وفاء سلطان لماذا وكيف تكتب؟! (4)

وفاء سلطان 

عبر التاريخ البشري، حاول بعض المفكرين والفلاسفة أن يرفعوا “الأنا” على حساب الروح أو أن يرفعوا “الروح” على حساب الأنا، فجاءت رسالتهم ناقصة وفشلت في الوصول إلى هدفها النبيل.

لا أملك شيئا ضد روحانية غاندي، لكنني لا أعتقد بأنه ساهم إلى حد مقبول في إثراء “الأنا” عند الإنسان الهندي، ولذلك ظلت الهند منذ عهده تراوح مكانها.

هذا ما حدث عندما قدم كارول ماركس نظريته إلى أتباعه، حاول أن يستبدل قسرا “الأنا” الفردية بـ “الأنا” الجمعية، وأهمل في الوقت نفسه كل علاقة روحانية تربط الإنسان بكونه، ففشلت المجتمعات التي تبنت نظريته.

خلال السنوات الأولى التي أعقبت سقوط الإتحاد السوفياتي ارتفع معدل الجريمة في روسيا حتى بلغ رقما قياسيا.

يرى علماء الإجتماع في ذلك المعدل ردة فعل طبيعية لفعل غير طبيعي.

فالقمع الذي قضى على “الأنا” عند الفرد في المجتمعات التي انطوت تحت لواء الإتحاد السوفياتي، ناهيك عن تخريب الجانب الروحي، قد دفع بذلك الفرد ـ عند انهيار السلطات القمعية ـ إلى ردة فعل غير مضبوطة لإستعادة “أناه” المحطمة أولا وقبل أن يفكر باسترداد عافيته الروحانية.

شعر الفرد عندها بأنه حرّ، حر ليكره، ليقتل، ليخرب، لينتقم، ليسرق، ليغش، ليرتشي، وليفعل ما يشاء بلا ضوابط في محاولة يائسة للتعويض عما فاته وعما سلبوه منه!

أذكر بعد سنوات من الإنهيار قابلت طبيبة من إحدى دول الإتحاد السوفياتي سابقا، قالت لي بالحرف الواحد: لقد رضعت كره الشيوعية في حليب أمي، ولكنني أدفع الآن عمري ليعود الإتحاد السوفياتي، فالقمع أفضل بكثير من تلك الفوضى غير المضبوطة!

لكن ليس من العدل بمكان أن نقارن أيا من هاتين الحالتين بما فعله الإسلام، فالإسلام لم يتجاهل الجانب الروحي وحسب، بل قتله كليا.

والإسلام لم يستبدل “الأنا” الفردية بـ “الأنا” الجمعية، بل استبدلها عنوة بـ “الأنا” المحمدية!

مع الزمن خسر المسلم علاقته مع “أناه” الحقيقية، وتحولت العلاقة الروحانية التي يفترض أن تربطه بغيره إلى علاقة إنتقامية ترمي إلى قطع رأس ذلك الغير.

الأنا المحمدية طغت على الأنا الذاتية، حتى صار محمد يعيش في هيكل كل مسلم، وترى ذلك واضحا في أكثر المسلمين نفورا من الإسلام.

تلتقي مع المسلم ـ وبغض النظر عن مستواه الثقافي ودرجة تعلقه أو تعمقه بالإسلام ـ فتكتشف كلما تعمقت في علاقتك معه، تكتشف بأنه مخلوق يعيش صراعا نفسيا وفكريا رهيبا، صراعا بين “الأنا” الحقيقة المهمّشة والمهشمة وبين “الأنا” المحمدية المزيفة والمنتفخة.

هو بين مد وحسر، يكون لحظة نفسه ويكون في اللحظة التي تليها نبيه.

الإنسان يميل غريزيا لأن يكون نفسه ولأن يعتز بفرديته، ولذلك عندما تقتل لديه تلك النزعة وتجبره على أن يكون غيره تكون قد سلبته إحساسه بقيمته كفرد فريد من نوعه!

كنت أراقب مرة برنامج على أحد المحطات الفضائية الإسلامية، وكان الحوار يدور بين ثلاث نساء مبرقعات حول تعدد الزوجات.

ما لاحظته كان مثيرا للحزن وللشفقة في آن واحد!

تدافع الواحدة منهن عن تعدد الزواج كأمر إلهي لا مفر منه، ثم ـ وعندما يتعلق السؤال بها هي شخصيا ـ تقول: لا.. لا يمكن أن أقبل بأن يتزوج زوجي امرأة ثانية عن رضى وطواعية.

هذا الشرخ الذي يحدثه الإسلام بين “الأنا” الحقيقية وبين “الأنا” المزيفة، والذي تلمسه لدى المسلمة خلال لحظة واحدة، يخلق صراعا نفسيا وفكريا ليس من السهل أن تعيش معه!

وهنا لا بدّ أن نتساءل: هل من الممكن ترميم الإنسان المسلم وإعادة تأهيله؟!!

إن بناء الإنسان كأنا وكروح يتم تدريجيا وعبر مراحل، وكما أن بنائه لا يتم في ليلة واحدة كذلك ترميمه لا يتم في ليلة واحدة، فهو ليس قطعة أرض كي يسترد.

الترميم يأخذ وقتا والجروح مهما التأمت تترك ندبات، كالقربة التي تهشمت ثم اُعيد لصقها لا تستطيع أن تسترد أصلها!

عام 1991 كانت الطفلة الأمريكية

Jaycee Dugard

 ذات الأحد عشر ربيعا، في طريقها من بيتها في ولاية كاليفورنيا إلى المدرسة، عندما تمّ خطفها من قبل مجهول، ولم تنجح كل محاولات البوليس الأمريكي والإف بي آي في الكشف عن هوية الفاعل.

في الشهر الثامن من العام الماضي أي بعد 18عام، وبالصدفة المطلقة، تم العثور على جيسي حية ترزق، وعمرها آنذاك 29 عاما.

لقد خطفها رجل مصاب بالـ

Pedophilia

 ـ اضطراب عقلي ونفسي تسيطر من خلاله على البالغ رغبة في ممارسة الجنس مع الأطفال ـ وحبسها في الحديقة الخلفية لبيته دون أن يسمح لها طيلة تلك السنوات من الدخول إلى البيت ناهيك عن الخروج منه.

خلال تلك السنوات حملت منه مرتين وأنجبت طفلتين، وقد عثر عليهما مع الأم يعيشن في خيمة في الحديقة الخلفية للبيت.

بالطبع، لا تملك الأم جيسي وطفلتاها أيّا من المهارات الإجتماعية التي تساعدهن على التفاعل مع المجتمع، وذلك نتيجة للعزلة التي ضربها الخاطف حولهن، الأمر الذي سينعكس لاحقا على سلوكهن الإجتماعي وعلى طريقة تعاملهن مع العالم الخارجي.

اجتمع الخبراء وعلماء النفس على نصيحة واحدة، ألا وهي أن يتم تعريف جيسي وطفلتيها على العالم الخارجي ببطء وتدريجيا، وبطريقة تتناسب فيها درجة التعرض للعالم الخارجي مع حجم المهارات السلوكية والإجتماعية التي تكتسبها كل منهن.

لذلك تمّ عزلهن تماما عن وسائل الإعلام، وتمّ تعريفهن على أقربائهن بطريقة تدريجية، وما زالت عملية الترميم مستمرة.

التخريب العقلي والسلوكي الذي يتعرض له الفرد في المجتمعات الإسلامية ـ كبيئة قمعية ـ لايختلف كثيرا عن التخريب الذي تعرضت له جيسي وابنتاها.

فالعزلة التي ضربت حول المسلم لقرون طويلة تركته عاجزا عن إحساسه بالكون الذي ينتمي إليه، وبضرورة الإنسجام مع ذلك الكون.

لذلك، عند ترميم البناء العقلي والنفسي لدى المسلم يجب تحريره ببطء وتدريجيا من القيود التي فرضتها تعاليمه حوله، فالمهارات لا تكتسب في ليلة واحدة ولذلك الحرية لا تمنح في ليلة واحدة.

الحرية مسؤولية، ويجب أن يكون الفرد مؤهلا لحمل أية مسؤولية قبل زجّه فيها!

لقد أشرت سابقا، بأن الأديان عموما تقزم العلاقة الروحانية التي تربط الفرد بكونه، لأنها تحددها وفق منحى ثابت.

لكن الإسلام، وكما لم يفعل دين آخر، تبنى ثقافة “إبادة الآخر” بحجة أن يكون الكون أسيرا له وحده: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ

لذلك عندما اقتنع المسلم بحقه المطلق في أن يبيد غيره، بغية أن ينفرد ذلك الكون بالإسلام دون سواه، عنما فعل ذلك سلخ نفسه عن انتمائه الكوني، ورزح عبدا لفكرة وهمية مستحيلة التحقيق، ظل يطاردها وتطارده حتى استنزفته!

استنزفته روحانيا وجسديا، ولذلك يعيش حالة من الشقاء الدائم، الشقاء الذي لا مهرب منه إلا بإعادة تقييم نفسه وعلاقته بالكون المحيط به.

إبادة الآخر لا تعني بالضرورة إبادة غير المسلم فقط، فعندما يستطيع الإنسان أن يسلخ نفسه عن غيره لمجرد أنه يختلف معه في العقيدة، لا يستطيع أن يوحد نفسه مع غيره عندما يختلف معه في أبسط الأمور!

لهذا السبب ودون غيره، ليست علاقة المسلم بالمسلم أفضل حالا من علاقته مع غير المسلم، فأي شرخ بينك وبين الآخر يقطع الحبل السري بينك وبين كونك!

قبل أن يتحرر المسلم من عبوديته تلك، يجب أن تتم خلخلة القيد الذي يكبله رويدا رويدا بطريقة تسمح له بالتحرر الجزئي وعلى مراحل، حتى يصل نقطة الإنعتاق المطلق من فكرة استعبدته حتى فنته روحانيّا وماديا.

لا يستطيع أحد أن يحدد الزمن الذي قد يستغرقه الوصول إلى تلك النقطة إلاّ بناء على ما يبديه المسلم من قبول للآخر ومرونة في التعامل معه، أي بناء على استعداده ليكون جزءا منسجما مع كونه!

وهنا يطرح سؤال نفسه: وهل هذا ممكن؟!

وجوابي: نعم، ولذلك اؤمن بقدرتي على تغيير العالم نحو الأفضل!

…………

يتهمونني باعتناق المسيحية عندما أستشهد بأقوال المسيح!

لا يهم، طالما أدافع عن فكرة اؤمن بها، رغم أنني لا أعتنق ـ ولن أعتنق يوما ـ دينا من الأديان.

كما أستشهد بعبارة جميلة لأفلاطون وأرسطو وغيرهم من المصلحين الإجتماعين أستشهد بعبارات المسيح كمصلح إجتماعي، لا أقف عند علاقته الغيبية بالله ولا تهمني تلك العلاقة!

لذلك، لا أتصور بأن إنسانا، استطاع أن يوازن بين الأنا والروح بعبارة واحدة، كما استطاع المسيح عندما قال: اعطوا لقيصر ما لقيصر ولله ما لله!

ليس الله ولا قيصر ـ حسب مفهوم وفاء سلطان ـ هو ما جاءت به الأديان.

كل واحد منا ـ في الحقيقة ـ قيصر، فقيصر هو الـ “الأنا” في الذات البشرية، والله هو ذلك الكون اللامحدود الذي نحن جزء لا يتجزأ منه!

تسعى الأنا لتحررك من الكون وتسعى الروح لتدمجك مع كونك، وكل مشكلة يعاني منها الإنسان تعود في جذورها إلى اضطراب التوازن بين هاتين القوتين المتعاكستين، أي تنشأ المشكلة عندما تتعملق الأنا على حساب الروح أو عندما تتعملق الروح على حساب الأنا، أو عندما تتحطم الإثنان معا.

الكون لغز ولا أحد يستطيع أن يفهم ذلك اللغز من كل جوانبه، ولذلك علاقتك بالكون هي بدورها لغز، وعليك أن تحترم لغزية تلك العلاقة.

عظمة الكون تكمن في لغزيته، وسيفقد تلك العظمة لو استطعنا يوما أن نفكّ أسرار ذلك اللغز!

يقول ألبرت أنشتاين:

The most beautiful thing we can experience is the mysterious.”

“أجمل التجارب التي نخوضها تلك التي تكون لغزية”

لم يشرح أنشتاين لماذا هي جميلة التجارب التي تنطوي على ألغاز، لكن عندما قرأت ما قاله الموسيقي الكندي Charles de Lint أدركت ما قصده أنشتاين:

Without mysteries, life would be very dull indeed. What would be left to strive for if everything were known?”

“تبدو الحياة بدون ألغاز مملة للغاية، فما الذي سننشد إن كنا نعرف كل شيء؟!”

يأتي الدين ـ أي دين ـ ليفسّر لغزية الكون بطريقة جدا محدودة وضحلة!

وعندما يتعلق الأمر بالإسلام تتلاشى عظمة ذلك اللغز لتصبح مختزلة في إرب رجل أو في فرج امرأة أو في جزّ رقبة!!!

لم أقرأ يوما في الإسلام ما ساعدني على أن أعزز أناي ـ وخصوصا كوني امرأة ـ أو أرتقي بروحي إنشا واحدا، بل على العكس ـ وكما لم يفعل دين آخر ـ شوّه الإسلام مفهوم الله، ذلك اللغز العظيم، حتى صرت أقرف من ذكره!

كيف لا أقرف من إله يهبط بسرّ عظمته ولغزية كينونته ليحشر نفسه بين فخذي رجل مهووس بإربه، كي يحلل له سطوه على سيدة متزوجة، دون أن يأخذ بعين الإعتبار رغبتها ومشاعر زوجها؟!!

كيف يقرأ مسلم قصة نكاح محمد لزينب ولا يرفض سرّ الإله الذي ورد في كتبه؟!!

ليست قصة نكاح محمد لزينب هي الوحيدة التي سلبت المسلم أناه وفرغته من روحه، لكنني اخترتها ـ لكونها موثقة بحذافيرها في القرآن ـ على سبيل المثال لا الحصر!

فالمسلمون جميعهم، سنة وشيعة، متفقون على الآية التي تقول: إِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ (زَوْجَكَ) وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ

لا تترك تلك الآية مجالا للشك بأن السيدة زينب كانت متزوجة عندما اشتهاها محمد، ولا تترك مجالا للشك بأن الله قد استاء من محمد لأنه حاول أن يضبط مشاعره تجاه سيدة متزوجة!

ثم تأتي آية لاحقة ( فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا) لتؤكد بأن زيدا قد تركها لمحمد ـ بعد أن نال منها وطره (!!!!) ـ وذلك بناء على أمر الله!

الرسالة أية رسالة ـ دينية أو غير دينية ـ تستمد مغزاها وغايتها من محتواها، وليس من أهميّة الرسول الذي يحملها.

عندما يصبح الرسول أهم من الرسالة تفقد الرسالة مغزاها وغايتها، ولقد أصبح محمد أهم بكثير من الرسالة التي حملها!

ما المغزى الأخلاقي وما الغاية من ذكر تلك القصة في القرآن؟!! كيف تستطيع تلك الآيات ـ ومن خلال تكرارها عبر أربعة عشر قرنا من الزمن ـ أن تسمو بروح المسلم؟!! كيف تستطيع أن تربط المسلم بكونه وتجعله جزءا لا يتجزأ من عظمة ذلك الكون؟!!

من أقدس العلاقات التي تشدّ الإنسان إلى كونه هي علاقته الحميمة بالجنس الآخر، فكيف ترتقي تلك القصة إلى مستوى تقديس تلك العلاقة؟!!

تصوروا لو جاءت القصة بشكل مغاير تماما، كأن يقول الله لـ “نبيه”:

“ليس من الأخلاق أن تطلق العنان لغرائزك تجاه سيدة متزوجة، اضبط نفسك واحترم رغبة زينب ومشاعر زيد”

لو حدث الأمر بهذا الشكل لبقيت الرسالة أكبر في مغزاها وغايتها من المرسل نفسه، ولساهمت أكثر في خلق إنسان سليم روحانيا وعقلانيا.

الإنسان مخلوق ذو مشيئة

free will

، فكيف يزوّد الكون ـ الله ـ الإنسان بتلك المشيئة ثم ينكرها عليه، إذ لم تشر الآيات السابقة من قريب أو بعيد إلى مشيئة زينب عندما تعلق الأمر بخلعها من رجل وزجّها في حضن رجل آخر؟!!

هذه القصة قد عززت الأنا المحمدية، لكنها سلبت من المسلم “أناه” الحقيقة.

المسلم يدافع عن حق محمد في نكاحه لسيدة متزوجة، لكن لا أتصور بأن مسلما عاقلا يبرر لنفسه ذلك الحق!

تماما، كما تعترف المرأة المسلمة بحق الرجل في أن ينكح ما طاب له، بينما ترفض في الوقت نفسه أن يفعل زوجها ذلك!

إنه الصراع الذي يعيشه المسلم أثناء رحلة البحث عن أناه المسلوبة والمهشمة، والتي من الطبيعي أن ينشدها!!!

لقد تعملقت الأنا المحمدية على حساب الأنا الذاتية عند المسلم حتى طمستها كليّا، بينما وفي الوقت نفسه لم يستطع الإسلام أن يرقى بالذات الكونية ـ أو الإلهية لمن يرغب بتلك التسمية ـ إلى مستوى عظمتها، ففشل المسلم في أن يكون جزءا من تلك العظمة وظل متقوقعا داخل جبة نبيه!!

……………………….

هناك عامل واحد يجمع بين الرهبانية والطب النفسي، إذ أن كل منهما يركز على جانب واحد في الطبيعة البشرية، ولذلك كل منهما فشل في أن يسمو بتلك الطبيعة!

الرهبانية تهمل “الأنا” عند الإنسان والطب النفسي يهمل “الروح”!

الرهبانية واجهت ومازالت تواجه مشاكل تنجم عن ذلك الإهمال، والطب النفسي ـ رغم ما حققه وما يحققه من إنجازات ـ مازال عاجزا عن فهم الطبيعة البشرية وعاجزا عن علاج الإضطرابات النفسية التي يعاني منها البشر، وسيظل عاجزا مادام يحاول أن يعالجها بنفس الطريقة التي يعالج بها التهاب اللوزتين.

هناك ظواهر قد يأخذها الطبيب النفسي المعالج بعين الإعتبار، لكنه لا يستطيع أن يجد لها تفسيرا علميا يضع على أساسه خطة العلاج!

تلك الظواهر لا يمكن تفسيرها إلاّ بناء على العلاقة الروحانية التي تربط الإنسان بكونه، وحاجة الإنسان إلى توطيد تلك العلاقة.

الفيلم الأمريكي

Sister Act

 الذي تقوم ببطولته الممثلة الأمريكية المشهورة

Whoopi Goldberg

، يحكي قصة مغنية عالمية مشهورة في مدينة القمار الأمريكية لاس فيغاس.

تشهد تلك المغنية جريمة قتل، فتلاحقها العصابة كي تقتلها وتتخلص بذلك من الشاهد الوحيد. يضطر البوليس أن يخفيها بزي راهبة في دير تابع لإحدى الكنائس الكاثوليكية في مدينة سان فرانسيسكو، وهناك تتأزم الأحداث.

لا يعرف أحد في الدير بأنها مغنية في لاس فيغاس، باستثناء الراهبة الكبيرة المسؤولة عن الدير.

يبدأ الصراع بين المغنية كإنسانة ترى روحانيتها في موسيقاها وبين التقاليد الصارمة للكنيسة التي لا تنعش الروح!

لا يؤم الكنيسة إلا عدد قليل جدا من المسنين، والجوقة الموسيقة فيها تغني نشاذا يضرب على أعصاب المغنية الحساسة، فتهرب في الليل إلى ناد قريب وتلحقها راهبات أخريات.

الصراع يستفحل بين قيادة الدير وبين المغنية، وجميع الراهبات باستثناء الرئيسة يقفن إلى جانب المغنية.

تتطور مجريات القصة بطريقة كوميدية إبداعية للغاية، ولكن الأهم هو النقطة التي حاولت قصة الفيلم أن تثيرها، ألا وهي ـ من وجهة نظري ـ: ليست الروحانية حكرا على الأماكن المقدسة وعلى رجال الدين، وربما العكس تماما هو الصحيح!

فمغنية من لاس فيغاس، المدينة التي يُطلق عليها في أمريكا

The sin city

 أي مدينة الخطيئة، استطاعت أن تمنح الكنيسة روحانيتها عندما قامت بتدريب الجوقة الغنائية فيها على أن تؤدي التراتيل الدينية على أنغام الـ

Rock and Roll Music

، وألزمت الرهبان والراهبات بالخروج إلى الحي الذي تقع فيه الكنيسة، وهو حي فقير يغص بالجرائم، والقيام بأعمال خيرية يعود نفعها لفقراء الحي.

لا يتمّ ترميم المجتمعات المتخلفة إلا بنفس الطريقة التي رممت بها تلك المغنية الكنيسة بعد أن اقفرت من روادها، وذلك عن طريق ترميم الفرد فيها.

هناك مثل أمريكي يقول: السلسلة ليست أقوى من أضعف حلقة فيها.

والمجتمع ـ أي مجتمع ـ ليس أقوى من أضعف فرد فيه!

عندما نقوم بعملية الترميم تلك يجب أن نأخذ بعين الإعتبار الروح والأنا عند الفرد، فالمجتمعات لا تتخلف عن ركب الحضارة إلا عندما تهمل أو تسيء إلى أحد هذين الجانبين أو إلى كليهما.

كم مغنية من لاس فيغاس على غرار المغنية في فيلم

Sister Act

، نحتاج لكي نرمم مجتمعاتنا الإسلامية، ونعيد إلى الفرد المسلم كيانه بشقيه الروح والأنا؟!!

لكي تخمّن العدد ما عليك إلا أن تقوم بجولة عبر المحطات الفضائية الإسلامية في العالم العربي!

سيواجهك عدد هائل من ديناصورات الدين المتوحشة التي شفطت كلّ أثر للروحانية عند الفرد المسلم، ناهيك عن ديناصورات السياسية التي اغتصبت “أناه” وسرقت رغيف خبزه!

يقول أفلاطون:

Music is a moral law. It gives soul to the universe, wings to the mind, flight to the imagination, and charm and gaiety to life and to everything.

“الموسيقا قانون أخلاقي، فهي تمنح روحا للكون وجناحا للعقل وتحلق بالخيال، كما وإنها تعطي السحر والبهجة لكل شيء في الحياة”

كتب إليّ مواطن سوري يحكي لي قصة ولعه بالموسيقى إلى حدّ الجنون، هو فقير ويعيش في قرية نائية لا يربطها بالحياة المعاصرة طريق!

تولد لديه حلم بأن يشتري بيانو، وهيمن ذلك الحلم على حياته حتى طغى على كل صغيرة وكبيرة فيها.

قرأ يوما إعلانا في صحيفة، وفيه تبحث عائلة سورية عن من يستطيع أن يتبرع بكليته لابنتها التي تعاني من فشل كلوي. وجد في الإعلان ضالته المنشودة، فاتصل على الفور بالعائلة وبدون مقدمات قال لها: كل ما أحتاج إليه ستون ألف ليرة سورية، وهي ثمن البيانو الذي يحلم به.

تمت الصفقة وتبرع صاحبنا بالكلية مقابل مائتي ألف ليرة سورية ناولته إياها عائلة المريضة.

لم ينظر باكتراث إلى ما فاض عن ثمن البيانو، فأعطاه فورا لوالده.

اليوم هو حديث القرية وشغلها الشاغل، تمضغه الألسن كما تمضغ لقمة سائغة.

تبادلت قصته مع مجموعة من الأصدقاء، وتفاجئت بقسوة الآراء!

لم ير أحد في القصة الجانب الروحي الذي تعملق على حساب الـ “أنا” عند صاحبنا، بل على العكس قفز معظمهم إلى اتهامه بالجشع وبعضهم بالجنون!

هو لا يعرف كيف يعزف على البيانو، لكن مجرد اللعب بأزراره يمنحه نشوة تفوق كل خيال!

لا أحد يملك الحق أن يحكم عليه بالجشع، ولا أحد في الوقت نفسه يستطيع أن يحلل تلك العلاقة المعقدة التي تربطه بالموسيقا، لكنها بلا أدنى شك علاقة روحانية تحلق به في الفضاء اللامتناهي للكون الذي ينتمي إليه!

يحكى أن الرئيس الأمريكي ابراهام لينكون قد مشى مرّة أكثر من مائتي ميل ليستعير كتابا من مكتبة، هل يستطيع أحد أن يفسر الدوافع الخفية التي تجبر رجلا على أن يمشي أكثر من مائتي ميل ليستعير كتابا؟!

هل يستطيع أحد أن يفسر ولع ابرهام لينكون بذلك الكتاب؟!!

…………..

ابراهام لينكون مشى مائتي ميل، أما أنا فسأمشي إلى الصين لو أغراني أحد بكتاب أو بصحن تبولة!

من يلمّ بكتاباتي يعرف لماذا أقبل أن أمشي إلى الصين مقابل كتاب، أما الغالبية فلا تعرف لماذا أقبل أن أفعل ذلك مقابل صحن تبولة!

“ما اجتمع أثنان على صحن تبولة إلا وكانت لحظة صفاء بينهما”

أميرة سيدة سورية، مضى على وجودها في أمريكا أربعون عاما، ولكنها لم تغادر يوما حدود قريتها في محافظة طرطوس السورية.

عندما هاجرت حملت في حقائبها العشيرة بشحمها ولحمها، بعمروها وزيدها.

هي من شهود يهوه، وتمطرني دوما بمواعيظها.

تعرف نقطة ضعفي، فتتصل بي لتقول: لقد انتهيت لتوي من تحضير طبق تبولة!

فأسابق الريح….

الشهر الماضي كلفني صحن تبولتها في يوم واحد خمسمائة دولارا.

وصلتني مخالفة مرورية بالبريد ومعها صور لي وللسيارة التي كنت أقودها وقد التقطتهم الكاميرا المزروعة على عامود الشارع.

أثبتت الصور بأنني انحرفت إلى اليمين، والإشارة الضوئية حمراء، قبل أن أتوقف كليا.

كل ما أستحقه في حياتي نلته ولم أزل أناله باستثناء المخالفات المرورية، فلقد نلت منها عددا أقل بكثير مما أستحق، ومعظمها ارتكبته وأنا في طريقي إلى بيت أميرة!

لقد اقترن صحن التبولة في اللاوعي عندي بلحظات صفاء عشتها في وطن لا شيء فيه يبعث على الصفاء، ولذلك أحس بأنني مشدودة دوما لصحن التبولة لأنه يربطني روحانيا بتلك اللحظات.

ليست جويس أقل غرابة مني عندما يتعلق الأمر بتلك العلاقة اللغزيّة الغامضة التي تشدّها إلى كونها!

جويس امرأة أمريكية من أصول سورية، هاجر جدّاها إلى أمريكا في القرن الثامن عشر، ومنذ اللحظة التي غادرا بها الوطن انقطعت كل صلة لهما به.

هي على أبواب الثمانين من عمرها، لم تزر يوما سوريا ولا تعرف ـ كأي أمريكي ـ أين تقع على الخارطة.

تعرفت عليها في بداية حياتي في أمريكا ومازلنا صديقتين.

كلما أزورها، ويحدث ذلك عدّة مرات في الشهر، تركض باتجاه خزانة في بيتها وتلتقط صحنا من النحاس المحفور والمزركش يدويا، ثم تروي لي قصته.

سمعت القصة مئات المرات وحفظتها عن ظهر قلب: لقد أعطت والدة جدّ جويس الصحن لابنها ـ الذي هو جدّ جويس ـ قبل أن يغادر سوريا وقالت له إن احتجت إلى نقود بعه في أمريكا، فالأمريكان يحبون التحف المصنوعة يدويا!

كانت الغربة أرحم مما توقعت والدة الجد، فلم يضطر الجدّ أن يبيع الصحن وتدحرج وراثيا حتى وقع في حضن حفيدته جويس!

في كل مرّة، تروي لي جويس تاريخ الصحن بنفس الحماس الذي كانت عليه في المرّة الأولى، وبين العبارة والعبارة تكرّر: إنه صحن دمشقي!

لم تعد علاقة جويس بالصحن مجرد علاقة بين مالك وشيء مملوك، وإنما تعدّت ذلك المستوى لتصبح علاقة روحانية صرف.

الصحن لا يساوي في ذروة الغلاء أكثر من ثلاث دولارات، لكنه بالنسبة لها يجسّد تاريخا هي جزء منه وليست جزءا منه!

الإنسان مخلوق أناني وروحاني في وقت واحد، وهو ـ في وعيه وفي اللاوعي عنده ـ يسعى ليوازن بين “الأنا” عنده وبين روحه في محاولة لتحقيق سعادته!

يقول جبران خليل جبران:

“كان لي مولد ثاني حين ربط الحب بين روحي وجسدي فتزاوجا”

أليس ذلك الصحن الدمشقي هو الرابط الذي يوحد بين الأنا عند جويس وبين روحها؟!!

……………..

صديقتي أميرة تحبني جدا، ولأنها تحبني تريدني أن أدخل ملكوت يهوه، الإله الذي تؤمن به.

لكنها تصرّ بأنه لن يقبلني في ملكوته حتى اؤمن بأن اسمه يهوه.

وأردّ: لا يهمني أن يقبلني في ملكوته، بل يهمني أن تقبليني أنت في بيتك!

قلبك ـ يا أميرة ـ هو ملكوت الإله الذي اؤمن به، ويسعدني أن تفتحي لي ذلك الملكوت!

ثم أتابع: يسكن إلهي في صحن التبولة الذي يجمعني معك في لحظة صفاء، لكنه لا يختزل عظمته في اسم من الأسماء!

يسكن في كل كتاب أقرأه فيعزز أناي وينعش روحي…..

يسكن في صوت راخيل اليهودية وهي تطمئن عليّ بعد نوبة رشح طرحتني في الفراش…

يسكن في باقة الزنبق التي أهدتني إياها جارتي سوشما الهندوسية….

يسكن في سرّة بوذا البارزة والتي يقال أنها مقرّ حكمته….

يسكن في فنجان القهوة الذي أتشاطره مع صديقتي رباب وهي سيدة كويتية ملحدة، سبقتني أشواطا وهي تفرّ من الإسلام.

يسكن في كل رسالة يكتبها لي مسلم سابق، ويعترف من خلالها بأنني حررته من كابوس الإسلام…..

يسكن إلهي في كل شيء جميل، ومن لا يستطيع أن يتبين الجمال لا يستطيع أن يرى ذلك الإله….!

……………

Jacob Needleman

، مفكر أمريكي ومدرس لمادة الفلسفة والدين المقارن في جامعات سان فرانسيسكو.

في أكتوبر عام 1967 دخل محلا صغيرا لبيع التحف التذكارية في أحد الأحياء السياحية، فعثر في داخله على لوحة مكتوب عليها صلاة يهودية وأعجبته.

لم يكن ثمنها يتجاوز بضع دولارات، فكتب على الفور شيكا وناوله للبائع، لكن البائع أعاد إليه الشيك وأكد له بأنه لا يتعامل مع زبائنه إلا نقدا.

لم يعثر في جيبه على المبلغ، فثارت ثائرته وخاض مع البائع حربا ضروسا، خرج على أثرها خاوي اليدين يجر وراءه أذيال خيبته.

في الطريق إلى بيته، فكر مليا في أبعاد تلك الحادثة، وتوصل إلى قناعة جديدة حول أهمية المال في حياة الإنسان، عكس قناعته الأولية بأن الإنسان مخلوق روحاني صرف.

يقول في أعقاب تلك التجربة:

“فكر في علاقتك مع الطبيعة، مع الأفكار، مع المتعة، فكر بمفهومك للهوية الشخصية واحترام الذات، فكر أين تعيش، بالأشياء التي تحيط بك، فكر في رغبتك بمساعدة الآخرين، أو الدفاع عن قضية ما، فكر بما فعلت البارحة وبما تفعل اليوم وبما ستفعل غدا، سترى بأن المال يلعب دورا هاما في كل شيء في حياتنا”

نعم، الإنسان مؤهل عقليا لكي يعيد النظر في قناعاته وفقا لتجاربه، وسيخسر الكثير عندما يسمح لقناعة ما أن تقولبه، ثمّ تمنعه من أن يكتسب قناعات جديدة أكثر ملائمة للزمان والمكان اللذين يعيش فيهما.

………….

قال عابر سبيل لمزارع: يبدو أن الله يحب حقلك كثيرا، فهو يتعامل معه بطريقة رائعة للغاية!

فردّ المزارع: يجب أن ترى كيف يتعامل معه عندما لا أكون موجودا!

عزيزي المسلم: لا يوجد دين ولا نبي ولا كتاب يستطيع أن يعوّض عن غياب العقل، لقد تصحّر حقلك لأنك رفضت أن تستفيد من تجاربك، فتستبدل قناعاتك الدينية بقناعات أكثر عقلانية.

التجربة أكبر برهان، شرط أن تمتلك القدرة العقلية على قراءة تلك التجربة!

تواجد في حقلك ـ وبكلّ ملكاتك العقلية ـ كي تضمن بأن الله يتعامل مع ذلك الحقل بطريقة أفضل!

href=”http://www.facebook.com/pages/%D9%88%D9%81%D8%A7%D8%A1-%D8%B3%D9%84%D8%B7%D8%A7%D9%86-%D9%85%D9%81%D9%83%D8%B1-%D8%AD%D8%B1/346988445356028″> وفاء سلطان (مفكر حر)؟

About وفاء سلطان

طبيبة نفس وكاتبة سورية
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.