وهم الهوية ودستور الأصولية

يونس شريف

يرمي هذا المقال إلي قراءة الصراع حول المادة‮ ‬219،‮ ‬بشكل يتجاوز مجرد الصراع الفقهي‮- ‬القانوني،‮ ‬أو حتي السياسي البحت،‮ ‬لاستكشاف أبعاده الإيديولوجية التأسيسية،‮ ‬وتجاوز جوانب من الزيف الذي يحيط بالمناقشة،‮ ‬وصولا إلي تحليل بشأن طبيعة الصراع،‮ ‬واقتراح موقف أساسي للمعسكر الديمقراطي في الجدل حول الدستور في سياقات الثورة المصرية‮.‬

‮(‬1‮) ‬بين المادة الثانية و219
الجدل حول المادة‮ ‬219‮ ‬يُخفي أكثر مما يُظهر‮. ‬المادة تحدد الشريعة‮ (‬باعتبارها المصدر الرئيسي للتشريع في المادة الثانية‮)‬،‮ ‬بأنها‮ “‬تشمل أدلتها الكلية،‮ ‬وقواعدها الأصولية والفقهية،‮ ‬ومصادرها المعتبرة،‮ ‬في مذاهب أهل السنة والجماعة‮”. ‬هذا التحديد يعني في واقع الأمر تعريف الشريعة بأنها ذلك التراث السابق المتراكم علي مر القرون من الفتاوي والمدارس الفقهية‮ (‬السُنِّية وحدها‮)‬،‮ ‬أي تعني الالتفاف علي سابق رفض إحلال كلمة‮ “‬أحكام‮” ‬محل كلمة‮ “‬مبادئ‮” ‬في المادة الثانية‮. ‬وهو ما يعني عمليا إحالة‮ ‬غائمة إلي تراث كامل،‮ ‬معظمه انتهي فعليا،‮ ‬يمكن أن تجد فيه كل شيء وصولا إلي أحكام معاملة العبيد والإماء‮. ‬هذه الإحالة لا ترمي إلي إعادة العبودية مثلا،‮ ‬بل وضع مبدأ دستوري يحيل المُشَرِّع والمجتمع بأكمله وجوبا إلي مجلدات ذلك الماضي بكل ما ورد فيها من اجتهادات‮. ‬
المادة‮ ‬219‮ ‬لا ترمي إذن إلي مزيد من الدقة في تحديد المقصود بالشريعة،‮ ‬بل إلي التخلص من كل دقة بإلقاء المجتمع والسلطة في خضم هذه المجلدات القديمة ليحاول أن يشق طريقه عبرها باعتبارها هي المجال المتاح له‮.. ‬لتتقاتل جميع القوي بالأوراق الصفراء‮. ‬
لكن المشكلة الحقيقية لا تكمن هنا،‮ ‬ولم تنشأ من إقرار المادة‮ ‬219‮ ‬التي لم تطبق عمليا‮.. ‬بل تكمن في المادة الثانية نفسها‮. ‬كانت المحكمة الدستورية قد فسّرت المادة الثانية بأن مبادئ الشريعة هي المقاصد العامة للشريعة التي هي مقاصد عامة لا خلاف عليها في أي مجتمع تقريبا،‮ ‬مثل العدل والحرية والمساواة وما إلي ذلك‮. ‬كما قررت أن مبادئ الشريعة هي مجموعة قليلة من الأحكام قطعية الثبوت والدلالة‮. ‬
برغم ذلك أدت المادة الثانية في التطبيق إلي أحكام منافية للحرية الدينية والأخلاقية والضميرية وحرية النشر والتعبير في قضايا كثيرة،‮ ‬منها الأحكام الخاصة بالبهائيين أو بشأن نصر حامد أبو زيد أو قضايا تحويل العقيدة‮ (‬ما لم يكن إلي الإسلام‮)‬،‮ ‬وغير ذلك‮. ‬وحالت الأحكام قطعية الثبوت والدلالة،‮ ‬التي فقدت علاقتها بالواقع الاجتماعي ومجمل البنية التشريعية‮ (‬مثل قطع يد السارق،‮ ‬أحكام الزنا،‮ ‬مثلا‮) ‬إلي شل يد التشريع عن إجراء أية تعديلات في مواد قانون العقوبات المتعلقة بها،‮ ‬مثل حالات القتل من أجل الشرف،‮ ‬لأن أي محاولة للتعديل ستصطدم فورا بالتفسير الضيق لمبادئ الشريعة‮. ‬

‮(‬2‮) ‬الأصولية والهوياتية والدستورية
المشكلة إذن من حيث جوهرها أبعد من أن تُحصَر في المادة‮ ‬219‭.‬‮ ‬هناك مشكلة أساسية تحتاج إلي فحص وإدراك لأبعادها ومعناها مع مبدأ الشريعة نفسه،‮ ‬أي مبدأ الإحالة إلي التراث الفقهي بأدلته ومصادره وقواعده التي أشارت إليها صراحة المادة‮ ‬219،‮ ‬والتي كانت تتسلل بروحها في عدد معتبر من أحكام المحاكم حتي قبل أن تظهر في الأفق في دستور الإخوان‮- ‬السلفيين في‮ ‬2012‭.‬‮ ‬
هذا التأكيد علي عمق المشكلة لا يعني بطبيعة الحال القول بأنه لا فارق بين وضع المادة‮ ‬219‮ ‬وإلغائها،‮ ‬بل يعني أن المشكلة من حيث التصور والمفهوم لا تكمن هنا،‮ ‬بل تكمن في تصور معين،‮ ‬عن المجتمع والدولة والوجود،‮ ‬موجود بشكل ضمني خلف كل الكلام المثار بشأن الشريعة،‮ ‬وغير متاح للمناقشة بسبب خوف المعسكرات الفكرية من تجاوز خطوط حمراء معينة‮. ‬هذا التصور الضمني الذي يتسلل عبر المادة الثانية أحيانا،‮ ‬أو يظهر بشكل صريح في صياغة المادة‮ ‬219،‮ ‬نجد تجليه الحقيقي في رأيي في المادة التي فشل السلفيون في فرضها علي رأس دستور‮ ‬2012‮: ‬السيادة للـه وحده،‮ ‬ومجمل التصورات الفقهية‮- ‬السياسية التي حركت مجمل الظاهرة المعروفة بـ”الصحوة الإسلامية‮”.‬
وفقا لذلك،‮ ‬المشكلة في عمقها هي مبدأ‮ “‬الصحوة‮” ‬الأصولي نفسه‮: ‬ليس للمجتمع الحق في أن يضع لنفسه تشريعاته كيفما يري،‮ ‬من خلال توازناته السياسية والمصالح وجماعات الضغط المختلفة ونجاحها في الدفاع عن مصالحها بوصفها مصالح عامة،‮ ‬لأن‮ “‬السيادة للـه وحده‮”‬،‮ ‬وهي السيادة التي تتحقق عبر سلطة الوسطاء المطلعين علي ذلك التراث،‮ ‬والذين يمنحون أنفسهم حق تأويله وتطويره‮. ‬
لكن المقال لن يتناول هذه القضية من زاوية أثرها علي الحريات،‮ ‬بل من حيث أزمة هذا المبدأ الأصولي نفسه‮. ‬الفكرة هنا هي أن هذا المبدأ هو في صميمه‮ ‬غير دستوري أصلا‮. ‬فكرة الدستور،‮ ‬بصفة عامة،‮ ‬أي دستور،‮ ‬تعني أن المجتمع يضع لنفسه نظام حكمه،‮ ‬بما في ذلك قواعد التشريع،‮ ‬بما له من حرية ابتدائية افتراضية حصل عليها‮. ‬وإقرار أي دستور عن طريق استفتاء أو عن طريق جمعية منتخبة أو كليهما يعني أن هذا المجتمع يعتبر نفسه مكوّنا من أفراد متساوين،‮ ‬لكل منهم الحق،‮ ‬بوصفه فردا حرا،‮ ‬في وضع القواعد التي تقوم عليها السلطة العامة،‮ ‬بما في ذلك قواعد التشريع‮. ‬لذلك يعتبر باب الحريات الذي يضمن حريات وحقوق الأفراد في مواجهة كافة سلطات الدولة لُب أي دستور،‮ ‬بينما يمكن أن يختلف تحديد نظام الحكم نفسه بين مَلَكي دستوري أو جمهوري أو برلماني أو خليط من عدة نظم بضوابط معينة من دستور لآخر،‮ ‬حسب التراث الدستوري التاريخي والتوازنات الواقعية‮. ‬
معني هذا أن فكرة الاستفتاء علي دستور قائم علي ملامح أصولية‮ (‬وبالتالي يقيد الحريات الفردية وحق المجتمع في التشريع بأي قيد‮)‬،‮ ‬منافية لفكرة الدستور نفسها‮. ‬كما أن الاستفتاء علي دستور كهذا مناقض أيضا للفكرة الأصولية،‮ ‬لأن استفتاء الأفراد الأحرار علي إقرار‮ (‬أو عدم إقرار‮) ‬التشريع الإلهي،‮ ‬أو السيادة الإلهية،‮ ‬أو أحكام الفقه،‮ ‬يعتبر من وجهة نظر فكر‮ “‬الصحوة‮” ‬شِرْكا وتعديا علي الحقوق الإلهية‮. ‬إقرار أية أصولية بشكل متسق يعني استبعاد أية إحالة إلي الفرد الحر بأية صورة كانت‮. ‬فمبدأ التشريع الإلهي لا يستطيع أن يتجسد بطريقة متسقة مع نفسه إلا من خلال مبدأ ولاية الفقيه،‮ ‬أو السلطان الأمين علي الفقه،‮ ‬باعتبارها ولاية سابقة علي كل دستور‮. ‬لذلك ربما كان الأنسب من وجهة النظر هذه أن يصدر الدستور الأصولي،‮ ‬إذا صدر دستور أصلا،‮ ‬كمنحة من حاكم يحكم بالقوة،‮ ‬بوصفه يؤدي بذلك واجبا دينيا يثاب عليه،‮ ‬كفرد،‮ ‬في الآخرة،‮ ‬ويثاب الآخرون عليه بقدر طاعتهم لهذا الحاكم التقي الذي‮ “‬يسوس‮” ‬الناس بالشريعة،‮ ‬أيا كانت إراداتهم الفردية المختلفة‮.‬
إصدار دستور أصولي،‮ ‬أو به ملامح أصولية حاكمة،‮ ‬لا يتفق إذن مع أي مبدأ أيا كان،‮ ‬لا مبدأ الأصولية ولا مبدأ الدستورية‮. ‬لكن مشروع الدستور الإسلامي يحاول أن يحقق هذا الهجين بالفعل،‮ ‬لأنه ببساطة يعبر عن عجز الإسلاميين عن إقامة دولتهم الأصولية علي الوجه‮ “‬السليم‮”‬،‮ ‬أي بـ”الفتح‮”: ‬تحطيم جهاز الدولة وإعادة بناء الازدواج بين الدولة والشريعة علي النحو‮ “‬الملائم‮” (‬النموذج الإيراني‮). ‬
ما هو إذن مبدأ إصدار دستور به ملامح أصولية في ظروف‮ ‬غير‮ “‬ملائمة‮”. ‬في هذا الحل‮ “‬الوسط‮”‬،‮ ‬تجري ترجمة العقيدة إلي نوع من قومية،‮ ‬أو إلي نوع من تراث ثقافي أصلي ومؤسِّس للجماعة السياسية‮. ‬لا تجري المطالبة بالشريعة كحاكم أعلي من حيث أنها إلهية فحسب،‮ ‬ولا حتي أساسا،‮ ‬بل من حيث أنها‮ “‬تراث الأمة‮” ‬أو‮ “‬ثقافتها‮”. ‬فالمجتمع يجري افتراض هوية إسلامية له،‮ ‬وأن هذه الهوية موجودة في الشريعة‮ (‬ومصادرها المعتبرة التي لا يعرفها الناس،‮ ‬إلخ‮). ‬وبناء عليه يجري فرض الشريعة بوصفها هوية المجتمع في مواجهة الفرد بصفة عامة‮ (‬أي من حيث المبدأ‮)‬،‮ ‬وفي مواجهة أية جماعات أو أفراد لا يتفقون مع هذه الرؤية‮. ‬هذه الترجمة قام بها أساسا مجموعة التراثيين الجدد،‮ ‬مع مجموعة من‮ “‬الإسلاميين المعتدلين‮”‬،‮ ‬لكن هذا موضوع آخر‮. ‬
ولأن الشريعة مطروحة في هذا التصور الهجين كنوع من ثقافة اجتماعية تعبر عما يسمي‮ “‬هوية المجتمع‮”‬،‮ ‬قيل إن فرضها باستفتاء أو بغيره هو من صميم الديمقراطية بالمعني الواسع للكلمة،‮ ‬أي التعبير عن إرادة المجتمع في الدفاع عن هويته‮. ‬
وفي سياق هذه الفكرة‮ (‬أي ترجمة العقيدة إلي ثقافة،‮ ‬هوية‮)‬،‮ ‬قيل إن فرض القواعد الإلزامية‮ (‬غير المحددة‮) ‬للشريعة،‮ ‬هو من صميم الديمقراطية،‮ ‬ولا يتنافي مع قواعدها‮. ‬وقيل إن أي دستور يفرض قواعد إلزامية ما علي الجميع،‮ ‬وأنه بذلك يقيد حرية الفرد،‮ ‬حتي لو كانت هذه القواعد‮ ‬غاية في الديمقراطية وتقديس الحرية‮. ‬فهي بوصفها قواعد عامة تحد من حرية الفرد بوصفه فردا‮. ‬فعليه،‮ ‬مثلا،‮ ‬أن يحترم حريات الآخرين المختلفين معه برغم أنه قد لا يرغب في ذلك بإرادته الحرة،‮ ‬لو تُركت إرادته هذه لنفسها‮. ‬كما قيل إن كل مجتمع،‮ ‬بصفة عامة،‮ ‬يضع قواعد قانونية،‮ ‬بل وأعرافا‮ ‬غير مكتوبة،‮ ‬لها قدرة مُلزمة تحد من حرية الأفراد عمليا،‮ ‬وإن كل مجتمع له تاريخ وتراث وتقاليد لها قوة إلزام متفاوتة،‮ ‬وتسفر فعليا عن دساتير وقوانين متفاوتة‮. ‬
لكن هذه المحاولة‮ “‬لتجسير الفجوة‮” ‬بين الدستوري والأصولي ليست سوي مغالطة‮. ‬يكمن الفارق الجوهري في أن مبدأ الدستور يقوم علي الفرد المستقل الافتراضي،‮ ‬الحر من حيث المبدأ،‮ ‬الذي يكون عليه بالتالي،‮ ‬التفاهم علي ما هو محل إلزام مشترك مع الأفراد الآخرين المساوين له‮. ‬ولأن مبدأ حرية الفرد هو أساس المبدأ الدستوري،‮ ‬يجب أن يكون هذا الإلزام في الحدود الدنيا التي تتيح للفرد ولنظرائه من المواطنين تعديل هذا الإلزام المتبادل،‮ ‬بما يفضي عمليا إلي توسيع نطاقات الحرية،‮ ‬أو تقليل القيود المتبادلة‮. ‬بعبارة أخري،‮ ‬يفترض المبدأ الدستوري‮ (‬شاملا مسألة صدوره عن الشعب بوصفه مجموع السكان بوصفهم جماعة سياسية‮)‬،‮ ‬أن هذه الجماعة تتشكل كجماعة من أفراد حريصين علي حريتهم،‮ ‬يقللون التزاماتهم المتبادلة إلي الحد الأدني الذي يحفظ المصالح المشتركة‮ ‬للجماعة بوصفها جماعة بشرية حريصة علي تصور نفسها‮ ‬
كمجموعة من المواطنين الأحرار المختلفين في رؤاهم وطموحاتهم وطبائعهم،‮ ‬وحقهم في ممارسة هذا الاختلاف علي قدم المساواة‮. ‬
ويمتد ذلك إلي مسألة التراث الثقافي والتاريخ والتقاليد‮. ‬فالمبدأ الدستوري بإطلاق حق التشريع للشعب بغير قيود مسبقة،‮ ‬يفترض أن أفرادا من الشعب قد يرغبون في تغيير بعض البنود القانونية أو الدستورية في المستقبل،‮ ‬وأنه ليس من حق واضعي الدستور بالتالي أن يقيدوا إرادتهم مسبقا‮. ‬وبالتالي يتيح،‮ ‬بل يضمن،‮ ‬لكل المنشقين علي الأغلبية،‮ ‬حاليا ومستقبلا،‮ ‬التمتع بكامل الحرية في بذل الجهود المشروعة لتحقيق هذا التغيير في المفاهيم أو القيم،‮ ‬وفي القوانين الحاكمة،‮ ‬سواء بالسلوك العملي فيما لا يتناوله القانون،‮ ‬أو بتغيير القواعد القانونية‮. ‬
أما ترجمة الأصولية إلي ثقافة،‮ ‬فإنها تقوم علي عكس هذا المبدأ تماما،‮ ‬أي تقوم،‮ ‬كما ذكرتُ،‮ ‬علي حق الماضي في التحكم في الحاضر،‮ ‬وحق الحاضر في التحكم في المستقبل‮. ‬ويسمي هذا المبدأ الاستبدادي،‮ ‬في صياغة يمكن أن توصف بالنفاق والكذب،‮ “‬حرية المجتمع‮”. ‬المقصود بهذه‮ “‬الحرية‮” ‬في الحقيقة هو حق السلطات المعبرة عن‮ “‬المجتمع‮” ‬في تقييد حرية الفرد‮. ‬ليس فقط بمنعه من ممارسة عقيدة أو التعبير عن فكرة تتعارض مع‮ “‬الثقافة‮”‬،أي‮ “‬الهوية‮”‬،‮ ‬بل أيضا بالسماح بتدخل واسع للدولة في‮ “‬تربية‮” ‬الأفراد وتقويمهم وتهذيبهم ليصبحوا مطابقين للتصور الهوياتي المرغوب فيه‮. ‬
لكن هذا المبدأ،‮ ‬أي رفض مبدأ حرية الفرد وواجب إخضاعه،‮ ‬لا يقتصر علي المنادين بالشريعة،‮ ‬بوصفها في أقوالهم‮ “‬الكتالوج‮” ‬الذي أمر اللـه الإنسان باتباعه،‮ ‬بل يشمل كل دستور يحدد هوية معينة إلزامية للمجتمع،‮ ‬لأن تحديد الهوية دستوريا يترتب عليه إلزام كافة سلطات الدولة بالحفاظ علي هذه الهوية أو تدعيمها‮. ‬ويعتبر هذا التحديد أساس كل ديكتاتورية‮ “‬دستورية‮” (‬أو ملتحفة بأوراق تكرس قوانين ومؤسسات قمعية وفقا للدستور‮). ‬
لماذا كانت مقولة الهوية ديكتاتورية؟ واقع الأمر أن أحدا لا يضع هوية ما في الدستور‮ (‬ويشفع ذلك بإجراءات في مجال التعليم والثقافة والإعلام و”تهذيب‮” ‬المواطن وما إلي ذلك‮) ‬لأن هذه الهوية من طبائع الأمور‮. ‬بالعكس تماما‮. ‬لأننا إذا سلمنا جدلا بما يقوله الهوياتيون،‮ ‬من أن الهوية قائمة بالفعل،‮ ‬ومغروسة بالتالي في أعماق الأفراد أو معظمهم،‮ ‬سنجد أنها بوضعها هذا ليست بحاجة إلي أي دعم دستوري ولا إلي قهر قانوني‮. ‬لأن هذه الهوية التي يُفترض أنها أصيلة وبديهية،‮ ‬تكون وفقا للافتراض الهوياتي متغلغلة في الحس المشترك،‮ ‬وظاهرة في سلوك الإفراد،‮ ‬بوعي منهم أو بشكل‮ ‬غير مقصود،‮ ‬فلا يحييها ولا يميتها ولا يدعمها دستور ولا قانون‮. ‬تماما مثلما لا ينص أي قانون أو دستور علي أن الإنسان يأكل ويشرب وينام،‮ ‬لأن ذلك من صميم طبيعة البشر ككائنات‮.‬
واقع الحال إذن أن كل نص علي هوية المقصود به فرض هوية،‮ ‬لا التعبير عنها‮. ‬وهو إذن مدخل لتقييد عام لحرية الأفراد بقدر ما يجري تفسير أقوالهم أو سلوكهم بأنها تشكل اعتداءات علي هذه الهوية الجماعية المفترضة‮. ‬فوق ذلك،‮ ‬الهوية هي مبدأ للتحكم في المجتمع القائم ككل،‮ ‬لا مجرد‮ “‬الخارجين عليه‮”. ‬لأن الهوية تفترض في نفسها أنها عابرة للأجيال والزمن‮. ‬هي‮ “‬أصلية‮”‬،‮ ‬بلا أصل محدَّد أو مرجعية يمكن أن تناقَش‮. ‬وهي بوصفها سرمدية وأصلية تعلو علي إرادة أي جيل بعينه،‮ ‬لأنها فوق الأجيال والأزمنة‮. ‬وبهذا المنطق لا تكتفي مبادئ الهوية بتبرير منع أية رؤي تحملها أقليات ما،‮ ‬دينية أو فكرية أو مذهبية أو سياسية،‮ ‬بل أيضا قمع رؤي مخالِفة،‮ ‬حتي لو تبنتها أغلبية،‮ ‬باعتبارها تمثل وفقا لمبدأ قداسة الهوية الخروج علي هذا الأصل المبهم السرمدي،‮ ‬فيجري محو إرادتها باعتبارها‮ “‬غير دستورية‮” ‬في هذا المبدأ‮ ‬غير الدستوري في أساسه‮. ‬
تبدو فكرة السيادة الإلهية والتشريع الإلهي التجسيد الأنقي والأكثر شراسة لفكرة الهوية اللا-دستورية‮. ‬لكنها لهذا السبب بالذات يبلغ‮ ‬فيها هذا التناقض أشده‮. ‬فبينما تفترض هذه الهوية أنها أعلي حتي من أي تراث أو تاريخ،‮ ‬لأنها نابعة من الفطرة البشرية مباشرة،‮ ‬فإنها تقدم أقسي القيود التي تعتبرها ضرورية لكي‮ “‬تتجلي الفطرة‮”. ‬بعبارة أخري،‮ ‬يفترض تقنين أو دسترة الفطرة أن الفطرة‮ ‬غير فطرية،‮ ‬وأنه،‮ ‬علي العكس،‮ “‬الانحراف‮” ‬عن الفطرة هو الفطري الحقيقي،‮ ‬الذي يجب قمعه لكي يتجلي ما هو‮ “‬فطري‮” ‬حقا‮. ‬وبرغم أن فكرة الفطرة تعتبر من حيث المبدأ فردية‮ (‬لأن الفرد هو الذي يملك ضميرا ويحاسَب علي أفعاله‮)‬،‮ ‬فإنها تعتبر حرية الفرد الخطر الأكبر علي الفطرة،‮ ‬وأن المؤسسات القمعية‮ (‬بما فيها التربوية والدعائية وغيرها‮) ‬هي في واقع الأمر الأمينة علي الفطرة والمسئولة عن فرضها علي الأفراد‮. ‬

‮(‬3‮) ‬ما العمل إذن؟
الدستورية والهوياتية إذن لا يتوافقان،‮ ‬ولا يمكن الجمع بينهما في نص دستوري إلا بوصفه تعبيرا عن عجز الهوياتية عن‮ “‬فتح البلاد‮” ‬بالقوة وإخضاعها،‮ ‬وعجز المبدأ الدستوري القائم علي الفرد عن السيادة‮. ‬لكن النتيجة لا يمكن أن تكون فعليا حلا وسطا،‮ ‬لأنه لا حل وسط بين فكرة سيادة طائفة،‮ ‬أو جماعة مُنقذة،‮ ‬مبنية علي مبدأ هوية،‮ ‬ومبدأ سيادة الشعب بوصفه مجموع السكان في هيئة سياسية مكونة من أفراد أحرار‮. ‬لذلك،‮ ‬مثلا،‮ ‬جاء دستور‮ ‬2012‮ ‬واضحا في تقييد الحريات بمواد الهوية،‮ ‬ولم يكن واردا أن يكون الأمر بالعكس‮. ‬
لا يبدو لي صحيحا تصوُّر أنه يمكن التخلص بشكل كامل من هذا الازدواج،‮ ‬برغم تغير توازنات القوي‮. ‬فأولا،‮ ‬لم تختف القوي الاستبدادية بانتفاضة‮ ‬30‮ ‬يونيه،‮ ‬وثانيا،‮ ‬الهوياتية الاستبدادية ليست مقصورة علي الإسلاميين‮. ‬
أبسط الدلائل علي هذا مسار التطور الدستوري المصري‮. ‬فبينما كان تعريف الدولة المصرية إجرائيا بحتا بغير أية إشارة للهوية في المادة الأولي من دستور‮ ‬1923‮ (‬حكومتها مَلَكيّة وراثية وشكلها نيابي‮)‬،‮ ‬تاركا باقي المواد لحقوق الأفراد وتنظيم الفصل بين السلطات،‮ ‬نجد أن دستور‮ ‬1956‮ ‬يدور بأكمله حول كيان المجتمع،‮ ‬الذي قد يمنح الفرد حقوقا،‮ ‬لكن في سياق الهيمنة باسم المجتمع وانتماءاته الافتراضية‮. ‬يعين الدستور هوية عربية للبلاد،‮ ‬ويمنح السيادة‮ “‬للأمة‮”‬،‮ ‬لا للشعب،‮ ‬أي للسكان بوصفهم كيانا ثقافيا له هوية معينة،‮ ‬ويقوم علي التضامن الاجتماعي والأسرة،‮ ‬ويقيد مختلف الحقوق لصالح‮ “‬المجتمع‮” ‬أو‮ “‬الخير العام للشعب‮”. ‬ومع تقدم الجماعة،‮ ‬أي التصور اللادستوري للدستور،‮ ‬يتزايد ثقل الدولة التي تنظم وترتب،‮ ‬فضلا عن التوزيع المختل والصوري للسلطات كما هو معروف‮. ‬وفي نفس الوقت يظهر الإسلام كدين رسمي للدولة‮. ‬وفي دستور‮ ‬1971‮ ‬تظهر الشريعة كمصدر رئيسي،‮ ‬لتصبح‮ “‬المصدر الرئيسي‮” ‬في التعديل عام‮ ‬1980‭.‬‮ ‬
غني عن البيان أن دستور‮ ‬1956‮ ‬وما تلاه قد صدر في سياق لا صلة له بالديمقراطية والحريات،‮ ‬وكانت هذه الدساتير بتأكيداتها الهوياتية تعبيرا عن واقع أنها كانت منحة من النظام الحاكم،‮ ‬وأداة لتسيير مؤسساته وضبطها،‮ ‬ولا تنبني علي أي حق أصلي للفرد،‮ ‬ولا بالطبع علي مبدأ استقلال السلطات الثلاث،‮ ‬بل علي فكرة سيادة النظام بوصفه حامي السكان وهويتهم،‮ ‬مانح الدستور ووالده‮. ‬
والمسألة ليست تاريخية فحسب،‮ ‬بل هي ماثلة في صميم الوضع الراهن‮. ‬الوضع الحالي يشي بأن الثورة لم تنجح بعد في الحلول محل قوي الاستبداد في السلطة علي اختلافها،‮ ‬بل في زعزعتها فحسب،‮ ‬بسبب تناقضات هذه القوي وعجزها عن الحكم‮. ‬لذلك،‮ ‬سيظل التيار الهوياتي القومي يدافع عن مبدأ هوية تركيبي متعدد الأوجه حسب الظروف‮ (‬وطني‮- ‬عروبي‮- ‬إسلامي‮)‬،‮ ‬يبرر به التشريع لتدخل أجهزة السلطة لتحجيم الحريات في المجال العام بحجة حفظ‮ “‬مصالح الدولة‮”‬،‮ ‬وستظل القوي الأصولية الطائفية تدافع عن مبدأ هوية إسلامي تبرر به طرح التشريعات القمعية للنساء والأقليات والتحكم في مجمل المجال العام وإخضاع مجمل السكان‮. ‬
في ضوء هذا الواقع،‮ ‬لن تستطيع القوي الديمقراطية سوي أن تقبل مضطرة الازدواجية الهوياتية الدستورية في الدستور محل النقاش،‮ ‬تماما مثلما اضطر الأصوليون للتسليم ببعض الحريات،‮ ‬وقبول مبدأ الدستور والاستفتاء والصندوق‮. ‬الحل الممكن من وجهة نظري‮ (‬من منطلق دستوري‮) ‬في الدستور محل المناقشة،‮ ‬هو،‮ ‬مع القبول اضطرارا للازدواجية الهوياتية الدستورية،‮ ‬إخضاع مبادئ الهوية لحرية الفرد والمساواة،‮ ‬بحيث تقيَّد أية مواد هوياتية أيا كانت‮ (‬وطنية،‮ ‬عروبية،‮ ‬دينية‮)‬،‮ ‬بالمبدأ الدستوري،‮ ‬لتصبح نوعا من عنوان أو توجه عام يشير إلي اعتبارات ثقافية محل احترام دستوري،‮ ‬لا بوصفها مبدأً‮ ‬قمعيا حاكما‮.‬
هذا يعني عمليا أنه ينبغي أن يعود تعريف الدولة إلي النمط الإجرائي كما جاء في دستور‮ ‬1923،‮ ‬باعتبار مصر جمهورية ديمقراطية قائمة علي الحرية والمساواة‮ ‬غير المشروطة بين جميع المواطنين،‮ ‬وأن الشعب بإرادته الحرة هو مصدر السلطات‮. ‬أما بالنسبة للهوية،‮ ‬فينبغي التأكيد علي الهوية التعددية تاريخيا للأمة المصرية،‮ ‬وعلي انتماء مصر لعصرها وللمجتمع الدولي وقيمه،‮ ‬بحيث يأتي إبراز الانتماء العربي والإسلامي،‮ ‬بكل عبارات التبجيل الممكنة،‮ ‬في هذا السياق التعددي وحده،‮ ‬مع كامل الاعتبار والتقدير باعتبار ذلك مكوّنا ثقافيا أصيلا للشعب المصري‮. ‬بعبارة أخري،‮ ‬احترام التيارات الهوياتية وحقها في العمل يجب ألا ينطوي علي القبول بحقها في السيادة علي الشعب،‮ ‬سواء بنفسها،‮ ‬أو عن طريق الأزهر،‮ ‬أو‮ ‬غيره من المؤسسات،‮ ‬أو عن طريق فرض مبادئها في الدستور‮. ‬وبالتالي يصبح لموضوع الشريعة وجهة معينة،‮ ‬تجعل التعامل معها في سياق المبادئ الدستورية،‮ ‬لا الهوياتية‮. ‬ويشجع علي إمكانية هذا الحل‮…..‬
ويشجع علي إمكانية هذا الحل الفشل المدوّي للتيار الأصولي،‮ ‬بما حال دون نجاح أي تحالف بين قوي الهوياتية المختلفة‮. ‬في ضوء هذا الواقع،‮ ‬ليس الخطران متساويين‮. ‬بقدر ما يقتنع التيار القومي بأن إعادة بناء الدولة يجب أن تكون في شراكة مع قوي سياسية تتبني الدستورية،‮ ‬سيكون عليه أن يقبل بقدر كبير من إخضاع الهوية للحرية‮. ‬إبقاء مبدأ الهوية سيعطي نوعا من الدعم المعنوي لتيارات الهوية،‮ ‬ويغطي ضعف المجال السياسي،‮ ‬لكنه لن يكون في صورته هذه تكأة للتسلط الهوياتي القومي،‮ ‬أو التسلط الاستبدادي‮ ‬الديني الأكثر خطورة وانحطاطا‮.‬

منقول عن اخبار اليوم المصرية

 

About محمد البدري

مهندس وباحث انثربولوجي
This entry was posted in دراسات سياسية وإقتصادية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.