بلا معنى(…) التداعيات قافية وسجع”ماذا عنى نبي الإسلام بهذه الجمل الغامضة:أقسم بالخيول الراكضة التي تسمعنا عويلها،أو تذمُرها، هذه الخيول، التي تُثير بحوافرها الشرارات ،والتي تُغير في الصباح وتثير الغبار[= عند العدو؟]”ووسطن به جمعاً”جملة غير مفهومة،قد يمكن تأويلها بأن الخيل دخلت إلى وسط جيش العدو؟.

أية قداسة للخيول المغيرة ليقسم بها نبي الإسلام، كحجة على صحة دعواه القائلة” إن الإنسان لربه لكنود”،أي لا يتعرف بالجميل لربه؟وأي رابط منطقي بين ما أقسم به وما أقسم عليه نبي الإسلام؟لا رابط ! “الخيط الناظم للسورة هو”تداعيات القافية والسجع”ليس إلا.كما قال الطبيب النفسي.

شخّص طبيب آخر هذيان الإهتياج:”يتسارع المنسوب اللفظي،المريض ينتقل من فكرة إلى أخرى، عاجزاً عن التركيز على موضوع محدد.تتابع الأفكار بسرعة قصوى،كل صورة تجر كوكبة من الذكريات. الخطاب جريان دائم،كتعبير عن فرار الأفكار.تداعي الكلمات يستدعيه الإيقاع:صوت يستدعي صوتاً،جميع الكلمات المتجانسة تُستغل أثناء الأصوات تتوالى،وأحياناً كخليط.هذا التسارع لمجرى الأفكار هو خاصية نوبة الإهتياج،كما يقع في حالات الهذيان الصرعي”.(5)

أيات السور القصار المتدفقة كالشلال،من الصعب أن تصدر من شخص جالس بهدوء،بل قد لا تصدر إلا من شخص في حالة غليان واهتياج،أي في حالة وجد:في حالة حماس ونشوة عارمة،في حالة انخطاف،وفرحة وجودية،في حالة ذهول ورقص أيضاً،كما عند الأنبياء والمتصوفة.

رأينا أن أنبياء إسرائيل كانوا يخرجون عن أطوارهم ويرقصون.داوود مثلاً،في الرواية التوراتية،كان يرقص بنشوة وحماس أمام تابوت العهد عارياً.فكيف يمكن أن تقول السيرة والسنة مثل هذا،أو حتى أقل منه بكثير،عن محمد،الذي،كما أكدت السيرة،تفاوض الصحابة حول غسله،كأي ميت عارياً،وأخيراً رفضوا ذلك وغسلوه في ثيابه خشية من كشف عورته؟ودفع الهذيان البعض إلى القول بأن نساءه لم يروا ذكره!

تحت وطأة الجبن الديني والشلل النفسي،رأينا،وسنرى مثلاً في هذيان نهاية العالم،كيف أن المفسرين لا يفسرون الآيات عندما يعتقدون أنهن قد يلقين ظلالا من الشك على مصداقية القرآن،مثل النيؤات القرآنية باقتراب الساعة في حياة النبي وخصومه المشركين،الذين توعدهم القرآن:”بل تأتيهم [=الساعة]بغتة(…)فلا يستطيعون ردها،ولا هم يُنظرون”.كما سنرى ذلك في فقرة هذيان نهاية العالم.وأحياناً يزورون تفسير الآية مثل:”ووجدك ضالاً فهدى”.البعض،كالسيوطي،زورها:”ووجدك بين ضالين فأنقذك منهم”والبعض،كالزمخشري،فسرها نصفا وزورها نصفا:”ووجدك ضالاً عن معرفة الشرائع”لكن سرعان ما اعتراه الشعور بالذنب،فشرع في تزويرها:”وقيل ضل في شعاب مكة،فرده أبو جهل إلى عمه أبو طالب،وقيل ضل في مكة،عندما اعادته حليمة السعدية إلى أمه،وقيل ضل في طريق الشام إلى آخر المراواغات.

لقد آن للمؤمنين،الذين لم يسقطوا في الهذيان الديني،أن يقطعوا مع هذا التضليل،الذي يلحق بمحمد ودينه ضرراً بليغاً،أكثر بكثير من قول الحقيقة،كما اعترف بها محمد نفسه بكل صدق في قرآنه.

الإسلامي صلاح كشريد،ربما لأول مرة،تشجع،عندما ترجم سورة النجم:”رآه بالأفق الأعلى،ثم دنا فتدلى،فكان قاب قوسين او أدنى، فأوحى إلى عبده ما أوحى…” معلقاً:”هذه الآيات القصار والاهثة،تترجم على نحو مثير للإعجاب،حالة من الانفعال الكبير والوجد، الأكستاز،عند النبي عندما رأى جبريل بالأفق الأعلى”.

سور بداية استيلاء الهلاوس والهذيانات على وعي محمد بكل قوة، لم تكن إلا هذياناً لفظياً لا نهاية له،لعب بالكلمان والكنايات والمجازات وأسماء الأصوات و”تدفق ألفاظ بلا معنى”كما شخص الطبيب النفسي سوسان الهذيان الإهتياجي.

طور نوبات الهذيان الإهتياجي، يترافق غالباً بانفلات الغرائز الجنسية القهري:”الهياج الجنسي ثابت لا يتخلف وغالباً مفرط”(6)؛وهذا ما يؤكده حديث:”أوتيت قوة 40 رجلاً”.هذا الحديث لم يتقوّله ابن اسحاق،والذي يرويه صحيح البخاري، بل قاله على الأرجح نبي الإسلام؛تشهد على ذلك زيجاته الكثيرة: قيل 16 وقيل 22 ،فضلاً عن ملك اليمين، والمؤمنات اللواتي يهبن انفسهن له للإستمتاع الجنسي، العابر غالباً، الذي شرّعته الآية:”(…) يا أيها النبي إنا حلّلنا لك أزواجك (…)وما ملكت يمينك(…)وإمرأة مؤمنة،إن وهبت نفسها للنبي،إن أراد النبي أن يستنكحها؛خالصة له من دون المؤمنين(…)”(50 الأحزاب).

ورث الحسن،و الذهان الإهتياجي الإكتئابي وراثي كما سبق، عن جده النكوح الرغبة العارمة في تعديد المنكوحات؛فقد قيل أنه تزوج بين 150 و 350 إمرأة.أيضاً القصاص الفرنسي جي موباسان،كان نكوحاً وفصامياً.فقد مات في مستشفى المجانين. يبدو أن تعديد المنكوحات،ولو لمرة واحدة،وسواساً متواتراً عند بعض الذهانيين وخاصة الفصاميين.يذكر الطبيب النفسي، بانكاو،في كتابه”كينونة الفصامي”[للتذكير لا أكتب أسماء الأعلام والكتب والمصطلحات بالأبجدية اللاتينية كما هو مطلوب، لأن ذلك يجعل النص معرضاً للتفكك عندما ينتقل من موقع إلى آخر]،أن أحد مرضاه”37 عاماً” نكح في مدة وجيزة 41 مومس مرة واحدة لكل منهن،إلا واحدة كانت تضع خاتم في ابهامها نكحها 16 مرة.ربما لأن الخاتم هو الـ فِتيش أو الصنم،الذي عوض له في أصبع المومس قضيب الأم المفقود.

اتضح أيضاً أن نساء الذهان الإهتياجي الإكتئابي يصبحن نكوحات.

اتهام هشام جعيط في”في السيرة النبوية” ابن اسحاق، بالإفتراء على النبي بأنه نكوح، متهماً إياه بإسقاط حالته الخاصة على محمد. يبدو مجانياُ،لم يتسند حتى إلى بداية حجة! ربما كان دافعه،كما عند المفسرين،تبرئة النبي من كل ما يثير الشبهات بالمفهوم العامي!والحال أن إصابة نبي الإسلام بالذهان الإهتياجي ـ الإكتئابي، المسبب للفحولة المفرطة، تتضافر عليه القرائن،عبر أعراضه في القرآن.يستخدم هشام جعيط في كتابه اشمئزازه الشخصي،من خبر أو فكرة، كبرهان على بطلانهما.وهو ما وصفته بـ”البرهان النرجسي”،وهذا في العلم خطأ جسيم.لا يوجد بين البراهين العلمية:”أرفض هذا بتاتاً”، التي لا تصدر إلا عن مفتي نرجسي هاذي، سجن عقله في معتقداته الجامدة وإيمانه الساذج.أما المؤرخ،وجعيط مؤرخ قدير،فلا يسعه إلا مناقشة الفرضيات بفرضيات مضادة،مبنية بناءً منطقياً،ومبرهَناً عليها بدم بارد.

النزاهة الفكرية كانت تتطلب منه،كمؤرخ،أن يعتمد،خاصة في موضوع لا سبيل لليقين فيه، كموضوع نبي الإسلام،على الفرضيات المفتوحة للبحث والنقاش وليس على اليقين الأعمى والرفض المتشنج.

مريض الإهتياج الإكتئابي مزاجه متقلب من النقيض إلى النقيض،من التفاؤل إلى التشاؤم،من الابتهاج بالحياة إلى القرف منها:”إن المال والبنون زينة الحياة الدنيا”(46 الكهف)ثم”وما الدنيا إلا متاع االغرور” (186 آل عمران)،”،أو “ولسوف يعطيك ربك فترضى”(5 الضحى)؛ثم،في طور الإكتئاب،ينتقل إلى الإتهام الذاتي والتهديد الصارم للذات:”لو تقول علينا[محمد] بعض الأقاويل،لأخذنا منه باليمين،ثم لقطعنا منه الوتين”(46،45،44 الحاقة).

“يسيطر[في طور الإكتئاب] الشعور بالذنب والاتهام الذاتي المجاني غالباً ومحاولات الانتحار.كما تسيطر كذلك الإضطرابات الجسدية وخاصة الأرق،والإستيقاظ الباكر صباحاً”(7).

هذا التشخيص ينطبق على نبي الإسلام ،الإستيقاظ باكراً لصلاة الفجر!” الإنهيارات العصبية المقنّعة، تحتل في الإكتئاب مكاناً بارزاً،وقد يلازمها الصداع(8).كثيراً ما اشتكى نبي الإسلام من الصداع، حتى في يوم وفاته.فقد جاء في البخاري عن ابن عباس:” أن رسول الله احتجم وهو محرم في رأسه من شقيقة كانت به”.

“البنية الإكتئابية للمريض تقوم على استبطان الغرائز العدوانية،التي تفعل فعلها تحت ضمير أخلاقي قاسي”(9)،كما هي حالة نبي الإسلام كما حللناها في هذيان الشعور بالذنب؛”الإكتئابي سجين الماضي،أما المستقبل فلا وجود له عنده.”(10).وهكذا ربما نفهم لماذا لم يفكر نبي الإسلام في مستقبل أمته من بعده، أي في خلافته، بتعيين ولي للعهد، بدلاً من الشورى، التي كانت شراً على المسلمين!ومازالت شراً عليهم،فأقصى اليمين الإسلامي يعارض بها الديمقراطية،أي الدخول إلى الحداثة السياسية،التي لا بديل لها،سوى النكوص الذهاني إلى العصور الوسطى،كما هو الحال في إيران والسودان وأفغانستان طالبان، وربما مستقبلاً في مصر وتونس إذا واصل التاريخ تأتأته!.

“أفكار الموت:كل مكتئب يواجه الانتحار،الذي يبدو له كحل مثالي للصراع بين الأنا والعالم،بقدر ما يسمح ذلك بالقضاء على الطرفين كليهما(…).الأفكار الهاذية لا تتخلف أبداً، وهي أفكار هاذية مرصودة لهجاء الآخرين؛هذيان الإضطهاد، هذيان الشعور بالذنب، وهذيان نهاية العالم”(11)؛هذيان نهاية العالم هو لا شعورياً نهاية المريض نفسه.من هنا محاولات الانتحار المتكررة من نبي الإسلام.”هجاء الآخرين”،والقرآن، في جزء كبير منه،هجاء للمشركين مثل أشهر قصيدة هجائية فيه:”تبّت يدا أبي لهب وتب،ما أغنى عنه ماله وما كسب،امرأته حمالة الحطب،في جيدها حبل مسد”(سورة المسد )؛وهجاء لليهود :”قلنا لهم كونوا قردة خاسئين”(65 البقرة)مثلاً؛وهجاء للنصارى: “وقالت النصارى المسيح ابن الله(…) قاتلهم الله أنّى يؤفكون[=ما أكثر انخداعهم أو ما أكثر إفكهم وكذبهم !]”(30 التوبة)!.

“عندما تتعايش أعراض الاكتئاب مع انشطار الشخصية،ومع انمحاء الشخصية،ومع اضطراب وعي الذات لذاتها،أي شك المريض في هويته،والتشابه وغرابات السلوك(…)يمكن أن تكون عندئذ طريقا للدخول إلى الفصام”(12).

“هل الجنون قدَر العبقرية؟”،هذه الفرضية دعمها باحثون سويديون جمعوا معطيات ملفات طبية لحوالي مليون مريض،على امتداد 40 عاماً،وبرهنوا على أن العائلات التي تقدم حالات اضطرابات قطبية،أي اهتياجية اكتئابية، وفصامية، يوجد بها فنانون كثيرون”(13)

2 ـ هذيان نهاية العالم

“اقتربت الساعة”(1،القمر)

****

المقصود هنا هو هذيان نهاية العالم الديني.إذ توجد سنياريوهات ليست هاذية بالضرورة، لإمكانية نهاية الحياة.نهاية الحياة على الأرض، بكارثة أيكولوجية أو نووية عالمية،يسود بعدها شتاء نووي يدوم 4 قرون،يمنع وصول أشعة الشمس إلى الأرض،فتنقرض أشكال الحياة بما فيها البكتيريه.لكن، في هذا السيناريو العلمي، لا وجود لتدخل خارجي إلاهي،يبعث الأموات من قبورهم،ويوقفهم أمام الله، أو أي إله آخر لتوزيع الثواب والعقاب،أو عن المهدي المنتظر، ليحكم 1000 عام ثم يندثر العالم إلى آخر روايات الهذيان الديني.

تقصّي هذيان نهاية العالم في جميع الأديان،يتطلب مجلداً ليس هنا مكانه. لأن الدافع النفسي المحرك لهذيانات نهاية العالم الدينية واحد: الصراع بين الرغبات الجنسية المكبوتة المتعارضة مع الأنا[=العقل]والضمير الأخلاقي،أي الأخلاق السائدة، التي تجسدها قواعد اجتماعية ودينية غالباً مغلقة،يسبب للمريض قلقاً عاصفاً يجد متنفساً في الهذيان.نلتقي بهذيان نهاية العالم في نوبات الهذيان الإكتئابي:في العمق، الهاذي يتحدث عن شعوره بأن نهايته هو نفسه باتت وشيكة،وعن فوضى حياته الداخلية وخرابها:”إذا زلزلت الأرض زالزالها”،و”إذا السماء انفطرت وإذا الكواكب انتثرت وإذا البحار فجرت وإذا القبور بعثرت”. هذه الفوضى الكونية العارمة هي اسقاط ، للفوضى العارمة التي تتفاعل في رأس محمد المتألم واليائس، على ظواهر الطبيعة.

سنقتصر على تشخيص أعراض وتحليل العواقب الدينية ـ السياسية لهذيان نهاية العالم في القرآن، أي عند نبي الإسلام.

هذيان نهاية العالم ورثته المسيحية والإسلام عن اليهودية، وعن الديانة الرزادشتية،التي يبدو أن بصماتها واضحة على القرآن،خاصة في الهذيانات الأخروية،عن طريق أحد معلمي محمد الراهب الزرادشتي، سلمان الفارسي.

الشرط الأول لتوفر هذيان نهاية العالم هو أن يكون قريباً،أي متوقع الحدوث في حياة الهاذي نفسه؛بولس الرسول ،كان يتوقع عودة المسيح في حياته؛أحمدي نجاد،بدأ منذ 2006 يوسع شوارع المدن الإيرانية، لتسهيل مرور موكب الإمام الغائب فيها؛ويناجيه،أي يناجي هلوساته هو ،في بئر في جنوب طهران،خيل له الهذيان أن الإمام الغائب اتخذها مقراً مؤقتاً، في انتظار الإعلان الرسمي للرجعة.

عواقبه الدينية ـ السياسية:تهاوُن نبي الإسلام في تعيين خليفة له، يحصر التداول على السلطة في ذريته،كما كان الحال في عصر الأمبراطوريات المعاصرة لدولة المدينة؛لو حسم توريث الحكم لشخص ونسله من بعده،مثلاً في ابن عمه وصهره ووالد حفيديه،علي اين أبي طالب،كما كان يفعل أباطرة زمانه،ربما لجنب المسلمين مأساة الحرب الدينية الشيعية ـ السنية المتواصلة منذ 14 قرناً؛لا سبيل لقراءة دقيقة للإقتتال الديني الأهلي الجاري في العراق وسوريا اليوم،وربما غداً في لبنان والسعودية وبعض إمارات الخليج،من دون استحضار بعده التاريخي، لربطه بعامل الصراع السني ـ الشيعي المزمن،والذي قد يتحول،في إحدى مراحله،إلى نزاع نووي؛وقد أطلق منذ الآن سباق تسلح وتسلح نووي صامت وخطير، بين إيران وجوارها السني.في تونس، حيث توجد أقلية مجهرية شيعية،شنت وزارة الشؤون الدينية في 2012، لأول مرة في تاريخ تونس الحديث،حملة لحظر كل نشاط دعوي على هذه الأقلية،انتهاكاً لمبدأ الحريات الدينية ولمواثيق حقوق الإنسان،التي تعترف لكل إنسان بالحق في الدعوة السلمية لمعتقداته.لكنها،لسبب واضح،لم تمنع الأئمة،الذين تشرف عليهم من التحريض على الإرهاب الداخلي والخارجي!.

آيات قرآنية عدة،فضلاً عن الأحاديث،أسست لهذيان نهاية العالم في الإسلام:”وما أمر الساعة إلا كلمح البصر،أو هو أقرب”(77 ،النحل)،المغزى:نهاية العالم قريبة جداً،أقرب من لمح البصر.

يفسرها الطبري مسرعاً،كمن يريد عدم الخوض في موضوع محرج:”هي كلمح البصر،أو أقرب من لمح البصر”؛أما السيوطي،الذي كان عليه تفسيرها،بعد أكثر من 9 قرون من نزولها،فإنه فضل المرور عليها مرور الكرام؛لأن نهاية العالم”الأقرب من لمح البصر”كانت تعني نهاية العالم في حياة النبي وأعدائه المكيين قبل إسلامهم!؛”(…)وإن الساعة لآتية،فاصفح الصفح الجميل”(85،الحجر)،عند الطبري: “الساعة التي تقوم فيها القيامة لجائيّة،فرضّي بها المشركين،قومك الذين كذبوك،وردوا عليك ماجئتهم به من الحق،فاصفح عنهم (…)وأعرض عنهم(…)”.أما السيوطي،المحرج كعادته،فقد مر بخبر قرب مجيء الساعة مر الكرام، مبتدأ تفسير الآية من شطرها الأخير”اصفح الصفح الجميل”؛

“أو تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون”(107،يوسف)هم،مشركوا قريش.يفسرها الطبري:”أفيأمن هؤلاء الذين لا يشعرون بأن الله ربهم،وهم المشركون(…)أن تأتيهم القيامة وهم مقيمون على الشرك (…)[في مكة]لقد خسر الذين(…)انكروا البعث بعد الممات والثواب والعقاب،والجنة والنار،من مشركي قريش (…) حتى جاءتهم الساعة، التي سيبعث الله فيها الموتى من قبورهم فجأة، من غير علم (…)”؛:”بل ويقولون متى هذا الوعد؟(…)بل تأتيهم بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها ولا هم يُنظرون”(الأنبياء 39،37)،معنى الآيات:يقول مشركوا مكة ساخرين:متى سيتحقق وعد قيام الساعة؟ يرد عليهم نبي الإسلام:قريباً ،وقريباً جداً ستأتيكم الساعة بغتة فتجعلكم حيارى،غير قادرين على ردها وصدها للنجاة منها،والأدهي أن الله لن يقبل منكم طلب تأجيلها إلى موعد آخر! طبعاً تأجّل مجيئها ومازال مؤجلاً!،وفي آية أخرى يتوعد مشركي مكة باقتراب الساعة أيضاً:”اقتربت الساعة وانشق القمر”(1،القمر).

كالمعتاد،تجاهل السيوطي تفسير”اقتربت الساعة”،وراح يلف ويدور حول مأثورات متعارضة عن “انشقاق القمر”،مرة اعتبره انشقاقاً رمزياً، يجعل وجه نبي الإسلام يضئ كالقمر يوم القيامة،ومرة اعتبر الإنشقاق وقع فعلاً وتفرج عليه المشركون، ولكنهم لم يؤمنوا، ومع ذلك لم تعصف بهم عاصفة الساعة!ناسخاً هكذا لا شعورياً، بل ربما شعورياً، نصف الآية الأول معتبراً لها كأنها لم تكن،إذ قد مضت 9 قرون على اقترابها ومازالت لم تقترب بعد!.

صحيح أن الكون،الذي تكون منذ13 مليار سنة قد يفنى،في أحد السيناريوهات الفلكية الفيزيائية، تحديداً فرضية أينشتين،لكن لن يحدث ذلك إلا بعد 15 مليار سنة قادمة. ومن الجنون المطبق اعتبار هذه المسافة الزمنية الضوئية” قريبة كلمح البصر أو هو أقرب”،ولا أن مشركي قريش كانوا سيعيشون 15 مليار سنة أخرى” لتأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون”!.

مراجع الفصل السابع

1 ـ ميشيل هانوس،طب نفس الراشد ص 22،دار مالوان،باريس.

2 ـ الطبيب النفسي ب.مارشِ في كتابه “سحر وأسطورة في الطب النفسي”ص 185 ،دار ماسون، باريس ، 1977.

3 ـ طب نفس الراشد ص 64.

4 ـ سوسان الطب النفسي 2001 ـ 2002 ص 129.

5 ـ طب نفس الراشد ص 34 مصدر سابق.

6 ـ طب نفس الراشد ص 64.

7 ـ طب نفس الطالب ص 64.

8 ـ نفس المصدر والصفحة.

9 ـ نفس المصدر والصفحة.

10 ـ نفس المصدر والصفحة.

11 ـ نفس المصدر ص ص 48،47.

12 ـ نفس المصدر ص 35.

13 ـ ملف خاص بالذهان الإهتياجي الإكتئابي،نوفيل ابوسرافاتير 07/02/2013.

About العفيف الأخضر

العفيف الأخضر (1934-213 ) ولد في عائلة فلاحين فقراء في شمال شرق تونس سنة 1934. والتحق بجامعة "الزيتونة" الدينية ("أزهر تونس")، ثم بكلية الحقوق. ومارس مهنة المحاماة بين 1957 و1961، ثم تخلّى عن هذه المهنة وسافر إلى باريس في 1961، قبل أن يلتحق، مع يساريين آخرين، بنظام الرئيس أحمد بن بلا غداة إستقلال الجزائر. وانتقل إلى الشرق الأوسط في العام 1965، وتنقّل بين عمّان وبيروت حيث طبع أهم كتبه التي كان محورها "نقد الفكر الإسلامي التقليدي". غادر العفيف الأخضر بيروت محزوناً بعد اندلاع الحرب الأهلية، وبعد أن صدم أصدقاءه اليساريين بموقفه الرافض لهذه الحرب، والرافض لكل مبرّراتها "التقدمية". فقد هاله أن اليسار اللبناني لم يدرك أنه كان يسهم، بدون وعي، في تحطيم الحصن الوحيد للحرية في العالم العربي "الغبي والمستبدّ". ويعيش "العفيف" في باريس منذ 1979، ويكتب لصحيفة عربية، ويحاضر أحياناً في القاهرة أو يشارك في نقاشات تلفزيونية في محطات فضائية عربية. لماذا ننشر مقالات "العفيف الأخضر"؟ لأن التاريخ يتقدّم بمنطقه الخاص، والفكر "الخارجي" يمكن أن يصبح فكر الساعة "من حيث لا تعلمون". وليس سرّاً أن العفيف الأخضر كان أول دعاة "تجفيف منابع" الفكر الأصولي الإرهابي بعد أحداث 11 سبتمبر-أيلول 2001. كتب العفيف الأخضر: التنظيم الحديث، دار الطليعة، 1972. الموقف من الدين، دار الطليعة، 1973 (الذي تدخّل رئيس تنظيم ديني في لبنان لمنع طبعته الرابعة).
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.