يوميات صحفي … سائق تاكسي 11

محمد الرديني

الخياط والوطن

البعض منا يملك عقلية تآمرية يحسد عليها وليس من المجافاة القول ان امثال هؤلاء هم شجرة الديكتاتورية في الوطن العربي حين يتسنى لهم استلام السلطة. ان هؤلاء يتمتعون فعلا يعقلية تخطط لاتجاهات تصب كلها في مسار الانانية وحب الذات والبحث عن المكاسب الشخصية حتى ولو كانت على حساب الاخرين وكرامتهم.
بعضنا يعتقد – سامحهم الله- ان اختيار الوطن البديل هو تماما مثل ذاك الذي يذهب الى الخياط لتفصيل بدلة – لاادري لماذا يسميها البعض بذلة- حسب المواصفات التي يريدها. وسيكون حال الخياط مثل حذاء ابو القاسم الطنبوري او مثل سمك (الصبور) عند اهل البصرة في العراق: ملبوس او مأكول مذموم.
فاذا اخطأ الخياط في المقاييس ستنقلب الدنيا ولا تقعد ولا اقل من اطلاق صفة الجهل اوالرعونة على هذا الخياط البائس اما اذا سها عن اتباع التعليمات المقررة في مقاييس هذه البدلة فاقل مايقال عنه انه خياط اجوف اما اذا لم تعجب البدلة صاحبها لسبب يجهله الخياط فانه – اي الخياط- لاينتمي الى هذا العصر.
وهذا الحال بالنسبة لبعضنا حين قرروا او رمتهم ظروفهم الى الهجرة حيث المنافي البعيدة. فهم يريدون وطنا حسب مقاييسهم وامزجتهم والا فلعنة الله على هذا الخياط الجاهل.
هناك مهاجرون عرب يستقتلون للحصول على لقب لاجىء، لايهم البلد الذي يمنحهم هذا اللقب المهم ان يصلوا الى هناك وبشتى الاساليب المشروعة وغير المشروعة، انهم مثلا – وهذا مايكتبوه في اوراق طلب اللجوء ضمن مسببات الهجرة- مناضلون يطاردهم النظام الحاكم  اينما  حلوا يريد اهدار دمهم بعد ان شعر بخطرهم النضالي والايديولوجي والسياسي، انهم لايجدون لقمة الخبز في بلادهم بل انهم محاصرون حتى من الهواء الذي يمر على بيوتهم. وتكر اللعبة من (مناضل) الى أخر ويحصل الكثيرون منهم على اللجوء حيث تتاح لهم لقمة خبز شريفة وبيت نظيف وحقوق يكفلها القانون وربما عمل لايحلمون به في بلدهم.
ويبدأ هولاء بعْد الايام والسنين، هاقد مرت سنة ثم سنة اخرى ولم يبق على التجنيس الا بضعة اشهر، تمضي هذه الاشهر وتصلهم بعد ذلك رسائل رقيقة من وزير الهجرة يطلب منهم الحضور الى حفل التجنيس وفي ذيل الرسالة عبارة نادرا ماتؤثر فيهم تقول : لنا الشرف لانكم اصبحتم من مواطني هذا البلد(…) وترفق مع هذه الرسالة استمارات طلب جواز السفر لمن يرغب في الاستمتاع بعطلة خارج وطنه الجديد.
وفي ذلك المساء يكون المخطط قد وصل الى ذروته فهم حين يستلمون وثائق تجنيسهم يعودون الى بيوتهم مسرعين لملء استمارات طلب جواز السفر وبعد ايام تراهم غادروا بلدهم الجديد الى حيث بلدهم الاصلي ولكن بجلد جديد. انهم الان مواطني بلد اخر ولكنهم يقيمون في بلدهم الاصلي  حيث بات الهواء الذي يمر على بيوتهم نقيا صافيا وبقدرة قادر عفت عنهم السلطة الحاكمة وبات الاضطهاد في خبر كان وحتى انهم باتوا يضيقون بلقمات الخبز التي باتت تنهال عليهم من كل حدب وصوب. وتتضح الرؤيا شيئا فشيئا فهم لم يكونوا مناضلين ولاجياع ولا مضطهدين، انهم بايجاز كانوا يبحثون عن جلد جديد يسلخون به جلدهم القديم ويقولوا للاخرين: هاقد جئنا الى ارضكم نبحث فيها عن مغانم جديدة.
وحين تسألهم : من انتم ؟ يجيبون: نحن اناس كتبت علينا الهجرة والغربة ولكننا تغلبنا عليها بدهاء اصحاب الخبرة في التلون.

About محمد الرديني

في العام 1949 ولدت في البصرة وكنت الابن الثاني الذي تلاه 9 اولاد وبنات. بعد خمسة عشر سنة كانت ابنة الجيران السبب الاول في اقترافي اول خاطرة انشائية نشرتها في جريدة "البريد". اختفت ابنة الجيران ولكني مازلت اقترف الكتابة لحد الان. في العام 1969 صدرت لي بتعضيد من وزارة الاعلام العراقية مجموعة قصص تحت اسم "الشتاء يأتي جذلا"وكان علي ان اتولى توزيعها. في العام 1975 التحقت بالعمل الصحفي في مجلة "الف باء" وطيلة 5 سنوات كتبت عن كل قرى العراق تقريبا ، شمالا من "كلي علي بيك" الى السيبة احدى نواحي الفاو. في ذلك الوقت اعتقدت اني نجحت صحافيا لاني كتبت عن ناسي المعدومين وفشلت كاتبا لاني لم اكتب لنفسي شيئا. في العام 1980 التحقت بجريدة" الخليج" الاماراتية لاعمل محررا في الاخبار المحلية ثم محررا لصفحة الاطفال ومشرفا على بريد القراء ثم محررا اول في قسم التحقيقات. وخلال 20 سنة من عملي في هذه الجريدة عرفت ميدانيا كم هو مسحوق العربي حتى في وطنه وكم تمتهن كرامته كل يوم، ولكني تعلمت ايضا حرفة الصحافة وتمكنت منها الا اني لم اجد وقتا اكتب لذاتي. هاجرت الى نيوزيلندا في العام 1995 ومازلت اعيش هناك. الهجرة اطلعتني على حقائق مرعبة اولها اننا نحتاج الى عشرات السنين لكي نعيد ترتيب شخصيتنا بحيث يقبلنا الاخرون. الثانية ان المثقفين وكتاباتهم في واد والناس كلهم في واد اخر. الثالثة ان الانسان عندنا هو فارزة يمكن للكاتب ان يضعها بين السطور او لا. في السنوات الاخيرة تفرغت للكتابة الشخصية بعيدا عن الهم الصحفي، واحتفظ الان برواية مخطوطة ومجموعة قصصية ويوميات اسميتها "يوميات صحفي سائق تاكسي" ومجموعة قصص اطفال بأنتظار غودو عربي صاحب دار نشر يتولى معي طبع ماكتبت دون ان يمد يده طالبا مني العربون قبل الطبع. احلم في سنواتي المقبلة ان اتخصص في الكتابة للاطفال فهم الوحيدون الذين يقرأون.
This entry was posted in الأدب والفن. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.