يوميات صحفي … سائق تاكسي 9

محمد الرديني

حزب ناعم

هل رأيتم جمالا لايطاق؟ هل احسستم بذاك البرد الذي يهرش العظام ويكزبر الجلد ويوقف شعر الرأس .. انه يظل بردا لذيذا اذا ماقورن بحر الصيف اللاهب الذي يشعرك بالاغماء ويترك جسدك نهبا للزوجة والترهل وطاقتك في فعل شىء ما تصبح صفرا على الشمال.
كانت شقراء وجميلة ، بل انها حلوة الى حد لايطاق .
اراحت جلستها في المقعد الخلفي للسيارة وفي لحظة ما  تعطر المكان بعطر سرعان ما يدخل  الى اعلى نافوخك ليصيبك بالهذيان .. يجعلك تهذي وانت في غاية الصحو.
حين سمعت رنة صوتها وهي تذكر لي عنوان بيتها احسست ان العالم كله يغني ، تخيلوا ان العالم كله يغني اغنية واحدة ، تخيلوا ان سكان العالم قاطبة يقفون صفوفا متراصة على طول ضفتي  نهر الدانوب ” لماذا ذكرت نهرالدانوب، لاادري” او ينتقلوا كلهم الى ضفتي نهر البحر الاحمر او يرصوا صفوفهم بدءا من منبع نهر الفرات في تركيا وصولا الى نهايته في “القرنة” جنوب العراق ليغنوا اغنية واحدة .
تخيلوا كل هؤلاء البشر يغنون اغنية واحدة ، ستكون بالتأكيد من اروع الاغاني لانها ببساطة اغنية الناس كلهم، اما قالوا ذات يوم : كل الاغاني انتهت الا اغاني الناس … ياللكذب ، هل تعتقدون ان لدينا اغنية عربية جماعية؟
اكتشفت بعد مراجعة كاملة لملفات اغانينا العربية ان الشعب او الشعوب العربية ليست لديها اغنية واحدة جماعية.
صحيح، لدينا آلاف الاغاني ولكن كل واحدة منها هي اغنية ديكتاتورية لايغنيها الا الفرد والفرد فقط ولا ادري – رغم ان بعضنا يدري- ان اغلب الاغاني العربية تخاطب الحبيب المذكر ويغنيها المطرب المذكر.
تذكرت ذلك حين حط بي الركاب ذات يوم في احدى المدن الالمانية بدعوة من صديق لم اره لاكثر من عشرة سنوات وكالعادة اخترنا ناديا هادئا لنقضي سهرتنا فيه.
بعد ان اكثر من ساعتين كان الجميع المحيط حولنا يلهو ويضحك ولم تتح لنا فرصة الحديث مع بعضنا رغم شعورنا بان هذه اللحظات هي افضل مايمكن اقتناصه للبوح عما في القلب.
قلبت نظراتي بين وجوه الحاضرين ، لم اجد وجها واحدا عبوسا حتى كبار السن منهم الذين ربما عاصروا نهايات الحرب الثانية، تلك الحرب التي ذاقوا فيها الامرين. في ذلك الزمن كان الذي يرى خرائب برلين وآلاف القتلى في الشوارع مقابل ملايين منهم ماتوا جوعا او ربما  قهرا لما فعلته جيوش الاحتلال في بناتهم وزوجاتهم لا يظن انهم سيستعيدون حياتهم الطبيعية واذا استعادوها فسيظل هناك نقص حاد في خلايا المخ. لقد ضمدوا جراحهم وعادوا يغنون اغانيهم الجماعية ليعيدوا ترتيب حياتهم ويصبحوا  بعد سنوات من الدول السبع الغنية في العالم.
فجأة – او هكذا خيل الي- و بعد اكثر من ساعتين غمر الهدوء المكان وسرعان مااصطفت الطاولات مع بعضها ووجدت صديقي يدفع طاولتنا ليلصقها باقرب طاولة، لم اعرف السبب الا بعد حين، فقد بدأ الجميع يغنون اغنية وحدة ، دندن بعضهم في البداية ثم دندن آخرون، بدأ بعدها الجميع يدندنون ثم ينشدون.
كان صوتا واحدا ذلك الذي سمعته، صحيح اني لم اعرف معاني تلك الكلمات التي كانت تنطلق من حناجرهم بقوة واخلاص ولكني شعرت انها قريبة جدا الى قلوبهم.
وفي ليون احدى اجمل المدن الفرنسية حدث نفس الشيء وعند الروس والطليان لم يكن المشهد مختلفا، وحتى اليونانيين المولعين بكسر الصحون وهم يرقصون كانت ينشدون اغنيتهم الجماعية وهم يشكلون حلقة مغلقة امام الاخرين، ولم اكن اعرف ان الغجر .. هؤلاء الذين يدورون حول اطراف العالم طيلة حياتهم ينشدون اغانيهم الجماعية حينما يستريحون من هَم الترحال.
معذرة ياسادة لقد شططت كعادتي عن لب الموضوع.
سرقت نظرة عجلى على الحسناء التي تعطرت كراسي سيارتي ببعض من عطرها ، كان يلوح على وجهها التعب.
التعب..! وهل تتعب مثل هذه الكائنات الرائعة، ان التعب سيكون كائنا خرافيا قليل الاصل اذا ظن انه يستطيع يمر عليها او على عطرها حتى. ولكنها متعبة … متعبة بحق ، لقد اكتشفت ذلك في عينيها.
ترى من اين جاءها هذا التعب ، هل كانت ترقص مع فتى احلامها ، لا، ان الرقص يجعل الفتيات في هذا البلد في اعلى ذروة من التألق، هل ياترى سمعت كلاما فجا من صديقها بينما كانت ترسم احلامها الرقيقة معه ؟ لا اظن فمثل هذه الحسناء معتدة بنفسها وجمالها ولن تدع اي كان يجرح مشاعرها  ولكن ربما شاهدت برنامجا  تلفزيونيا بذيئا وهذا ايضا ليس ممكنا ، فهي ليست لديها عين وحاسة المشاهد العربي الذي يعرف نهاية كل برنامج او فيلم تلفزيوني عربي من المشاهد الاولى.
لا، لا ربما كانت – وهذا هو الارجح – قادمة من اجتماع سياسي.. ياللسماء لابد ان الامر على هذا النحو اذ لابد انها تقود تنظيما مفعما بالايدلوجيات والافكار ذات المراس الصعب.
اذا كان ذلك صحيحا فان التجربة جديرة بالاهتمام النسوي عند العربيات.
 لاادري لماذا لم يفكر التحزبيون والتحزبيات في العالم العربي واولئك الجماعات المهووسة بتشكيل الاحزاب السياسية وغير السياسية .. اقول لماذا لم يفكر هؤلاء بتشكيل حزب خاص بالمرأة وليس عن المرأة؟
المسألة بسيطة فالامر لايحتاج الى كثير عناء كل ماهنالك ان تتقدم احدى النسوة الى الجهات المعنية وما اكثرها في وطننا العربي بطلب ترخيص تأسيس حزب نسوي علني لايحق للرجال مهما بلغت قوتهم او وساطتهم او مراكزهم الاجتماعية ان يقبلوا فيه وهو شرط لايناقش مهما استجدت المستجدات او اطلت بعض الظروف.
وستكتب هذه المرأة القيادية التي حصلت على تصريح رسمي من قبل الجهات المعنية – وكل العاملين فيها رجال – في اول محضر اجتماع للهيئة التأسيسية ملاحظة مفادها ان بعض المهووسين من الرجال المولعين بالنضال السري سيسعون الى تخريب هذا التنظيم بدافع ” حقوق المرأة” بينما ستدافع جمعيات العنوسة في البلدان العربية – وما اكثرها – عن حقها الطبيعي في حل المشاكل الزوجية المتراكمة عبر مئات السنين .
واضاف المحضر : ومن غير المستبعد ان تتصدى بعض الاحزاب اليسارية الى تخصيص العديد من صحفها  السرية والعلنية وتجنيد العديد من منظريها للكتابة عن هذا الحزب البرجوازي الجديد الذي يريد – وبالادلة القاطعة- تخريب عقلية الطبقة العاملة بافكار نصفها هدام والاخر مستورد من معقل الامبريالية التي هي آخر مراحل الرأسمالية.
وشيئا فشيئا تتجلى بوضوح اهداف هذا الحزب الناعم بعد ان يعلن استراتيجيته للخمس سنوات المقبلة.
وقرآ الناس نص الدستور الداخلي لهذا التنظيم
• ضرورة ان تكون العصمة بيد المرأة اي بيد الزوجة لا بيد الزوج وعلى القاضي ان يسأل العروسين عن ذلك قبل المصادقة على عقد النكاح (هذا هو الاسم الرسمي لعقد الزواج في احدى البلدان العربية) .
•   سيناضل هذا الحزب من اجل تعديل قانون الاحوال الشخصية بالاتجاه الذي يمنع فيه الرجل من الصراخ بسبب البرودة العاطفية الدائمة التي تتمتع فيها المرأة العربية عن جدارة واستحقاق.
•  يعلن هذا الحزب عن نيته مخاطبة الوزارات المختصة لتعيين قاض يعمل تحت اشراف دائرة الطب الشرعي لحل المشاكل العاطفية بين الازواج خصوصا فيما يتعلق بالجدول الزمني لتنظيم الدورة الشهرية لدى اغلب السيدات حيث تؤكد ادبيات هذا الحزب  انه بات من الضروري تبديل هذه التسمية لانها سميت كذلك جزافا فالكثير من السيدات تأتيهن الدورة كل اسبوع.
* يؤكد هذا الحزب اليافع ان الضرورة تتطلب تشكيل جهاز استخبارات على  غرار الاجهزة المماثلة في دول العالم الثالث على ان يكون الاعضاء من الفتيات دون سن العشرين ويملكن قوة بدنية مناسبة مع التأكد من عدم وقوعهن في الحب خلال تقديم طلب التعيين، وسيكون من اولى مهام هذا الجهاز متابعة تحرك المعارضات اللواتي سيلجأن الى اساليب غير قانونية لاغراء المناضلات على كشف اسرار التنظيم اضافة الى كشف بعض المستور منهن.
 *  سيخطو الحزب نحو تشكيل لجان متخصصة لاعادة النظرفي كتب التاريخ التي تسرد القصص المنتقاة عن الفارسات العاشقات والمناضلات امثال خولة بنت الازور وجميلة بوحيرد وعبلة الالوسي وليلى العامرية وبثينة الشامية ومنى العطار والحاجة المناضلة ام كاظم التي لايعرفها  مخرج الافلام الوثائقية حسن سلمان.
*  وتعتقد الكادرات المتقدمات ان المهم اعادة النظر كلية في مسألة تشغيل الرجال كبائعين في محلات بيع الاحذية النسوية.
” عفوا ، فيما يتعلق بالفقرة الاخيرة فقد اعترضت مجموعة من الحزبيات المتقدمات عبر التماس تقدمن به الى الهيئة العمومية قلن فيه ان بائعي الاحذية من الرجال يشعروهن بوجودهن الانثوي الاغرائي”.
لكن هذا الالتماس رفض جملة وتفصيلا خصوصا من الكادرات اللواتي بلغن العقد الخامس من العمر.
سمعت صوت  الحسناء وهي تصرخ خائفة:
“الى اين تأخذني ايها السائق، ان هذا الطريق لايؤدي الى بيتي “

About محمد الرديني

في العام 1949 ولدت في البصرة وكنت الابن الثاني الذي تلاه 9 اولاد وبنات. بعد خمسة عشر سنة كانت ابنة الجيران السبب الاول في اقترافي اول خاطرة انشائية نشرتها في جريدة "البريد". اختفت ابنة الجيران ولكني مازلت اقترف الكتابة لحد الان. في العام 1969 صدرت لي بتعضيد من وزارة الاعلام العراقية مجموعة قصص تحت اسم "الشتاء يأتي جذلا"وكان علي ان اتولى توزيعها. في العام 1975 التحقت بالعمل الصحفي في مجلة "الف باء" وطيلة 5 سنوات كتبت عن كل قرى العراق تقريبا ، شمالا من "كلي علي بيك" الى السيبة احدى نواحي الفاو. في ذلك الوقت اعتقدت اني نجحت صحافيا لاني كتبت عن ناسي المعدومين وفشلت كاتبا لاني لم اكتب لنفسي شيئا. في العام 1980 التحقت بجريدة" الخليج" الاماراتية لاعمل محررا في الاخبار المحلية ثم محررا لصفحة الاطفال ومشرفا على بريد القراء ثم محررا اول في قسم التحقيقات. وخلال 20 سنة من عملي في هذه الجريدة عرفت ميدانيا كم هو مسحوق العربي حتى في وطنه وكم تمتهن كرامته كل يوم، ولكني تعلمت ايضا حرفة الصحافة وتمكنت منها الا اني لم اجد وقتا اكتب لذاتي. هاجرت الى نيوزيلندا في العام 1995 ومازلت اعيش هناك. الهجرة اطلعتني على حقائق مرعبة اولها اننا نحتاج الى عشرات السنين لكي نعيد ترتيب شخصيتنا بحيث يقبلنا الاخرون. الثانية ان المثقفين وكتاباتهم في واد والناس كلهم في واد اخر. الثالثة ان الانسان عندنا هو فارزة يمكن للكاتب ان يضعها بين السطور او لا. في السنوات الاخيرة تفرغت للكتابة الشخصية بعيدا عن الهم الصحفي، واحتفظ الان برواية مخطوطة ومجموعة قصصية ويوميات اسميتها "يوميات صحفي سائق تاكسي" ومجموعة قصص اطفال بأنتظار غودو عربي صاحب دار نشر يتولى معي طبع ماكتبت دون ان يمد يده طالبا مني العربون قبل الطبع. احلم في سنواتي المقبلة ان اتخصص في الكتابة للاطفال فهم الوحيدون الذين يقرأون.
This entry was posted in الأدب والفن. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.