يوميات صحفي … سائق تاكسي 6

يوميات صحفي … سائق تاكسي 6

محمد الرديني

فقاعة (المستور)

لااحب الي في يوم الاحد من كل اسبوع – وهو يوم العطلة الاسبوعية- من ان اظل مستلقيا في الفراش معرضا عن الحديث في اي امر. لقد تعودت في هذا اليوم وهي عادة استمرت معي لاكثر من خمس عشر سنة ان اصوم عن الكلام والحركة حتي يخيل الى الذي يتلصص علي في بيتي سيجد رجلا اقل مايقال عنه ان ملامحه تنبىء بما لايدع مجالا للشك انه اخرس اصم بل وحتى ابكم.
ولكن الرياح تكون عدوة لما تريد في بعض الاحيان ، فقد سمعت جرس الباب يرن مرة ثم اخرى وثالثة، وظننت ان هذا الفضولي سيمل من الانتظار ويرحل ولكني كنت مخطئا فقد كان رنين الجرس في المرة الرابعة مستمرا ولم اجد بدا من اسكاته الا بالخروج  لمعرفة من هذا الملحاح.
كان صديقي  أدم  يقف عند الباب هادئا ولكنه حين رآني هتف صائحا كعادته:
جئت ياصديقي لاهنئك.
ولم يترك لي فرصة  الاستفسار بل دلف الى صالون وجلس على اول كرسي صادفه امامه وانهال بالكلام.
مرحى… مرحى لقد اجتمع اخيرا  بعض المسلمين في مكان ما من هذا العالم واحتجوا.
انه لامر مفرح ان نرى وكالات الانباء ومحطات التلفزة العالمية تنقل خبر تظاهرات نساؤنا المحجبات في باريس وضواحي فرنسية اخرى احتجاجا على قرار الرئيس الفرنسي شيراك بمنع ارتداء الحجاب في المدارس الحكومية،
لقد شعرت بالفخرحقا فانه من النادر جدا بل من المستحيل ان ترى جمعا نسويا عربيا يتفق لاول مرة في التاريخ على اعلان هذا الاحتجاج، انها خطوة جريئة فعلا بل والحق يقال انها خطوة جبارة ، لقد اجتمعوا لادانة شيراك ــ وليس معاتبته ــ على تصريحاته بمنع ارتداء الحجاب.
وجاء في بيان الشجب مايلي الذي اعده صديقي احمد على عجل:
ايها السيد شيراك، يا رئيس فرنسا العزيزة على قلوب فتياتنا صاحبات القد النحيل والباحثات عن العطور والبخور.. يا شيراك يا رئيس فرنسا العزيزة على قلوب فتياننا من تلك الاسر المفرطة في التخمة الذين لا يجدون غير السوربون يشفون فيها ظمأهم العلمي… يا شيراك، لماذا اقدمت على هذا المنكر، ألا تدري اننا اذا اقسمنا فعلنا وها نحن نقسم باننا سنخاصمك الى حين ترشيح خليفة لك في الانتخابات المقبلة.
وصحا الناس قبل ايام على صوت (المسحراتي) ــ وكان ذلك في غير ايام  رمضان ــ يدعوهم الى قراءة الاخبار الجديدة .
وعاد صوت صديقي احمد يلعلع:
وجاء في الاخبار: اجتمع فريق اسلامي يتمتع بثقل قوي بين العامة ليشكل لجنة مصغرة لمقابلة السيد (سنك) رئيس الهند، وجاء في الحيثيات ان اللجنة قدمت رسالة مطولة الى الرئيس الهندي، هذا بعض ماجاء فيها:
ايها الرئيس، انك ترأس بلد المليار نسمة واكثر من نصف هذا المليار إما مسلمين او يعيشون من دون خط الفقر، ولعلك تشاهد البرامج الوثائقية في محطة (البي بي سي) البريطانية وترى كيف يبحث هؤلاء عن قطعة كارتون ليست بالية ليناموا عليها ليلة واحدة فقط، أما بعضهم الآخر فيلجأ الى الزبالة ليسد رمقه في لقمة تعينه ساعات على العيش. وانت ياسيدي ادرت رأسك عن كل ذلك واتجهت باموال الشعب الهندي لتصنع القنبلة النووية او الهيدروجينية او اسلحة الدمار الشامل التي لايعلم الا الراسخون في العلم كم من المليارات انفقت عليها، لماذا..؟ لان السيد مشرف رئيس جمهورية الباكستان جاركم العزيز خطر بباله ان يصنع هذه القنبلة وانك تريد ان تحقق التوازن الاستراتيجي كما تقول.
ولم يدر في خلد الناس ان جماعة اسلامية اخرى وجهت رسالة ــ ولكنها موجزة ــ مماثلة الى الرئيس الباكستاني قالت فيه بعتاب:  انك يامولانا- ورغم الرتب العسكرية والنياشين التي تحملها  على صدرك من جهة اليسار( رغم انك لست يساريا)- فانك ايضا رئيس اول دولة اسلامية في العالم تعمل فيها البنوك بعيدا عن الربا والفحشاء والمنكر، ولكنك ياسيدي بدأت تستذوق طعم القوة والاستبداد فاتجهت ايضا الى اعداد برامج للقوة النووية رغم انك تعيش منذ زمن بعيد على تحويلات الايدي العاملة في دول الخليج، اذ لا احد ينكر انك من اهم مصدري الايدي العاطلة الى هذه المنطقة إما للتخلص منها او للاستفادة من شقائها في اعمار بلدان لا تقل درجة الحرارة فيها عن الاربعين في الشتاء، انك ياسيدي مثل جنرالات الشرق الاوسط امي في قراءة التاريخ … امي يلبس خاتما من الماس لا يستطيع ان يديره او يقلبه الا صديقتنا الحنون امريكا.
وذهل الناس حين قرأوا خبرا آخر في اليوم التالي يقول: ان لجنة اسلامية لها باع طويل في الساحة العربية قد شكلت لجنة تحقيق موسعة للنظر في اغتيال وقتل وتعذيب اكثر من مليون عراقي طيلة خمس وثلاثين سنة، وبرغم ان معظم القراء قد فرحوا لهذه الالتفاتة الصحفية الا ان القليل منهم لم يرتاحوا للفقرة التي اختتم فيها بيان اللجنة والتي جاء فيها: ان اللجنة لا ترى ضررا في تسمية العراق بلد المليون شهيد على غرار الجزائر بلد الغاز المسروق.
ولكن الاخبار لم تنضب، فقد تظاهرت بصمت مجموعة اسلامية معروفة باعتدالها في ضواحي احدى العواصم العربية رغم انها رفعت يافطة طويلة عريضة تقول (وابترولاه المسروق ايها السادة).
وسكت صديقي احمد عن الكلام المباح.

About محمد الرديني

في العام 1949 ولدت في البصرة وكنت الابن الثاني الذي تلاه 9 اولاد وبنات. بعد خمسة عشر سنة كانت ابنة الجيران السبب الاول في اقترافي اول خاطرة انشائية نشرتها في جريدة "البريد". اختفت ابنة الجيران ولكني مازلت اقترف الكتابة لحد الان. في العام 1969 صدرت لي بتعضيد من وزارة الاعلام العراقية مجموعة قصص تحت اسم "الشتاء يأتي جذلا"وكان علي ان اتولى توزيعها. في العام 1975 التحقت بالعمل الصحفي في مجلة "الف باء" وطيلة 5 سنوات كتبت عن كل قرى العراق تقريبا ، شمالا من "كلي علي بيك" الى السيبة احدى نواحي الفاو. في ذلك الوقت اعتقدت اني نجحت صحافيا لاني كتبت عن ناسي المعدومين وفشلت كاتبا لاني لم اكتب لنفسي شيئا. في العام 1980 التحقت بجريدة" الخليج" الاماراتية لاعمل محررا في الاخبار المحلية ثم محررا لصفحة الاطفال ومشرفا على بريد القراء ثم محررا اول في قسم التحقيقات. وخلال 20 سنة من عملي في هذه الجريدة عرفت ميدانيا كم هو مسحوق العربي حتى في وطنه وكم تمتهن كرامته كل يوم، ولكني تعلمت ايضا حرفة الصحافة وتمكنت منها الا اني لم اجد وقتا اكتب لذاتي. هاجرت الى نيوزيلندا في العام 1995 ومازلت اعيش هناك. الهجرة اطلعتني على حقائق مرعبة اولها اننا نحتاج الى عشرات السنين لكي نعيد ترتيب شخصيتنا بحيث يقبلنا الاخرون. الثانية ان المثقفين وكتاباتهم في واد والناس كلهم في واد اخر. الثالثة ان الانسان عندنا هو فارزة يمكن للكاتب ان يضعها بين السطور او لا. في السنوات الاخيرة تفرغت للكتابة الشخصية بعيدا عن الهم الصحفي، واحتفظ الان برواية مخطوطة ومجموعة قصصية ويوميات اسميتها "يوميات صحفي سائق تاكسي" ومجموعة قصص اطفال بأنتظار غودو عربي صاحب دار نشر يتولى معي طبع ماكتبت دون ان يمد يده طالبا مني العربون قبل الطبع. احلم في سنواتي المقبلة ان اتخصص في الكتابة للاطفال فهم الوحيدون الذين يقرأون.
This entry was posted in الأدب والفن, فكر حر. Bookmark the permalink.

One Response to يوميات صحفي … سائق تاكسي 6

  1. رويدة سالم says:

    اعجبتني المجموعة استاذي
    بسيطة سلسلة باسلوب صحفي اكثر منه ادبي رمزي أخذتني في رحلة طويلة الى عالم مختلف ووضعتني في مواجهة تسؤلات مستعصية
    اذ لم يكن الدين هو السبب المباشر في تردي الانسان وحيرته واحباطاته وان كانت المادة لا توفر السعادة المنشودة فكيف يمكن خلق عالم متصالح مع ذاته يضمن السلام والامان
    هل حياتنا صراع متواصل بين حاجات الروح والجسد لا تصل ابدا الى نهاية تستطدم دوما بالتراث والمصالح والمنفعة وهل نقدر ان نغير في واقعنا شيئا

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.