وأد العقل المسلم

جذب انتباهي إعلان بإحدى الصحف السودانية من محام يعلن أنه سوف يكتب مقالاً عن “العقل في القرءان والفكر القرءاني يشكلان أخصب تربة لاستيعاب وانتاج فكر الحداثة”. ويالها من حداثة نراها ماثلة أمام أبصارنا منذ ظهور القرآن.
يسأل القرآن فيقول (وإذا الموءودة سُئلت بأي ذنب قُتلت) وكان يجب أن يقول (وإذا الموءود سُئل بأي ذنب قُتل) لأن فقهاء الإسلام قد وأدوا العقل المسلم منذ بداية الدعوة، ومحمد نفسه قد بدأ وأد العقل عندما منع أتباعه من استعمال عقولهم وسؤاله عن رسالته ومصدرها، فقال لهم (لا تسألوا عن أشياء إن تُبدى لكم تسؤكم). وقد عرف محمد أن التفكر فيما يقول يقود إلى الشك وبالتالي إلى زعزعة الإيمان، ولذلك سمى العقل أو التفكر شيطاناً وحث أتباعه على التعوذ من الشيطان الرجيم، أي التعوذ من التفكير. وقد عرف محمد أن أتباعه يساورهم الشك أحياناً فقال لهم ” إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم (فتاوى بن باز، ج 7، ص 51). فالذي يحدث الأخرين بشكوكه لا يغفر الله له.
استأنس فقهاء الإسلام بمثل هذه الأحاديث وزادوا عليها ليقتلوا ملكة التفكير عند المسلم حتى لا يتمرد عليهم. فنجد الغزالي مثلاً عندما تحدث عن الأمور الفلسفية، يقول ” فيجب كف الناس عن البحث عنها وردهم إلى ما نطق به الشرع ففي ذلك مقنع للموفق فكم من شخص خاض في العلوم واستضر بها ولو لم يخض فيها لكان حاله أحسن في الدين مما صار إليه. ولا ينكر كون العلم ضارا لبعض الناس كما يضر لحم الطير وأنواع الحلوى اللطيفة بالصبي الرضيع، بل رب شخص ينفعه الجهل ببعض الأمور” (إحياء علوم الدين، ربع العبادات، ج1، ص 19). فالإمام الغزالي، حُجة الإسلام، يفضل الجهل في الناس حتى لا يراودهم الشك فيما أتى به محمد.
وأبو الحسن الأشعري لا يقل تتفيهاً للعقل عن الغزالي، فنجده يقول “إن الكذب شر لأن الله حرّمه، ولكن لو حلله الله فسوف يصبح الكذب خيراً”
(The Closing of the Muslim Mind, Robert Reilly, p.70).
ويقول كذلك “يجب على المسلم أن يوقن أن الله يجلس على العرش بدون السؤال عن كيف”
History of God, Karen Armstrong, p. 195
أما الإمام الشافعي فيقول “حديث ضعيف أفضل من القياس” (عمدة السالك وعدة الناسك، الشيخ أحمد بن نجيب المصري). الإمام الشافعي لا يحب القياس لأنه مبني على العقل الذي يقود إلى الشك. أما شيخ الإسلام ابن تيمية فيقول ” فإذا تبين المعنى أثبت حقه ونفى باطله بخلاف كلام الله ورسوله فإنه حق يجب قبوله وإن لم يفهم معناه، وكلام غير المعصوم لا يجب قبوله حتى يفهم معناه” (ابن تيمية، درء تعارض العقل والنقل، ج1، ص29). وكذلك يقول في صفحة 31 من نفس الكتاب ” ولهذا اتفق علماء المسلمين على أن الإنسان لو قال والله لأفعلن كذا وكذا إن شاء الله، ثم لم يفعله، أنه لا يحنث لأنه لما لم يفعله علم أن الله لم يشأه إذ لو شاءه لفعله العبد. فلما لم يفعله علم أن الله لم يشأه”. منتهى الاتكالية على الله وتهميش دور العقل. أي مسلم إذا كُلف بعمل شئ ما ولم يفعله يقول إن الله لم يشأه.
ويستمر ابن تيمية في المجلد الثاني من كتاب درء تعارض العقل والنقل ” وقال ابو محمد حرب بن اسماعيل الكرماني في مسائله المعروفة التي نقلها عن احمد واسحاق وغيرهما وذكر معها من الاثار عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة وغيرهم ما ذكر، وهو كتاب كبير صنفه على طريقة الموطأ ونحو من المصنفات. قال في اخره في الجامع باب القول في المذهب: هذا مذهب ائمة العلم واصحاب الاثر واهل السنة المعروفين بها المقتدى بهم فيها، وادركتُ من ادركتُ من علماء اهل العراق والحجاز والشام وغيرهم عليها، فمن خالف شيئا من هذه المذاهب او طعن فيها او عاب قائلها فهو مبتدع خارج عن الجماعة زائل عن منهج السنة وسبيل الحق، وهو مذهب احمد واسحاق بن ابراهيم بن مخلد وعبد الله بن الزبير الحميدي وسعيد بن منصور وغيرهم ممن جالسنا واخذنا عنهم العلم.” انتهى. فالذي يستعمل عقله ويشكك في أي شئ قاله أهل المذاهب المذكورون أعلاه فقد ضل وفارق الجماعة ولذا يمكن أن يُستباح دمه.
أما ابن قيم الجوزية، تلميذ ابن تيمية فيقول ” فإذا تعارض النقل وهذه العقول، أخذ بالنقل الصحيح، ورمي بهذه العقول تحت الأقدام، وحُطت حيث حطها الله وأصحابها” [مختصر الصواعق المرسلة ص82-83 اختصار الموصلي ]. فهنيئاً للمسلمين بتلك العقول التي يُرمى بها تحت الأقدام لتعارض أفكارها مع المنقول من أقوال السلف الصالح.
ويستمر ابن قيم الجوزية فيقول في كتابه “الفصل في الملل والأهواء والنِحل” ‏( وإذا الوحوش حشرت) ‏”فنحن موقنون الوحوش كلها وجميع الدواب والطير تحشر كلها يوم القيامة كما شاء الله تعالى ولما شاء عز وجل و أما نحن فلا ندري لماذا والله أعلم بكل شيء. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم “أنه يقتص يومئذ للشاة الجماء من الشاة القرناء” فنحن نقر بهذا وبأنه يقتص يومئذ للشاة الجماء من الشاة القرناء ولا ندري ما يفعل الله بهما بعد ذلك إلا أنا ندري يقيناً أنها لا تعذب بالنار لأن الله تعالى قال‏:‏ ‏”‏ لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى ‏”‏ وبيقين ندري أن هذه الصفة ليست إلا في الجن والإنس خاصة ولا علم لنا إلا ما علمنا الله تعالى. وقد أيقنا ان سائر الحيوان الذي في هذا العالم ما عدا الملائكة والحور والإنس والجن فإنه غير متعبد بشريعته” (ج2، ص 64). فهل يصدق إنسان ذو عقل أن الله سوف يحشر مليارات الفراخ التي يذبحها كنتكي جكن وغيره من مزارع الفراخ ليقتص لدجاجة من دجاجة أخرى قد تكون طعنتها بمنقارها؟ وماذا عن ملايين الخراف التي يذبحها الحجيج كل عام في مكة والمدينة في عيد الأضحى، مع العلم أن هذه الخراف يأكلها المسلمون وتدخل بروتيناتها في بروتينات البشر الذين أكلوها وتصبح جزءاً من عضلاتهم. فهل يُحشر كل شخص مع الخراف التي أكلها وأصبحت جزءاً من جسمه؟
ويروي الغزالي عن الأعمش عندما دخل مسجداً بالبصرة ووجد شيخاً من أهل الحديث يقول: وحدثنا الأعمش أنه قال. فوقف الأعمش في منتصف تلك المجموعة وأخذ ينتف شعر إبطه، فقال له الشيخ “ألا تستحي يا رجل وأنت في المسجد” فقال له الأعمش” لِمَ؟ أنا في سُنة وأنت في كذب. أنا الأعمش وما حدثتك”. (إحياء علوم الدين، ربع العبادات، لابي حامد الغزالي، ج1، ص21). ومع هذا يصم أذاننا شيوخ الإسلام في المساجد بترهات مثل: حدثنا فلان عن أبي هريرة أنه قال. ربما يقول لهم يوم القيامة صاحبهم أبو هريرة: أنا أبو هريرة ولم أحدثكم.
وقال – عبد الرحمن الوكيل- خريج الأزهر، (ت 1971) : ( والداعون إلى تمجيد العقل، إنما هم في الحقيقة يدعون إلى تمجيد صنم سموه عقلاً، وما كان العقل وحده كافياً في الهداية والإرشاد، وإلا لما أرسل الله الرسل ) [مقدمة كتاب: موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول (1/21) ].
أما الشيخ السعودي المعاصر فؤاد بن عبد العزيز الشهلوب فيقول ” وكثير من أئمة الدين المرضيين عند الموافق والمخالف لا يقدمون عقولهم على كلام نبيهم كأمثال الإمام مالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق بن راهويه، وسفيان الثوري، وابن المبارك، وابن عيينة، والدارمي، وغيرهم كثير يصعب حصرهم (المشابهة بين المعتزلة الأوائل والمعتزلة الجدد) فؤاد بن عبد الغزيز الشهلوب، ص 12. فكل هؤلاء الأئمة المذكورين والذين يستحوذون على عقول المسلمين لا يقدمون عقولهم على قول نبيهم. ومع ذلك لا يمر يوم إلا ونسمع، مئات المرات، أن الإسلام يدعو إلى التفكر واستعمال العقل.
المؤسسة الدينية الإسلامية لم ولن تسمح للمسلم باستعمال عقله في نقد الدين. وقد كان ولا يزال هذا منوالها منذ بدء الإسلام. فمثلاً عندما قال أبو يعقوب الكندي، في أيام خلافة المتوكل: “إن النبوة تعلو على الفلسفة في بعض الأشياء ولكن محتوى الاثنين لا يختلف كثيراً”، نفاه المتوكل من بغداد وصادر كتبه.
ومهما تعلم المسلم وارتقى درجات السلم الوظيفي يظل عقله مرهوناً لرجال الدين. فهاهو السيد راشد العنزي، استاذ القانون بجامعة الكويت، يقول “يجب إلغاء المادة 18 من قوانين حقوق الإنسان في الكتب المدرسية لأنها تقول بحرية الاعتقاد وهذا يخالف شرعنا الإسلامي.” ويا بخت كلية القانون بالكويت لأن بها مثل هذه العقول.
مهما بلغت سخافة الروايات الإسلامية، فإن المسلم لا يخامره الشك في صحتها، فمثلاً روى ابن الجوزي في كتابه “المنتظم في التاريخ، ج3، ص 21: ” أخبرنا أحمد بن معروف قال‏:‏ أخبرنا الحارث بن أبي أسامة قال‏:‏ أخبرنا محمد بن سعد قال‏:‏ أخبرنا علي بن محمد بن علي بن مجاهد عن محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة عن علي بن حسين قال‏:‏ كانت امرأة من بني النجار يقال لها فاطمة بنت النعمان لها تابعٌ من الجن فكان يأتيها (أي يجامعها) وحين هاجر النبي إلى المدينة انقض (الجن) على الحائط فقالت‏:‏ مالك لم تأت كما كنت؟ فقال‏:‏ قد جاء النبي الذي حرم الزَنا والخمر‏.‏
ولهذه الأسباب وضع المسلم، حتى أساتذة الجامعات الذين عهدنا إليهم بتربية النشء، عقولهم في برادات واستسلموا لهذه الخزعبلات. يمتلئ بريدي بمراسلات من أساتذة جامعة سودانية بأدعية كل صباح ويطلبوا مني أن أرسلها لكل معارفي حتى أكسب أجراً. وعندما حاول شخص معتوه أن يحرق الكعبة قبل عدة أسابيع وصلتني رسالة من أستاذ تقول “اللهم أرنا فيه قدرتك وأخسف به الأرض كما خسفتها بقارون). ولم يسأل هذا الاستاذ نفسه لماذا لم يخسف الله الأرض بالحجاج بن يوسف الذي رمى الكعبة بالمنجنيق، ولا بالبرامكة الذين حطموا الكعبة وأخذوا حجرها الأسود إلى البحرين واحتجزوه لمدة ثلاث وعشرين سنةً.
أستاذ جامعي أرسل لي هذه الرسال: “جاء في فضل قراءة سورة الملك (تبارك الذي بيده الملك) عموماً وقبل النوم خصوصاً، ما رواه الترمزي وأحمد في مسنده عن أبي هريرة رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إن سورة من القرآن ثلاثون آية، شفعت لرجل حتى غُفر له، وهي سورة تبارك الذي بيد الملك) وحسنه الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمزي ومن يقرأ هذه السورة قبل التوم كل يوم تُغفر له خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر” انتهى. هذا الاستاذ الجامعي لا يدري أنه قد وصف إلهه بأنه كيان يعاني من الميقالومينيا، أي حب العظمة. هذا الإله الذي يحشر الخراف والطيور والوحوش ليقتص للشاة العجماء من القرناء، مستعد لأن يغفر للمسلم الذي قتل وزنى وسرق لأنه مجّد هذا الإله المجنون بجنون العظمة .
بعكس المثقفين المسلمين نجد المثقف الغربي يقول بارتقاء العقل على كل شئ أخر. فمثلاً نجد مقولة ” العقل هو العدو اللدود للعقيدة لأنه في أغلب الأحيان يصطف مع المنطق ضد الكهنوت السماوي”
Sam Harris, The End of Faith, p 82

About كامل النجار

طبيب عربي يعملل استشاري جراحة بإنكلترا. من هواة البحث في الأديان ومقارنتها بعضها البعض وعرضها على العقل لمعرفة مدى فائدتها أو ضررها على البشرية كان في صباه من جماعة الإخوان المسلمين حتى نهاية المرحلة الجامعية ثم هاجر إلى إنكلترا وعاشر "أهل الكتاب" وزالت الغشاوة عن عينيه وتبين له الخيط الأبيض من الخيط الأسود من حقيقة الميثالوجيا الدينية الهدف الوحيد من كتاباتي هو تبيان الحقيقة لغيري من مغسولي الدماغ الذين ما زالوا في المرحلة التي مررت بها وتخطيتها عندما كنت شاباً يافعاً
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.