هل من رغبة اسلامية ببقاء المسيحية في المشرق؟

سليمان يوسف يوسفinside-Church-of-the-Holy-Sepulchre

وقائع كثيرة، ماضياً وحاضراً، تدفعنا لطرح هكذا تساؤل. وتجعلنا نشكك بوجود رغبة اسلامية حقيقية ببقاء المسيحية في هذا المشرق الى جانب الاسلام. ففي الوقت الذي فتحت كنائس غزة أبوابها أمام الفلسطينيين المسلمين الهاربين من القصف الإسرائيلي في آب الماضي، كان بعض مشايخ وأئمة مساجد الموصل العراقية يتلون البيان الصادر عن تنظيم الدولة الاسلامية(داعش)، الذي يطلب من مسيحيي المدينة ” اعتناق الإسلام، أو دفع الجزية، أو الخروج من مدينتهم بملابسهم من دون أية أمتعة أو مال، وإلا سيكون مصيرهم التصفية والقتل بحد السيف”.

رحل المسيحيون، معظمهم من (الكلدوآشوريين السريان) سكان العراق الأوائل، عن عاصمتهم التاريخية (نينوى)الموصل. غادروها،ربما الى الأبد، سيراً على الأقدام. إنهم فضلوا الرحيل الى المجهول، على العيش ذميين مذلين في ظل (دولة الخلافة الاسلامية)،التي اعلنها (أبو بكر البغدادي) في المناطق السورية والعراقية التي يسيطر عليها تنظيمه. بعد تطهير الموصل من مسيحيها،استباح تنظيم الدولة الاسلامية ومعه بعض مسلمي المدينة، كنائسهم ومقدساتهم وكل رموزهم الدينية والحضارية النفيسة، في ظل صمت عربي واسلامي،رسمي وشعبي، باستثناء بعض الأصوات النخبوية الخجولة هنا وهناك.

حقيقة، أن صدمة مسيحيي الموصل لم تكن فقط من سلوك تنظيم الدولة الاسلامية(داعش)، وإنما صدمتهم الأكبر كانت من بعض مسلمي المدينة، الذين رحبوا بمسلحي داعش وانضموا إليهم وشاركوهم في عمليات النهب والسلب وسبي النساء والفتيات المسيحيات. الصمت الاسلامي،عن عمليات التطهير العرقي والديني لمسيحيي نينوى العراقية، ينم على تخلي العالم الاسلامي عن مسيحيه، ناهيك عن معطيات كثيرة، سياسية ومجتمعية وأخلاقية، تصب في هذا الاتجاه وتعزز هكذا اعتقاد. فبدلاً من أن تقوم الحكومات الاسلامية بتحصين الوجود المسيحي وحمايته في بلدانها، عبر قوانين استثنائية وقرارات سياسية وخطوات عملية وإجراءات أمنية، من خطر الاسلاميين المتشددين، نرى هذه الحكومات تنحاز بشكل واضح الى جانب المعتدين. إما من خلال غض الحكومات وأجهزتها الأمنية النظر عن جرائم الاسلاميين بحق المسيحيين، أو التساهل مع الجناة إذا ما أحيلوا الى القضاء. وليس من المبالغة القول، إن الكثير من الحكومات الاسلامية تساوم على حياة وحقوق ومصالح مواطنيها المسيحيين، بهدف إشغال الاسلاميين المتشددين وصرفهم عن قضية السلطة والحكم.

كيف يمكن الحديث عن (رغبة إسلامية) ببقاء المسيحية الى جانب الاسلام في هذا المشرق، ودساتير الدول العربية والإسلامية تنص على أن (الاسلام دين الدولة أو دين رئيس الدولة ولا تشريع خارج إطار الشريعة الاسلامية وبالتعارض معها). فهذه الدساتير الطائفية تشعر المسيحيين بالغبن والاغتراب الوطني، لما تنتقصه من حقوقهم في المواطنة الكاملة وتنال من مكانتهم الوطنية وتقيد حرياته الدينية والاجتماعية. ناهيك عن أن هكذا دساتير منافية للمبادئ الديمقراطية وللمفاهيم الوطنية،كرست مفهوم الأقلية والأغلبية وعمقت التمايزات داخل المجتمع الواحد، وبالتالي عطلت عملية الاندماج الوطني بين الأقوام والمكونات المجتمعية داخل الدولة الواحدة. كتب(أحمد الصراف) مقال مهماً ومعبراً، بعنوان( اخرجوا أيها المسيحيون من أوطاننا). نشر في صحيفة (القبس) الكويتية بتاريخ 21 تموز الماضي. جاء فيه “اذهبوا واخرجوا وخذوا معكم الرحمة، فنحن بعد النصرة وداعش والقاعدة وبقية عصابات الإخوان وآخر منتجاتهم لسنا بحاجة للرحمة ولا للتعاطف، فالدم سيسيل والعنف سينتشر والقلوب ستتقطع والأكباد ستؤكل، والألسنة ستخلع والرقاب ستفك والركب ستنهار، وسنعود للطب القديم والمعالجة بالأعشاب وقراءة القديم من الكتب والضرب في الرمل على الشاطئ بحثا عن الحظ.

اغربوا ايها المسيحيون عنا بثقافتكم، فقد استبدلنا بها ثقافة حفر القبور”. كلام الصراف لا يحتاج الى شرح. فهو يشكو من تخلي العرب المسلمين عن شركائهم المسيحيين، ويحذرهم من الكارثة التي ستحل بمجتمعاتهم في حال خسروا أحد أهم عناصر وروافد ثقافتهم وحضارتهم وتلاشت المسيحية من هذا المشرق، الذي فيه ظهرت ومنه انتشرت الى بقية أنحاء العالم. لا نجافي الحقيقة إذا قلنا، أن المكون المسيحي المتأصل في هذا المشرق، لم يكن يوماً محل اهتمام المسلمين،حكومات وشعوب. فعلى مستوى (الاسلام الرسمي)، رغم انحسار الوجود المسيحي الى مستويات مقلقة وتلاشيه من مناطق واسعة كانت يوماً مركز الثقل المسيحي في الشرق، بقي القادة والزعماء المسلمين و مرجعياتهم الدينية، في كل مؤتمراتهم وقممهم ولقاءاتهم “القمم العربية – القمم الاسلامية- القمم الروحية” يتجاهلون محنة مواطنيهم المسيحيين وهجرتهم من أوطانهم. ورغم استباحة دماء ومقدسات وممتلكات المسيحيين من قبل المجموعات الاسلامية المتشددة، في أكثر من دولة اسلامية، لم تصدر حتى الآن (فتوى) عن أية مرجعية اسلامية تحرم قتل المسيحيين وغير المسلمين الآمنين. علماً أن جميع الأديان السماوية والشرائع والمواثيق الدولية حرمت جريمة القتل. والقرآن الكريم جعل قتل النفس البشرية دون حق بمثابة الاعتداء والقتل للبشرية جمعاء. قال تعالى: “من قتل نفساً بغير حق فكأنما قتل الناس جميعاً”. أما على مستوى (الاسلام الشعبي )، رغم أن جرائم تنظيم الدولة الاسلامية بحق المسيحيين والايزيديين العراقيين أساءت للإسلام وشوهت صورته، لم تشهد اية عاصمة أو مدينة عربية واسلامية مظاهرات ومسيرات مليونيه شعبية غاضبة احتجاجاً على جرائم داعش المشينة، كتلك التي خرجت احتجاجاً على الرسوم الكاريكاتورية الدانماركية عام 2005 المسيئة لنبي الاسلام. وعلى تهديد القس ( تيري جونز) بحرق القرآن في فلوريدا الامريكية 2010 في الذكرى السنوية لهجمات 11 سبتمبر 2001. وعلى انتقاد بابا الفاتيكان بنديكت السادس عشر ل”تساهل الاسلام مع أعمال العنف والقتل” في سياق محاضرة القاها في جامعة بولاية بافاريا الألمانية 12سبتمبر 2006. قد يسأل البعض: هل من رغبة مسيحية بالبقاء في هذا المشرق؟.

لا أزعم بأنني متحدث باسم مسيحيي المشرق، لكنني أجزم بأن الغالبية الساحقة منهم راغبون بالبقاء والعيش في كنف أوطانهم التاريخية ومهد ديانتهم مع أبناء عمومتهم المسلمين. نعم، أنهم يردون البقاء، ليس كـ”ذميين”، وإنما كمواطنين بكامل الحقوق والواجبات الوطنية وشركاء حقيقيين في الحكم والادارة. الرغبة المسيحية لن تتحقق ما لم تقابلها رغبة اسلامية مُقترنة بإرادة حقيقية في العيش المشترك مع المسيحيين وغير المسلمين، ومالم يغير المسلم نظرته الى المسيحي من (مشرك – غريب) الى (مؤمن- شريك).

باحث سوري مهتم بقضايا الأقليات

shuosin@gmail.com

المصدر ايلاف

This entry was posted in دراسات سياسية وإقتصادية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.