يوميات صحفي … سائق تاكسي 3

يوميات صحفي … سائق تاكسي 3

محمد الرديني

الشرطي والمرأة

تمتاز كل ليلة من ليالي عطلة نهاية الاسبوع في هذه البلاد بالصخب والضجيج  وهي عادة ما تكون فرصة امام الجميع  مراهقين وكبار ان يفرغوا شحناتهم وضغوطهم النفسية بعد عمل استمر اكثر من 50 ساعة في الاسبوع.
   البارات والنوادي والمراقص تعج  بالشباب والشابات ، يرقصون نفس الرقصات ويغنون نفس الاغاني، وربما يتحدثون بنفس الاحاديث تبدأ العطلة الاسبوعية مساء يوم الجمعة وماتكاد الساعة تفترب من الحادية عشر ليلا حتى يتهافت الشباب على النوادي الليلية  وقبل ان يصلوا الى بوابة اي ناد يكونوا قد اكملوا رقصتهم المعتادة في الشارع العام ، الكل يرقص بعضهم يرقص وحيدا على امل ان يجد مرافقته في هذه الليلة ومنهم من يرقص مع صديقته الجديدة التي وجدها هي الاخرى ترقص لوحدها في الشارع العام  قبل ان تصل برفقته الى النادي الليلي.
في كل ليلة من هذه الليالي يغنون نفس الاغاني ويرقصون نفس الرقصات بل حتى انهم يرون نفس الوجوه تقريبا، وكنت اعتقد ان  اغانيهم ورقصاتهم في اعياد رأس السنة ستكون ذات طابع خاص ، ولكني كنت مخطئا، فهاهي الرقصات نفسها والاغاني نفسها وكأن السنة الجديدة لم تمر بعد
في ليلة من تلكم الليالي   – كما تقول العرب  – كانت الساعة الثالثة فجرا، كنت آنذاك اقلُ زبونا الى حيث بيته حين استوقفتني سيارة شرطة ونزلت منها شرطية لاتتجاوز العشرين من عمرها، حيتني كانها تعرفني منذ زمن وقالت:
 ” اني آسفة ياسيدي اذ اقول لك انك تجاوزت السرعة المحددة في هذا الشارع.
ضحكت في سري حين سمعت كلمة “سيدي”
قلت وانا مازلت جالسا في سيارتي، وراكب شاب يجلس الى جانبي وهويحضن شريحة البيتزا
” اني آسف بدوري فلم اكن اقصد ان اقود بسرعة”
التفت الشرطية الى الراكب وقالت له:
 ” اني متأسفة سيدي لاني ساؤخرك عن تناول عشاءك
رآت  رخصة القيادة التي ارجعتها لي  بعد ثوان وقالت ناظرة الينا نحن الاثنين
 ” يمكنك ان تذهب وارجو الا يتكرر ذلك
ثم اعقبت ضاحكة:
 ” وحتى لايتأخر زبائنك عن تناول طعامهم”
 تذكرت في ذلك اليوم  احد الزملاء الصحفيين الذي كتب عمودا في الجريدة التي يعمل فيها جعل له                  عنوان” شرطي قال لي شكرا ذات يوم”، كان ذلك منذ سنوات طويلة وظل هذا الصحفي يتحدث بحماس عن كلمة الشكري التي اطلقها ذلك الشرطي.
لا اريد هنا ان اقارن ولا اريد ان ابخس قيمة ناسنا كما قد يعتقد البعض، كل مافي الامر ان  موظفي الحكومة في بلادنا العربية لايعرفون كيف يلفظون كلمة “شكرا”، لماذا؟؟ صدقا لااعرف
الشرطي والمرأة في بلادنا العربية كائنان معجونان بالظلم الى حد النخاع، فالشرطي لايصبح  كذلك الا بعد ان تنعدم امامه كل وسائل العيش الاخرى، وهو رجل اراد ان يكمل تعليمه مثل بقية البشر السويين ولكنه لم يستطع، وهو شاب طموح اراد ان تكون له وظيفة مثل غيره فلم يسعفه الحظ ، واراد ان يحلم مثل الاخرين فوجد طريقه ملأى بالكوابيس  والشرطي الذي جعلته انظمة العالم المتمرن عنوانا للامان واحترام القوانين ، جعلته الانظمة العربية رمزا للسخرية والقمع والاستبداد والجهل والغباء رغم النص الخاص بالقسم الشرطي الذي تراه مشنوقا على كل حيطان ادارات واقسام ومؤسسات الشرطة التابعة لوازارات الداخلية في الدول العربية والذي اتحدى اي شرطي عربي ( او غير عربي ممن يعملون في بلدان الخليج العربي) قد قرأه وحتى اذا فعل ذلك وهو امر اضطراري فانه سيقسم باغلظ الايمان لزوجته او صديقه المقرب انه لم يفهم شيئا مما قرأه، واذا وجدت شرطيا مرحا فانه سيقول لك وهو يضحك ربما كنت اقرأ احد المعلقات السبع
ولو اتيح لي ان  اقاضي جهة ما فاول ماأفكر فيه هو السينما المصرية التي جعلت من الشرطي برميل غباء متنقل لايفقه من الحياة سوى ضرب زوجته والطاعة الغبية لمرؤسيه والضحك بدون سبب.
حينما كنا صغارا كانت امهاتنا تهددنا  بالشرطي اذا طلبنا شيئا فوق طاقة مصروفها اليومي، حتى اذا كبرنا اصبحنا نختبىء في الازقة المظلمة اذا شاهدنا شرطيا قادما صوبنا
والمرأة هذا الكائن الذي لو طلب من رب العزة ان يطيل عمره اضعاف ما يعيش لكان طلبا يسيرا فالمرأة تصل الى سن العشرين وهي لاتعرف شيئا من الدنيا الا ما تقوله لها امها او خالتها مزودة اياها بقائمة طويلة عريضة من الممنوعات واللاءات التي تبدأ بالمحافظة على الشرف والنوم مبكرا والعودة من المدرسة مباشرة الى البيت وعدم البصبصة على سطح الجيران.
ولاتحتاج – هذه الطفلة ذات العشرين ربيعا- الى جهد كبير لتعرف ان هذا البيت الذي تعيش فيه ماهو الا سجن تتوفر فيه جميع الشروط الواجبة لذلك والتي تبدأ بالسجان الذي يصدر قائمة الاوامر اليومية والاخ الصغيرالذي يدربوه ليكون عنصر مخابرات حاسم حين يرافق اخته الى اي مكان خارج السجن والاب الذي اقل مايقال عنه انه الممثل الشرعي للديكتاتورية المصغرة.
جملة اعتراضية هل ياترى منبع الديكتاتورية العربية قادم من هذه الديكتاتورية المصغرة؟؟
ولا يكن امام هذه السجينة) سوى التفكير بالهرب من سجنها ، وبالتأكيد هي لاتملك الشجاعة لتقدم على هذه الخطوة فهناك الاعراف والقوانين الصارمة خارج السجن اضافة الى التعرض للقتل وهو امر يبيحه القانون.
وتضيق الحلقة حولها ولم تعد كل وسائل الهرب ممكنة الا وسيلة واحدة الزواج.
وتكون تعزيتها الوحيدة داخل سجنها هي البحث عن مواصفات فتى الاحلام ، كيف ستكون لون بشرته، انها بالتأكيد لاتريده شبيها لابيها او اخوها المخابراتي، انها تريده طويلا نحيفا ليس اسمر الوجه ولا ابيضه ، ضحوك بشوش يكره الجلوس في البيت، بل وانه يكره كل برامج التلفزيون وخصوصا نشرات الاخبار ، لايدخل غرفة نومه الا ليلا لينام ولايجلس بالصالون الا لكي يتحدث عن السفرات  التي سيقوم بها في الصيف المقبل واذا عاد من العمل فاول ما تسمعه منه هي تلك الضحكة الرنانة والقبلة السريعة على الخد ثم سرد  التفاصيل وتفاصيل التفاصيل عما حدث اليوم من قصص وحكايات ونوادر في القسم الهندسي الذي يشرف عليه او غرفة العمليات حيث اجرى وهو الجراح المشهور عملية جراحية استأصل فيها زوائد دهنية من العينين.
وتأتي الساعة ، وتقفز الام والعمة والخالة فرحات ينطنطن في ساحة البيت وهن يزفن البشرى الى العروسة فقد جاء العريس.
ويقفز قلب البنت من بين ضلوعها بل يكاد يطفر امامها ، لقد حان وقت الافراج وانتهت مدة المحكومية ولأول مرة ترى اباها يبتسم لها وهو يسألها عن رأيها بالعريس الذي لم تره بعد، تخفض عينيها خجلا وخفرا، هكذا علمتها عمتها، ويخرج بعد ان فهم القصد من هذه الاشارة
وتمر الايام بطيئة متى يأتي العريس، تسأل امها التي ترد عليها بعصبية ظاهرة
عيب يابنت لاتفضحينا امام الناس
ولم تفهم لماذا الفضيحة ، كل الذي سألته هو عن موعد زيارة العريس المرتقب ويأتي اليوم الموعود، دق العريس الباب بعد ان رأت والدها متجهم الوجه وحين سألت امها عن السبب قالت لها  ” لايجوز ان يفرح الاب بهذه المناسبة خصوصا امام العريس الذي سيعتقد – اي العريس  – ان البنت ” بايرة”  ولااحد يسأل عنها والاكيد ان بها عيبا عضويا او جسديا والا لماذا يبدو الاب سعيدا هكذ.ا
وللمرة الالف او بعد الالف لم تفهم البنت سبب كل ذلك رغم شروحات الام المطولة بمناسبة او غير مناسبة وتأتي لحظة تقديم الشاي وقبل ذلك تفحص نفسها امام المرآة للمرة العشرين، وهناك عشرين مرة اخرى من حصة الام ، وعشرون ثالثة للعمة او الخالة، ويدخل الاب  متجهما يحث النساء على الاسراع اذ لايجوز ان يجلس العريس منتظرا.
وتدخل العروسة تكاد تتعثر في مشيتها بينما استطاعت بالكاد ان تمسك صينية الشاي التي لا تدري لماذا لم تسقط من يدها حتى الآن، تضع الشاي على الطاولة وتهرول راكضة نحو الباب وتسمع ابيها وهو يضحك مزهوا بابنته التي رباها على الخجل والحياء.
   انتهت مراسيم الزيارة بسرعة او هكذا خيل اليها رغم انها لم تستطع ان تجيب صديقاتها الحاضرات في ذلك اليوم عن الاسئلة التي انهارت عليها  ماهو شكل العريس ؟ هل هو جميل كم يبلغ من العمر، ماذا يعمل ؟ ماذا كان يلبس؟ هل هو انيق؟ وشعره ، هل سرحه على الموضة الجديدة ام….. ؟
كل الذي فعلته بعد ذلك هو احتضان رأسها بين يديها ، وكان ذلك جوابا شافيا لكل الاسئلة لانها ببساطة لم تستطع رؤية العريس  وكيف يتسنى لها  ذلك وعيني ابيها  ترمقانها بعصبية وتوتر كيف  ذلك وانها لاتجرؤ ولن تجرؤ ان تضع عينيها امام عيني هذا الغريب الذي يسموه عريسها حتى على الاقل تعرف من هو وكيف هو وما هو؟
بعد ساعات من الاجتماعات المغلقة بين الام والاب في غرفة النوم ، يخرج الاب مبتسما  الى حيث تنزوي العروسة،  تذهب هي اليه حذرة، يقول لها بشيء يشبه الحب.
 ” مارأيك بالعريس؟
تسكت  يجب عليها ان تسكت ، اذ ليس من المعقول ان ترفض او تجيب من اول وهلة، هناك قنوات يجب ان يعبر رفضها او قبولها عبرها، هناك امها وخالتها وبالتأكيد لن يكون احد هذه القنوات ابوها
سمعت اباها يقول:
” انه شاب جيد، ان حدسي لايخطىء واعتقد انه طموح ، انه يعمل الان في سلك الشرطة لان عائلته فقيرة جدا وهو يريد ان يكمل دراسته الثانوية والجامعية بعد ان تكوني معه.
تسكت العروسة مرة اخرى بل انها ستسكت طالما ان اباها يقف امامها هكذا يتراجع الاب خطوات نحو باب البيت ليخرج  الى مقهاه المفضلة وبالتأكيد سيحدث اصدقاؤه عن هذه المناسبة.
لاتستغرق المفاوضات بين الام وابنتها سوى فترة قصيرة تتم بعدها الموافقة وتبدأ الاستعدادات لاقامة الافراح ومناقشة تفاصيله.
  في ليلة “الدخلة” تدخل العروس لترى شابا تعرف من النظرة الاولى انه يكبرها بسنوات، يبتسم لها ، يزيح اكليلها بخفة ويقودها نحو الفراش.
في تلك الليلة التي يقال انها ليلة بين عمرين ، عمر مضى وعمر جديد اقبل، لم تفهم كل مادار حولها ، كل الذي عرفته ان هذا الرجل قبلها بقوة، مضغ شفتيها حتى كادت ان تختنق ثم عراها ونام فوقها دقائق ثم نهض الى الحمام وهي هناك مازالت لاتدري ماالذي يدور حوله.
في الصباح نهضت متعبة رأته يبتسم لها وقال لها ” مبروك” لم تمض ساعة حتى جاءت امها وسألتها “ماهذا الاصفرار على وجهك؟
لم تحر جوابا او بالحقيقة لاتعرف الجواب بالضبط ولكنها تعرف ان امعائها بل وعضلات جسدها تؤلمها بشدة دخل العريس واومأ للام باشارة خاصة ولم تمر ثوان حتى ضج البيت بزغرودة الام: ابنتها باكر
تمر الشهور وتجد العروس نفسها حاملا، تحس بفرح داخلي واحساس بالسعادة لاتعرف مصدره  انها ستصبح اما، سيأتي ابنها او ابنتها ، لايهم ولكنها تدرك تماما انها ستسقيه حبا لاتعرفه البشرية الا عند الامهات ولكن….
ماذا يمكن ان تعطي لوليدها غير الذي اعطته لها امها او خالتها؟
وتدور الرحى بلا قمح ولا شعير.

About محمد الرديني

في العام 1949 ولدت في البصرة وكنت الابن الثاني الذي تلاه 9 اولاد وبنات. بعد خمسة عشر سنة كانت ابنة الجيران السبب الاول في اقترافي اول خاطرة انشائية نشرتها في جريدة "البريد". اختفت ابنة الجيران ولكني مازلت اقترف الكتابة لحد الان. في العام 1969 صدرت لي بتعضيد من وزارة الاعلام العراقية مجموعة قصص تحت اسم "الشتاء يأتي جذلا"وكان علي ان اتولى توزيعها. في العام 1975 التحقت بالعمل الصحفي في مجلة "الف باء" وطيلة 5 سنوات كتبت عن كل قرى العراق تقريبا ، شمالا من "كلي علي بيك" الى السيبة احدى نواحي الفاو. في ذلك الوقت اعتقدت اني نجحت صحافيا لاني كتبت عن ناسي المعدومين وفشلت كاتبا لاني لم اكتب لنفسي شيئا. في العام 1980 التحقت بجريدة" الخليج" الاماراتية لاعمل محررا في الاخبار المحلية ثم محررا لصفحة الاطفال ومشرفا على بريد القراء ثم محررا اول في قسم التحقيقات. وخلال 20 سنة من عملي في هذه الجريدة عرفت ميدانيا كم هو مسحوق العربي حتى في وطنه وكم تمتهن كرامته كل يوم، ولكني تعلمت ايضا حرفة الصحافة وتمكنت منها الا اني لم اجد وقتا اكتب لذاتي. هاجرت الى نيوزيلندا في العام 1995 ومازلت اعيش هناك. الهجرة اطلعتني على حقائق مرعبة اولها اننا نحتاج الى عشرات السنين لكي نعيد ترتيب شخصيتنا بحيث يقبلنا الاخرون. الثانية ان المثقفين وكتاباتهم في واد والناس كلهم في واد اخر. الثالثة ان الانسان عندنا هو فارزة يمكن للكاتب ان يضعها بين السطور او لا. في السنوات الاخيرة تفرغت للكتابة الشخصية بعيدا عن الهم الصحفي، واحتفظ الان برواية مخطوطة ومجموعة قصصية ويوميات اسميتها "يوميات صحفي سائق تاكسي" ومجموعة قصص اطفال بأنتظار غودو عربي صاحب دار نشر يتولى معي طبع ماكتبت دون ان يمد يده طالبا مني العربون قبل الطبع. احلم في سنواتي المقبلة ان اتخصص في الكتابة للاطفال فهم الوحيدون الذين يقرأون.
This entry was posted in الأدب والفن. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.