الليالي الخمسة 1

الليالي الخمسة 1

محمد الرديني

الليلة الاولى

في يوم غائم من ايام يناير الباردة انطلقت الباخرة ( اليم) من ميناء البصرة متجهة الى المحيط الهادىء، وفي هذا اليوم بالذات كانت الامطار لاتكف عن السقوط.
كانت الساعة تشير الى الثالثة والنصف بعد الظهر والجو الغائم يوحي بالكآبة رغم ان البحارة كانوا مشغولين عن كل شيء الا عن ترتيب اغراضهم الشخصية فوق سطح الباخرة والتأكد من انهم قد اكملوا كل مايحتاجونه.
اطلقت الباخرة وهي من بواخر الصيد الحديثة صفارتها معلنة مغادرة الميناء ، ولم تكد تمضي نصف ساعة حتى كانت الباخرة “اليم” تمخر مياه شط العرب بهدوء غريب .
اصطف طاقم البحارة فيما كان رئيسهم الذي يطلق عليه ( الكابتن قاسم) يقف في منتصف الطابور الى الامام قليلا ، في الثلاثين من عمره ذو وجه ممتلىء يخيل لمن يراه انه خلق للعيش في البحر فقط ، يقولون عنه انه كتلة نشاط وهاجة،  يشرب الكحول ويأكل بافراط ولكنه لايدخن. من يقترب منه يحس انه يملك ملامح ودودة تعكس طيبة ونبلا طبيعيين، سريع في تنفيذ الاوامر الصادرة كما سريع في حركته حين يراه البحارة وهو يتسلق طوابق الباخرة صعودا ونزول عبر سلم من الحبال المتينة.
كان الطابور ينتظر قدوم قائد الباخرة للتفتيش ورغم ان الظلام بدأ يغطي سطح الباخرة الا ان البحارة ظلوا معتدلي القامة الابعضهم الذين اخذوا يتمايلون في اماكنهم ضجرين من طول الانتظار.
صرخ قاسم بصوت مخنوق بعض الشيء طالبا من البحارة ان يقفوا بانتظام . جاء قائد السفينة ذو الوجه الاحمر المنمش وتفحص الوجوه بوجه روتيني لايكاد يخلو من ضجر المهنة ، كان ينظر الى الصف المتراص امامه بعينين محتقنتين وتعابير وجهه تنبىء عن رجل فقد المتعة في هذه الوظيفة.
انتهى العرض الروتيني للبحارة ولم تمض دقائق معدودة حتى خمد سطح الباخرة تماما اذ اصطف البحارة في طابور طويل انتظارا لاوامر الكابتن قاسم في المغادرة بعد توزيع ارقام القمرات عليهم. لم تمض دقائق حتى كان الجميع قد حصلوا على ارقام قمرتهم وبدأ كل واحد منهم يتفحص وجه الاخر.
كان محمد ينظر الى النوارس وهي تحلق قريبة من سارية الباخرة حين احس بيد احدهم تربت على كتفه.
” ماهر محمود ، البحار الذي سيسكن معك في قمرة واحدة”.
بايجاز رد محمد:
” اهلا وسهلا انا محمد العسكر”.
في القمرة استطاع محمد ان يحشر اغراضه في دولاب خشبي صغير معلق فوق سريره من جهة الرأس. كان واضحا انه يرى مثل هذا السكن  ” القمرة”  للمرة الاولى لم يبال للامر بل استغل انكباب ماهر على ترتيب اغراضه ليلقي عليه نظرة متفحصة. كان يبدو  انه تجاوزالعشرينات من عمره بقليل، اسمر الوجه ممتلىء كأنما ولدته امه وتركته لسنوات تحت الشمس ، لاتخلو نظراته من بعض السخرية ولكنه يبدو على قدر من الذكاء
” هل انت بحار جديد؟”
سأل ماهر.
” نعم هذه هي المرة الاولى اركب فيها باخرة.
ابتسم ماهر :
” ستعتاد عليها وعلى شخيري”.
” اني معتاد على شخير ابي “.
ضحك ماهر بقوة :
” ولكن شخيري هو شخير البحارة الموالين”.
لم يستطع محمد ان يفهم ماذا يقصد بكلمة الموالين، بالحقيقة ان الامر ليس على هذه الصورة فهو يعرف نفسه جيدا ، انه صعب المراس كما انه صعب التآلف منذ اول وهلة ولهذا فهو يغلق اذنه عن بعض الكلمات التي لايريد سماعها حتى لايزداد الاخر تقربا منه. ولكن الذي يعرفه جيدا لايمكن الا ان يقول انه طيب القلب جيد الاصغاء دافىء الحديث ولكنه  ليس سريع الميل االى الذين لايعرفهم جيدا.
” بعد ان تنام سأتحدث مع نفسي قليلا”.
قال ماهر ذلك وهويضحك نفس ضحكته السابقة. لم تمض دقائق حتى كان شخير ماهر يعلو شيئا فشيئا حتى ملأ جو قمرة الباخرة العائمة في وسط البحر ، هذه القمرة التي لم يتجاوز عرضها المترين تحوي سريرين متوازيين وكوة زجاجية تطل على البحر يمتد اسفلها صنبور المياه .
حاول محمد بعد ان مد رأسه نحو السرير السفلي ان يصرخ بوجه ماهر ليكف عن هذا الشخير ولكنه آثر في آخر لحظة ان ينزل من سريره العلوي ويهزه من شعرات رأسه، ولكن حتى هذه المحاولة لم تنجح فقد كان شابكا ذراعيه الواحدة فوق الاخرى فاتحا ساقيه الى اقصاها، وكانت اللحظات التي يتوقف فيها عن الشخيرهي تلك التي يمص فيها شفتاه العلوية ثم السفلية بانتظام غريب. لم تجد محاولات شد الشعر ولاخضه بقوة في ايقاف هذا الهدير الذي خيم على هواء هذه الجحر الرباعي ذو الكوة الزجاجية ذات الصنبور القصير.
كان جسد ماهر يوحي وهو نائم انه من ذلك النوع الذي يستسلم للنوم بسهولة ، انه يجد فيه ملاذه الوحيد على مايبدو، يدخله في مغارة لها فتحة ضيقة ينجبس فيها الهواء بقوة ، في داخلها ظلام دامس لاتحسه الا العين التي ينفتح فيها البؤبؤ ليس من اجل زيادة الرؤية ولكن لتمر عليه نسمة هواء باردة ، بعد ذلك لايهم ان يبقى البؤبؤ مفتوحا ام لا فالظلام الاسود يكون قد انتشر في كل مسامات الجسد وخدره الى حين.
لم يكن قد تجاوز الخامسة والعشرين من عمره  لايبدو قصير القامة ولكن سحنة وجهه تنبىء عن ذلك الفيض من الدعة والاستسلام لكل من حوله . لم يكن يؤثر ان يظل واقفا يبحلق في وجه هذا البحار ذو الهدير العالي ، حمل نفسه وغادر الى سطح السفينة.
لم يكن قد تعود على ركوب مثل هذه البواخر العملاقة والتي بدت كانها نوع من الحيتان الزرق التي تتهادى وسط البحر وهي تغط رآسها في الماء بين  الحين والاخر، ورغم ان البحر كان هادئا في تلك اللحظات الا ان مقدمة السفينة التي يبرز منها ضوء اصفر خافت كانت تغط هي الاخرى في الماء ولكن اسرع بكثير من غطسة الحيتان الزرق.تذكر كلمات صديقه الذي جاء ليودعه :انك ترى كم هي هذه الباحرة عملاقة ولكنها في البحر ستكون علبة كبريت.لم يعلق وآثر الصمت.
بدت انواراالساحل تخفت تدريجيا وينفرط عقدها نصف الدائري  بعد ان كان وهاجا وهو يلف نخيل شط العرب وبدأ الظلام يلف كل شيء ، الساحل والبحر والنخيل الذي بات بعيدا جدا، وفي تلك الساعات كانت الامطار لاتكف عن السقوط.
لم يكن محمد عبد الرحمن حمد العسكر – وهذا هو اسمه الكامل – بحارا بالمعنى المعروف فقد ساقته الظروف ليكون على ظهر هذه السفينة التي ستقطع المحيط الهندي  وصولا الى المياه الدولية ، هي من اجل صيد الاسماك وهو من اجل المغامرة كما يقول ولكن الحقيقة هي من اجل لقمة العيش.
قبل سنوات كانت امنيته الوحيدة ان يركب البحر، قرأ عنه كثيرا ، كانت قصص البحارة ومغامراتهم تملأ مسامعه . حين يدلف الى الفراش ليلا ويغمض عينيه يبدأ رحلته الليلية، يبتسم لتلك الحورية الطالعة من البحر والتي تناديه كاشفة عن صدر مرمري لايتحرك وابتسامة لاتقاوم.
” تعال انزل الى البحر “
” …….”
” ساعلمك السباحة انها ليست خطرة  الى هذا الحد”.
” انا ابن الشط والبحر مغامرة هلامية في رأسي”.
” هل بدأت تخاف ، تمنيت ان تكون بحارا لتكون مثل هؤلاء الذين يصارعون الامواج ويصطادون اسماك القرش ويطحنون لحمه ليستخرجوا منه الزيت، وعلى سطح السفينة يخلطون النبيذ مع العرق ويشربون الكاسات الثلاثة الاولى دفعة واحدة ثم يرقصون عراة حتى الصباح  تحت ضوء المصابيح االمنتصبة على طول سياج الباخرة، وحين تلوح لهم ارض قريبة يحسبون عدد الساعات التي سيصلون بها اليها لتبدأ حفلة الكافيار المجفف والنبيذ الابيض.
” اني لااعرف ذلك”.
تستطرد الحورية غير ابهة:
” وقبل ان يصلوا الى الارض القريبة بزمن قصير يصطف البحارة في صفين متقابلين يمسك كل واحد منهم زجاجة نبيذ تكون قريبة الى فمه،وما ان يسمعواصفارة رئيس البحارة حتى يفرغ كل واحد منهم مافي زجاجته في جوفه.
” لماذا كل ذلك؟”.
” استعدادا لنساء الموانىء المنتظرات بلهفة على الرصيف”.
” ولكن …”
” لم اكن اعلم انك ممل الى هذا الحد”.
 يستيقظ متوفزا ، حبات العرق تغطي كل جسمه المشبع بلهاث من كان يتدحرج من جبل مسنن، اختفت الان مصابيح شط العرب تماما  واخذ الظلام الدامس يحجب عنه مايريد ان يراه في هذا البحر الذي يطل عليه لاول مرة.
هاهو البحر يمتد امامك، ظلامه يبعث الرهبة حتى ليخيل اليك ان تلك النجوم البعيدة كانت ترتجف خوفا من تلك الرهبة اذ بدت اصغر حجما من تلك النجوم المنتشرة فوق سماء شط العرب .
اهذا هو البحر، اهذا هو الذي كان مادة حديث الشباب كل ليلة في مقهى داغر المطلة على نهر العشار.
قال احدهم:
” آه لو اتنقل بين بحار العالم طيلة حياتي.
قال آخر:
” انهيت اليوم قراءة رواية حنا مينا( الياطر)، لقد ادهشتني تلك الصور الرائعة عن البحر والصيادين ومغامراتهم في تلك الموانىء الصغيرة.
قلت باحتجاج:
” ان بحار العالم كلها متشابهة.
صاح احدهم بوجهي :
“وكيف تسنى لك ان تعرف ذلك.
” من الروايات والقصص.
” وهل كل الروايات والقصص متشابهة.
” لم اقصد ذلك.
” اذن ماذا تقصد.
كنت اعرف ان النقاش سيدور كالعادة في دوامة لاتنتهي وكنت اعرف ان الواحد فينا لايطيق ان يخالفه احد في الرأي والا سيكون الاعتراض على كل ماتبقى من الحديث هو الفيصل.
دنوت من اقربهم لي في الجلسة وهمست له مراوغا:
” لماذا بعضهم يبغض الديكتاتورية في تنظيراته ويمارسها بلذة مع الاخرين.
اجاب ببرود:
” هذه حال المثقفين الشباب.
وفجأة اخترق صوت فلاح حاجزا التوتر:
” لقد تأخرنا عن موعد العرق ياشباب.
في تلك الليلة بكى فلاح بعد ان غنى طويلا. كان نحيلا طويل القامة، وكان طول رقبته يجعلنا نتخيل ان رأسه  سيسقط على كتفيه في اي لحظة، حتى اذا هدأ قليلا جرع كأسه المليان مرة واحدة وامسك قلمه المتلفع بريشة بيضاء انيقة وطفق يرسم.
لم يكن فلاح موهوبا في الرسم فقط وانما كان خطاطا رائعا لايمل من الحديث عن الرسم ويبلغ الحماس فيه اشده حين يتحدث عن وجوه الاطفال التي لاتتكرر فيها التعابير الا مرة واحدة في العمر. واذا تغيرت دفة الحديث فانه ينزوي مع قلمه واوراقه ساندا ذقنه على يده اليسرى ساهما في الورقة البيضاء التي امامه ثم يبدأ يحرك قلمه ذو الريشة البيضاء عليها.
في تلك الليلة احس الجميع ان بكاء فلاح هذه المرة لم يكن ضمن الخطة اليومية المعتادة. لم نكن نطلب البكاء ونحن نكرع كؤوس العرق،الامر لم يكن بهذه البساطة فما تدخل تلك النشوة الرائعة داخل القلب حتى يمشي بها كدبيب النمل الى الوريد و الشريان، حتى العظام تبدأ تلين واذا مااستقرت هناك لاح في الافق خيط ارجواني، انه يتوسد الزاوية من السماء دائما، انه بالحقيقة يكون على يسارنا دائما حين نجلس على الحشيش المبلل امام شط العرب مولين ظهورنا لتمثال السياب الذي يلوح بيده نحو مشاحيف وابلام الشط. وماهي الا لحظات حتى يدندن احدنا باغنية ما ، ندندن معه، ترتفع الدندنات قليلا، يتحشرج صوت احدنا، يكاد يختنق صوت آخر، نحس بنشيج صوت ثالث يصيبنا بعدوى البكاء ، يبكي الجميع كما لو ان العالم يقف برهة ليتفرج على تلك الجبال المترامية من الحزن والاسى المحمولين على اكتافنا.
في تلك الليلة نعرف جميعا ان فلاح لم يكن يبكي مثلنا، كان بكاءا له صوت أخر كان الواحد فينا يعرف وهو مغمض العينين ان هذا النشيج او ذاك هو خاص بواحد فينا لايمكن مماثلته مع الاخر . ولكن نحيب فلاح هذه المرة كان مختلفا جدا.
سقط المطر غزيرا على سطح السفينة واشتد صقيع البرد الذي زاد من لسعاته هذه الريح التي كانت تأتي من كل الجهات ، لم يكن بالامكان الصمود اكثر على هذا السطح الذي لم يكن رطبا فقط وانما مشبعا بهواء لزج تبعثه محركات الديزل في قاع الباخرة.
حين عدت الى القمرة كان ماهر مستيقظا وعرفت منه ان شخيره هو الذي ايقظه ولم تكن تلك هي المرة الاولى التي يحدث فيها ذلك كما عرفت فيما بعد.
” انا اعرف انك هربت من شخيري.
قال ماهر ذلك بطريقة ساخرة
” لاعليك فقد اتحت لي فرصة رؤية البحر ليلا من على سطح سفينة.
قلت ذلك لاخفف ربما عنه شعوره بالذنب.
رد ضاحكا وهو يمسك زجاجة العرق:
” بهذه لن تهرب بعد الان تعال نشرب صحة التعارف.
لم تغرني المرأة كما يغريني كأس العرق ، لهذا لم اجد غضاضة في قبول دعوته على الفور.
عند الكأس الثالثة بدأ ماهر يدندن باغنية ريفية، ارتفع صوته قليلا ولكنه سكت فجأة، التفت الي مستفسرا.
” اتعرف لماذا اخترت ان اكون بحار”ا.
“………”
” كنت اسمع منذ الصغر عن الموانىء التي تنتظر فيها النساء البحارة القادمين من اعماق البحار كما كنت اسمع عن تلك المغامرات التي لم اكن اتخيلها ابدا في حياتي . كنت استرق السمع الى ابي وهو يحدث اصدقائه عن مغامراته البحرية. سمعته ذات مرة يقول:
“حطت بنا الباخرة ذات يوم في احد الموانىء الافريقية ، في ذلك الميناء كانت السمراوات ينتظرن عند البوابة، كانت هناك اكثر من اربعين فتاة لايزيد عمر الواحد منهن عن العشرين سنة.
وفي تلك اللحظة يسكت ابي ليرى تأثير ماقاله على وجوه مستمعيه وحين يتأكد من ان كل شيء يسير ضمن الخطة يعود للحديث بحيوية اكثر:
” كانت الفتيات يلوحن لنا كأنما جئن لاستقبالنا خصيصا.
ويسكت ابي بعد ان يرسم علامة الدهشة على وجهه ولكنه يضحك يعد حين ويكمل:
” قال لي احد البحارة ان نساء البحر كما يطلق عليهن  يتابعن صفحة الموانىء كل يوم ولهذا فهن يعرفن مواعيد وصول البواخر ويستعدن لاستقبالها.
ويصمت ابي مرة اخرى، يبدو انه كان يتلذذ بهذا التلهف المرسوم على الوجوه وكان وجهي المختفي وراء الباب احدهم . يعود ابي للحديث مرة اخرى ولكن بصوت اشبه بالهمس:
” كان نصيبي فتاة في الثامنة عشر من عمرها، لوحت لي بيدها ثم ركضت نحوي وضمتني الى صدرها، كانت ترطن بكلمات لم افهمها ولكني لم اعر ذلك اهتماما فقد كنت احس بصدرها الكاعب ينهش صدري بينما امتلأت خياشيمي برائحة شعرها ،   الرائحة التي تشبه تلك التي تنبعث من الارض حال سقوط المطر.كان امامنا اربع وعشرين ساعة قبل ان تغادر باخرتنا الى ميناء أخر – هكذا استمر ابي في الحديث- وفي الساعات الاولى من تلك الليلة نمت على صدرها، كان حنانها يدفعني الى السكون، الى ذلك الاحساس بكونها ليست غريبة ..انه شعور من يحضن جسدا عزيزا عليه , فقط ان يلفه بين ذراعيه ويحس برأسه يدغدغ شعرات صدره  وتنهمد  فيه كل الاحاسيس الشهوانية بعد ان ثارت وزمجرت قبل ذلك بوقت قصير.
في تلك الاثناء  تخدرت اصابع يدي وخمدت شعرات رأسي وبادت ساقاي وعيناي وحاجباي وحتى مؤخرتي ليحل محلها ذلك الاحساس الذي يشبه احساس الطفل حين يحتاج الى رضعة من حليب امه.
يزفر ابي ويكمل:
” كانت هذه السمراء تعرف تمام على مايبدو كيف تتعامل مع امثالي.
يسكت ابي مرة اخرى ولكن ليسترجع ذكرياته هذه المرة كما يبدو ساهما، بعد ثوان استطرد:
” وكما الطفل تغير له امه ملابسه كانت تنزع عني ملابسي قطعة قطعة وتطبع قبلاتها الحارة كلما لاح لها جزء عار من جسدي. كنت اتأوه حتى ليخيل الي ان هذا التاوه قد انقلب الى مواء شبيه بمواء القطة التي ترى وجبة الطعام تقدم اليها . لحظات يقف فيها العقل عن الحركة , ينغلق تماما ليحل محله شعور بانك ابن هذه اللحظة فقط.. انه احساس غريب حين تدرك فجأة انك تنتمي لمساحة صغيرة هي المكان الذي تسترخي فيه الان فقط.
وجدت نفسي بعد لحظات عار تماما ، لااراديا كنت اضع يدي على عورتي، سمعتها تضحك بقوة حتى اغرورقت عيناها بالدموع، تقدمت الي وعيناها ماتزال تشع بالضحك، كنت ارتجف رهبة  فلاول مرة اقف عاريا امام امرأة، تضاعفت رهبتي حين طبعت قبلتها الاولى على خدي ثم سارعت لتنهش جسدي بالقبل نازلة من الاعلى مرورا بصرتي وانتهاءا باصابع قدمي. كنت اشعر اني دمية آدمية تلهو بها طفلة بلغت سن الرشد قبل اوانها ، مددتني على الارض ، كنت ابحث عن مقاومتي التي ذابت حين تمددت وغطت جسدي  بحيوية لم اجد مثلها، وكيف لي ان اجد مثلها وانا لاافقه شيئا من هذا الذي اراه امامي، ياالهي هل اتمكن من الصراخ الان  هل يمكنني ان اتأوه حتى يسمعني مارة الطريق. كيف يمكنني الان ان اواجه ضعفي …. عيب على الرجل ان يفضح مشاعره الجنسية وهو نفس العيب على المرأة التي  ستكون من بنات الهوى اذا تأوهت او بان ما يكشف عن لذتها اوشبقها.
كنت اقول لنفسي وانا في غمرة الذوبان: عيب ياولد ليس مثلك الذي يتأوه او يصرخ او يبان ضعفه امام امرأة. انقلب عليها، خذها بين يديك ولا تدعها تأخذ المبادرة ، احضنها بقوة، مارس رجولتك بالكامل عليها، لاتسمح لها ان تكون هي الرجل، ولكن لم ذلك ؟ لماذا لاتجرب العكس بعد ان اخفقت منذ المرة الاولى في زواجك وانت تعديت الخامسة والعشرين. منذ ان تزوجت وانت الرجل الذي يريد من المرأة مايريده في اي وقت يشاء والمرأة هي المستجيبة ، انها الحوض المهيىء دائما لاستقبال حيامن الرجل اما بيضها فلا اكثر من حيوانات صغيرة تقف بالطابور تنتظر من يقع عليه القرعة ليحضنها. سلمت امري لها ولم يكن ذلك بالامر السهل فقد كنت اتلوى كأن هذا الجسد الذي فوقي قد انقلب الى اسياخ حديد ملتهبة … يزداد اللهيب سعيرا كلما كانت أهاتها تخترق اذني التي لم تسمع مثل هذا الانين من قبل. هل صحيح ان المرأة تلتهب كما الرجل ، لم اسمع ذلك من قبل ربما تكون هذه المرأة ممثلة جيدة ولكن ما اجمل التمثيل حين يكون المتفرج شخصا واحدا.
كان ماهر يلهث وهو يتكلم، لم اعرف عدد الكؤوس التي شربها ولكني اكتشفت انه كان نصف عار وقد افترش الارض وبان في عينيه وميض غريب وعاف الدم وجهه حتى بدا وكأنه مسجون في زنزانة انفرادية لفترة طويلة ثم اخرج الى النور فجأة . انه تماما مثل ذلك الذي يقودونه الى ساحة الاعدام وهو لايدري ماهي تهمته.
تدلت رقبته على جنبه الايسر وهو مايزال يفترش الارض وغط في نوم عميق ولكن بدون شخير هذه المرة.
بعد ستة ايام رست الباخرة في ميناء موريشيوس على المحيط الهندي.
 بدت تلك الجزيرة لاول وهلة كأنها عملاق اخضر احنى ظهره نحو المحيط الهندي او ربما بدت مثل القوقعة الضخمة غطس نصفها السفلي في ساحل البحر بينما بان نصفها الاعلى وهو يؤمىء نحو نقطة بعيدة عن الشاطىء كانما ترحب بالبحارة القادمين على الطريقة الصينية.
دب نشاط غريب في حركات ماهر حين  عرف ان الباخرة رست في موريشيوس . ما ان غادرنا ارض الميناء انا وماهر حتى انهمر علينا مطر غزبر، كان يسقط على شكل كتل مائية منفصلة عن بعض . احتمينا باول بار صادفناه.
بعد سنوات قليلة ادركت – وهو حس تآمري على اية حال – ان المطر وموقع البار القريب من مدخل الميناء كانا السبب الحقيقي وراء اختفاء ماهر وسط ادغال موريشيوس ليوم كامل.
كانت تتوزع في البار طاولات لايعرف لها لون ورغم ان البار لم يكن مزدحما في تلك الساعة الا ان الصخب الذي كان يصدر من الطاولة التي حاذت مشرب البار كان قويا وملفتا للاهتمام. تحلقت حول تلك الطاولة ثلاث سمراوات متقاربات في العمر، الواحدة منهن لايزيد عمرها على العشرين عاما فيما احتلت الطاولة المجاورة عجوز بدت اكثر  بياضا من ان تكون افريقية ، فهي تتمتع بانف طويل يتوسط خدين ناتئين ورأس صغير يستند على رقبة بانت اوردتها بشكل يفضح عمرها الحقيقي الذي ربما تعدى الستين. ورغم انها حاولت ان توحي بفستانها القصير والملون بالوان زاهية وشعرها المرتب بعناية بانها لما تزل تحب الحياة وتريد ان تغرف منها ماتريد الا ان ساقيها باوردتها الناتئة قد خذلتها . خارج البار وعلى يمينه  شارع مرتفع انتصبت فيه كنيسة متواضعة ارتمت داخل سياجها عشرات المقابر ذات الشواهد العالية وماعدا ذلك كان الشارع خاليا من المارة ومياه الامطار بدأت تجرف معها اوراق الاشجار الى المنحدر الضيق المطل على المحيط.
” بماذا تفكر؟
سأل ماهر
” لاشيء
ضحك  ورد بصوت حاول ان يجعله غنوجا:
” كل هذا الشرود ولا تفكر بشيء … اراهن انك تفكر في الطريقة التي تحصل فيها على جسد اسمر.
” ……..”
ادرت وجهي بعيدا ، كنت افكر فعلا ولكن ليس بجسد اسمر وانما حلقت بعيدا نحو البصرة وتمثال السياب وكأس عرق .
تنبهت الى صوت انثوي يتحدث بانجليزية طليقة:
” هل يدعوني احدكم الى كأس نبيذ؟
      كانت صاحبة الصوت  قريبة من طاولتنا، رأيتها منتصبة امامنا بقامة بدأت تميل الى الامتلاء قليلا خصوصا عند الردفين بينما برز صدرها المتكور الى الامام وبدا وجهها ضحوكا الى الدرجة التي لايحتاج المرء الا الى قليل من الجرأة ليدعوها الى فنجان قهوة ، كان في صوتها بحة من يدخن بافراط.
هب ماهر كأنما لسعته افعى وصاح مرتبكا:
” تفضلي”
صحت به بعد ان سحبت كم قميصه الى الاسفل:
” هل تعتقد انها تتكلم العربية.
تهالك على الكرسي وبالكاد سمعته يقول:
” ارجوك ادعوها الى الجلوس.
رأيت وجهها يزداد ضحكا حين دعوتها للجلوس بلغة انجليزية مزودة بالاشارات. تمتمت بكلمة شكر وجلست بعد ان وضعت حقيبتها اليدوية الضخمة على الطاولة وبدا عليها الارتياح كانما انجزت الخطوة الاساسية في مشروع مهم.
كان رأس ماهر قد اقترب كثيرا من وجهها بينما رسم على وجهه ابتسامة انتصار بدت رائعة حتى في غبائها.
قال ماهر دون ان ينظر الي :
” اطلب لها نبيذ يااخ.
” حاضر.
قلت هذه الكلمة متأففا
آه – ايها السادة – رجل قادم من الشرق بل من شرق الشرق ومن مدينة يركض فيها الرجل نحو المرأة، يلهث ويشعر بانه طير كناري حين يلتقط انفاسه ثم يعاود اللهاث مرة اخرى، ولديه كل العزم والاصرار ليظل يلهث طول العمر من اجل نظرة من عينيها ، ينام وفي شرايينه تجري تلك النظرة، انها تدغدغ كرياته الحمراء والبيضاء وحين تصل الى القلب تغفو هناك ، واذا صحا وجهها في قلبه فانه ايضا يقف امام عينيه ليملأ كل المكان حوله. وتكون الكارثة لو انها هي التي تلهث وراءه، حينها سيذبل كل شيء، لا القلب يدق ولا الريق ينشف ولا الساقين يستطيعان حمل بعوضة، كل شيء في الجسم يذبل ولايمكن ان يجري فيه الدم لكي ينتصب مرة اخرى ، اذ هل يمكن ان نتصور ان المرأة تلهث وراء الرجل.
” قلت لك اطلب لها نبيذ ياأخ.
” حاضر.
سمعتها تقول :
” من اين انتم …. اراكم تتكلمون بلغة العيون.
ضحكت وترددت قليلا قبل ان ارد ولكن ماهر سبقني وقال لها بالاشارات بان النبيذ سيصل حالا. دارت اليه جسمها بالكامل وظل صدرها منتصبا امام وجهه وقالت فجأة مخاطبة ماهر:
     ” لك عينان ساحرتان واهدابك مقوسة انها تدل على القوة والعنفوان.
ضحكت مرة اخرى بينما نظر الي ماهر بنشوة طالبا ترجمة فورية لما قالته. استطعت بعد محاولات جادة ان اوصل الى ماهر ما قالته، رايته ينتصب واقفا كانما اكتشف خللا في عقله وهجم على وجهها يقبل كل مكان فيه بسرعة لم اكن اتصورها ابدا. وكانما كانت تنتظر من ماهر هذه الحركة فبادرت بوساته بقبلة طويلة طبعتها على شفتيه.
لاادري لماذا بدا  ماهر في تلك الصورة كالعصفور ( اللحيمي) الذي خرج للدنيا لتوه ولا يعرف بالضبط ماذا عليه ان يفعل.
” انها فتاة احلامي يامحمد… لااريد ان اضيع هذه الفرصة، حاول .. حاول – عيني محمد- ان تجعلها تحبني.
ضحكت للمرة الثالثة ولكن لم تكن ضحكة سخرية هذه المرة بل كانت مزيج من الدهشة والالم والاستفزاز والحنق على كل شيء.
هل انا مريض فعلا ام اني معقد الى درجة لايصعب الشفاء منه، ان الامر يبدو طبيعيا ، انها امرأة مثلها مثل اية امرأة في هذا العالم رأت رجلا اعجبت به وبادرته بكلمات الغزل قبل ان يبادرها هو، انه امر طبيعي. ولكن آخ من ذلك  الشرقي الذي يعيش في ذلك المكان الذي يبدو وكأنه هناك منذ آلاف السنين، هو .. هو نفسه منذ آلاف السنين، آخ منك لاتريد ان تنتظر وتعرف النتائج ، قليل الصبر سريع الانتصاب، سريع الميلان والجفاف بل ان عطبك اسرع من اداء الواجب الثقيل ولكن هيهات ان يكون الامر مفهوما كما يفهمه الآخرون.
كان يقف الساعات الطوال امام بيتها فقط من اجل ان يراها، تطل من الفتحة الصغيرة التي تتوسط باب البيت الحديدي، فقط يريد ان يراها ان كان في الليل او في النهار لايهم، المهم ان تطل او ان تمد برأسها من على  سياج سطح البيت او بابه الحديدي.
  ويراها.
حينها يعود الى البيت مثل اي فارس منتصر، لايهم ان لم ير ملامحها كاملة فهو يقف في ركن الشارع، وجهها يبعد عنه اكثر من ثلاثين مترا، وهي تعرف انه ينتظرها وهذا هو المهم . كان بوده ان يرى ملامح وجهها، تقاطيع جسدها، ماذا لو ارادت ان تراه، كيف سيتعرف اليها ؟. ظل اكثر من ثلاث سنوات وهو لايفارق المكان وظلت هي مواظبة على اطلال رأسها من فتحة الباب الحديدي او فتحات سياج السطح، كل الذي يعرفه انها طويلة او كما يقولون انها ممشوقة القوام ذات بشرة بيضاء على غير العادة وشعر اسود فاحم.
وكانت المفاجأة ذات يوم حين سلمتني اختها الصغيرة رسالة قائلة انها من اختها احلام، ولأن هذه البنت صغيرة لم تتجاوز السبع سنوات فقد اخذتها بالاحضان وقبلتها في كل وجهها ولم اكترث لدهشتها واصفرار وجهها.
قرأت الرسالة: تقدم الي امس خطيب يحمل رتبة عالية في الجيش وقد فرح ابي وابدى موافقته في الحال اما انا فما زلت مترددة لاادري ماذا افعل هل يمكنك ان تشير علي، ارجوك اني في حيرة من امري.
هل هي الصاعقة ام الخراب الكبير الذي وقع علي، كيف ساشير عليها وانا مازلت استلم مصروفي اليومي من امي وبيني وبين التخرج من الثانوية عشرين شهرا.
   في ذلك اليوم  بكيت كما لم ابك من قبل ، وتمنيت ان اكون حفيدا لاحد التجار المعروفين في مدينتنا ، على الاقل يمكنني ان افعل شيئا.
واخيرا  قررت ان اكتب لها ولكن ماذا ساكتب، انها المرة الاولى التي اكتب فيها الى امرأة، هل انسج لها قصائد غزل ام انشد لها اناشيد الحب واسطر لها ماقاله قيس في ليلى ، لا وقت لذلك فابوها سيقرر مصيرها بعد ايام .
حسنا لاكتب اي شيء على الاقل ستشعر اني اقف بجانبها. استهليت رسالتي باغنية لفريد الاطرش             ( وحداني حاعيش كده وحداني)، اما لماذا هذا الاستهلال فلم اكن اجد له تفسيرا سوى شعوري بان الاغنية كانت تعبر عما في داخلي بصدق، ولكني مع هذا لم اجرؤ الا على كتابة كلمات حسبتها في ذلك الحين انها ستوفي بالغرض.
وكانت الرسالة اليتيمة التي نقلتها اختها صاحبة السبع سنوات ، وبعدها لم تعد تطل من فتحات سياج السطح ولا من الباب الرئيسي. كانت ايام صعبة تعلمت منها كيف يتسنى للانسان ان ينزوي وحيدا، يتعلم كيف يفكر لوحده ويأكل لوحده ويمشي بمحاذاة النهر لوحده ويصرخ او يتكلم مع نفسه لوحده.
وكان الخراب الآخر بعد ذلك اذ نقل الي احد الاصدقاء ان فتاة احلامي لم تكن فتاة احلام احد، كانت تتصيد المعجبين وتضيفهم الى قائمتها التي وصلت الى اكثر من خمسين معجبا. وكانت طريقتها للتخلص من معجب قديم، رسالة استنجاد فالخطيب على الباب ينتظر وهي تريد الحل السريع.
ماذا جرى لهذا العالم، كيف يمكن ان يكون بهذه القسوة؟ اي فخ سخيف سقط فيه؟ ولكن لا، ان هذا الفخ سيكون الدرع الامين ليصد عنه كل تلك السفاسف، لقد كان فعلا درعا سخيفا ومهترئا وضخما جعله لسنوات طويلة ينظر الى المرأة على انها كائن قادم من كوكب آخر.
ايقظني ماهر بصوت مبحوح:
” يامحمد.. ياعسكري  اين ذهبت بحق الجحيم؟
ابتسمت ابتسامة اعتذار وقلت:
” ماذا حدث؟
” انك لست معنا على الاطلاق.
كررت سؤالي السابق بعفوية ولكن ماهر كان عصبيا الى الحد الذي رأيته يصك على اسنانه بطريقة مزرية. كنت عفويا حتى في صمتي ولم اكن انتظر ان اكون مترجما لماهر في وسط المحيط الهندي.
سمعتها تقول لماهر بدلال:
“ماهر اريد منك ولدا.
حدق بي ماهر بقوة كأنه ينتظر خبرا مدهشا وكان له مااراد حين استطعت ان انقل اليه ماقالته بالحرف الواحد.
نط ماهر من على كرسيه ومد يده لها طالبا منها ان تقوم، قامت بدلال بعد ان عدلت من هندامها سألته بدوري عن المكان الذي سيذهب اليه، لم يجب وانما مسكها راكضا نحو الباب الخارجي ولم استطع حتى ان الحق به، رأيته ينعطف نحو شارع خلفي ينتصب في بدايته عمود ضخم علقت في اعلاه ساعة حجرية كبيرة شبه دائرية كانت تشبه ساعة القشلة في البصرة وكانا عقرباها يشيران الى الرابعة والنصف عصرا ولكن ساعة القشلة توقف ميلاها منذ سنوات طويلة.
كان قبطان الباخرة ذو الوجه المنمش قد امر بالانتظار ساعة واحدة فقط بعد ان تبين غياب ماهر.
ولكن الساعة مرت سريعا واعقبتها ساعات دون ان يظهر ماهر وكنت الوحيد الذي اعرف عنه شيئا ولكني كذبت حين قلت لرئيس البحارة ان ماهرا اراد ان يتعرف على المدينة وربما ضل طريقه.
بعد ساعات طوال وقبل ان يوعز القبطان بالمغادرة جاء رجل شرطة لم ار اضخم منه له شفتان حمراواتان سمينتان، كان يمسك ماهر كما يمسك القصاب خروفا صغيرا جاهزا للذبح وطلب مقابلة القبطان.
لم تمض دقائق حتى رجع ماهر الى القمرة وكنت بانتظاره
” اين ذهبت..؟
سألته بفضول شديد وبدا ان صمته زادني رغبة في معرفة ماحدث، كررت السؤال مرة ثانية ولكني لم اجد جوابا بل سمعت ماهر يغني.
 انطلق صوته رخيما ناعما …( ياريل صيح بقهر صيحة عشك ياريل). كنت قد كرعت كأس العرق الثانية وماهر انطلق باعلى صوته يكمل الاغنية.
لم اصمد امام صوت ماهر طويلا، تذكرت تلك الرسالة اليتيمة ووجه احلام يغمر القمرة بضحكة مفاجئة. رأيتها تحدق في دليل المعجبين لتتأكد من ان جميع الشباب – شباب المحلة- قد استولت عليهم . رأيتها فجأة تعبس وتطوي الدليل بيد قاسية وتنهض واقفة، كنت اعرف انها اذكى مني بكثير .. تمشت في الغرفة، لقد فلت واحد من شباب المحلة من خيوطها. كان القمر بدرا فوق سطح بيتها، اطلت من احدى فتحات السطح علها ترى هذا المتردد الذي خرج عن طوعها، لابد انه تعرفه جيدا ليكن اذن وفي الصباح رباح .
وجدت نفسي ادندن مع ماهر ، لم اسمع صوته بل كانت دندنات متبادلة ، لم يرني ماهر وانا ابكي . كنت اضع يدي على وجهي احسست بيد ماهر تضغط على كتفي،  مرت ثوان لا بل دقائق وربما ساعات لاادري, احسست ان احدهم كان يخضني رفعت يدي عن وجهي ، كان ماهر هناك يصرخ بي سأله وجهي فسمعته يقول:
” مالك يامحمد لماذا تبكي؟
لم اجد غير الصمت، ضحك ماهر بشيء من السخرية وقال:
” انا بكيت من الفرح، وانت لماذا بكيت؟
” من الفرح..! انت بكيت من الفرح؟
” نعم من الفرح فقد ولدت من جديد ، تعال انزل من فراشك لاحدثك بما حصل.
سمعت ماهر يقول وكأنه يلقي قصيدة غزل.
اخذتني المرأة الى بيتها.
كانت تمسك بيدي طول الطريق تماما مثل امي حين كانت تخاف علي من ان اتيه في سوق (الهنود) بالبصرة القديمة.
ومثل ما افعل مع امي سلمت امري لها .
كانت عيناي  تجولان بين اسماء المحلات والرجال السود.
آخ من هؤلاء النساء اللواتي لايرتدين حمالات الصدر.
وفيما يشبه النائم تخيلتها تقول :
“تعال ياحبيبي تعال الى عشنا.
دخلنا بيتا بوابته واسعة ومدخله يشبه مداخل ابواب دور السيمر والسيف بالبصرة.
مازالت تمسك بيدي ولم اقو على الفكاك منها ، ولماذا افعل ذلك؟.
في آخر المدخل دلفنا الى اليسار ودخلنا غرفة واسعة تنبعث منها رائحة اشبه برائحة البخور الهندي الممتزج برائحة التراب.
قادتني الى حيث الفراش المغطى كله باغطية بيضاء بدت نظيفة ومشبعة بنفس رائحة البخور.
قالت لي بعينيها:
“اخلع ملابسك ياصديقي، ربما قالت ياحبيبي وربما قالت… ياماهر لايهم.
رأت الحيرة في عيني.
 ادارت رأسها الى الحائط.
 لثوان كنت عاريا امامها ارتجف من الخوف والرهبة.
حين كنا صغارا كنا نمسك العصافير ونغطسها بالماء ، كنا نشعر بمتعة غريبة ونحن نراها وقد التصق ريشها على جسمها وبدت كما الكرة مكورة.
هكذا كنت.
لا ، لم اكن كذلك، كنت العصفور الذي خرج من بيضته لتوه لايعرف وهو يدور بعينيه الى اين يذهب.
مسكت يدي مرة اخرى وادخلتني تحت الفراش الابيض.
احتضنتني، كانت يداها تلفان رأسي.
وصدرها النابض يلسع وجهي بحرارته.
كان لصدرها رائحة التراب المبلل.
خرج العصفور من البيضة واخذ ينظر حواليه ، كانت النقرات خفيفة.
 زادت النقرات حدة.
لم تكن على الصدر فقط بل تعدتها الى اعلاه واسفله ثم اسفل الاسفل واعلى الاعلى.
ولم تهدأ النقرات حتى وهي تفك ذراعيها عن رأسي .
سبلت يداها كأنها لاتقوى على فعل اي شيء.
ومن اسفلها كنت انظر اليها.
 كانت مغمضة العينين .
لم اجد اروع من هذه الاغفاءة في عينيها.
تخيلتها تقول هل من مزيد.
وكنت ازيد النقرات .
كنت عصفورا صغيرا يريد حليب امه ونور الشمس والنوم في بؤبؤ الصدر.
كانت كل قطعة من جسدي ترتجف.
وكانت هي تعرف ذلك.
اخذت تمسك قطع جسدي واحدة تلو الاخرى لاتترك لواحدة منها حتى تحس بدفئها.
هب جسدي مرة واحدة.. قطعة من  الدفء.
وقفت  منتصبا عليها.
اغمضت عيني حين بدأت تلف ذراعيها على ظهري.
لم اسمع سوى اناتها .. زادت الاناة حدة.
وضعت يدي اليمنى على فمها ازاحتها بقوة.
وقالت بعينيها لاتخجل فكل الناس تعرف هذا التأوه.
من اين لي ان اعرف وهل كنت اسمع هذا الانين من قبل، وهل كانت فتياتنا يتأوهن؟
هدأت قليلا، ثم اخذت تلعب بشعر صدري .
 ياللسماء هل كانت تعرف اني احب هذه الخربشات على صدري.
هل كانت تقرأ افكاري، كيف عرفت كل ذلك.
هل يفيد الصراخ في مثل هذه اللحظات.
كنت اريد ان اقول لها ان الذي يرتبط بك ايها ( التوفي) الجميلة سيظل يلهج باسمك الى الابد.
سيعرف ان الذين يموتون في سبيل الحب ترفرف ارواحهم هناك في السماء لايبالون بهؤلاء البشر الذين ينوحون على خيباتهم واحزانهم.
انهم حتى لايعرفون لماذا مات هؤلاء البشر.
كل الذي يرغبونه هو البكاء، انه ليس بكاءا من اجل الاخرين وليس على اولئك الذين رحلوا الى السماء وانما يبكون خيباتهم الطويلة واحزانهم التي لاتنتهي.
سكت ماهر وارخى رأسه بين يديه ثم اناخ رقبته نحو حائط القمرة . آخ ياماهر لماذا كل هذا العذاب، هل صحيح ان الرجال لايعرفون تأوه النساء في الليالي المتهدجة، في الليالي التي تصعد فيها الآهات الى قطبي الارض شمالا وجنوبا. ان عاهرتك هذه تكذب حتى النخاع. من من نسوان الشرق يتأوهن؟ هل سمعتم عن امرأة تضحي بشرفها من اجل ان تتأوه وهي تحت الرجل . انها تكتم انفاسها ليس من التأوه ولكن خوفا من ان تقول آه لقد خذلتني رجولتك يارجل.
مرة سمعت احدى صديقات امي تقول لها: في احدى الليالي احسست لاول مرة في حياتي باني اشتهي زوجي، لاادري ماذا جرى لي، كل جسمي كان يختض وحين اشعرته بذلك، اشعرته باني اشتهيه ثار في وجهي وصاح:
“لايحق ذلك ياامرأة، تخيلي اني لست راغبا فيك هذه الليلة ماذا سيحدث؟ ستتطلعين الى غيري وهذه هي الخيانة الزوجية.
يوم آخر سمعت صديقة اخرى تقول لامي : حين ينتهي زوجي من وطره اهرع الى الحمام وادخل يدي في عضوي لاخرج كل السائل الذي ادخله بي، لاادري لماذا ولكني احس ان جسمي كله قد تلوث. واسمعها بعد ذلك تضحك قائلة:
“كل النساء يتحممن قبل المضاجعة الا انا فالحمام بعده يشعرني باني انا نفسي وليست تلك التي كانت تحت رجلها قبل قليل.

About محمد الرديني

في العام 1949 ولدت في البصرة وكنت الابن الثاني الذي تلاه 9 اولاد وبنات. بعد خمسة عشر سنة كانت ابنة الجيران السبب الاول في اقترافي اول خاطرة انشائية نشرتها في جريدة "البريد". اختفت ابنة الجيران ولكني مازلت اقترف الكتابة لحد الان. في العام 1969 صدرت لي بتعضيد من وزارة الاعلام العراقية مجموعة قصص تحت اسم "الشتاء يأتي جذلا"وكان علي ان اتولى توزيعها. في العام 1975 التحقت بالعمل الصحفي في مجلة "الف باء" وطيلة 5 سنوات كتبت عن كل قرى العراق تقريبا ، شمالا من "كلي علي بيك" الى السيبة احدى نواحي الفاو. في ذلك الوقت اعتقدت اني نجحت صحافيا لاني كتبت عن ناسي المعدومين وفشلت كاتبا لاني لم اكتب لنفسي شيئا. في العام 1980 التحقت بجريدة" الخليج" الاماراتية لاعمل محررا في الاخبار المحلية ثم محررا لصفحة الاطفال ومشرفا على بريد القراء ثم محررا اول في قسم التحقيقات. وخلال 20 سنة من عملي في هذه الجريدة عرفت ميدانيا كم هو مسحوق العربي حتى في وطنه وكم تمتهن كرامته كل يوم، ولكني تعلمت ايضا حرفة الصحافة وتمكنت منها الا اني لم اجد وقتا اكتب لذاتي. هاجرت الى نيوزيلندا في العام 1995 ومازلت اعيش هناك. الهجرة اطلعتني على حقائق مرعبة اولها اننا نحتاج الى عشرات السنين لكي نعيد ترتيب شخصيتنا بحيث يقبلنا الاخرون. الثانية ان المثقفين وكتاباتهم في واد والناس كلهم في واد اخر. الثالثة ان الانسان عندنا هو فارزة يمكن للكاتب ان يضعها بين السطور او لا. في السنوات الاخيرة تفرغت للكتابة الشخصية بعيدا عن الهم الصحفي، واحتفظ الان برواية مخطوطة ومجموعة قصصية ويوميات اسميتها "يوميات صحفي سائق تاكسي" ومجموعة قصص اطفال بأنتظار غودو عربي صاحب دار نشر يتولى معي طبع ماكتبت دون ان يمد يده طالبا مني العربون قبل الطبع. احلم في سنواتي المقبلة ان اتخصص في الكتابة للاطفال فهم الوحيدون الذين يقرأون.
This entry was posted in الأدب والفن. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.