هل تصلح الشريعة للتطبيق؟

محمد البدري

أثارت الجماعات الاسلامية التي اصبحت كلمتها مسموعة في الفضائيات والصحف وكل وسائل الاعلام قضية تطبيق الشريعة (المقصود التطبيق النصي لها حسب ما ورد في القرآن والسنة) ولم تجد دعواهم قبولا من قوي سياسية كثيرة. فانبروا اتهاما وتجريحا للمعارضين اما بالكفر او العلمانية أو انهم من الكارهين للاسلام. وتحت اي دعاوي فان الاتهام له ذات الفهم لمعني الشريعة، كلاهما يقع في خانة الجهل التام إما بالشريعة أو بالعلمانية في وقت واحد.
لم يسأل احد نفسه وبطريقة علمية لماذا الرفض للتطبيق الحرفي للشريعة كمطلب اسلامي سلفي، ولماذا يتصاعد الخلاف حولها الان وبعد ثورات الشباب. فالرافضين ليسوا من حثالات المجتمع وليسوا من انصاف المتعلمين ولهذا السبب بالذات يتهمهم الاسلاميون بذات التهم الساذجة السابقة والواردة في نصوص الاديان باعتبارها وصمة عند عامة الناس واصحاب الثقافة المتواضعة مما يوفر نوعا من تلويث للنخب ويرفع في آن واحد قدر غير المتعليمن وانصاف المثقفين. بهذا التوضيح فان الاسلاميون يرهنون صحة اتهاماتهم علي العقل المجتمعي المديوكر (نصف أو ربع المتعلم) وهو موقف غير اخلاقي في المقام الاول. واتهام يلوث قائله بانهم كذابون ومخادعون ومدلسين.

بين الشريعة والتاريخ جدل لا ينتهي. فلكل مرحلة في تاريخ البشرية شرائعها ولكل نمط اجتماعي قوانين خاصة به تنبع من طبيعته وتخدم اهدافه واستقراره السياسي / الاجتماعي. ومع اكتشاف التصنيفات الحضارية لكل مجتمع علي حده والموزعة حسب تنوعات البيئة جغرافيا أمكن اكتشاف كيفية عمل العقل المؤسس علي طبيعة كل نمط. لكن المشكلة الاساسية والتي ترهن الجماعات الاسلامية نفسها عليه ان الشريعة المقصودة هي من عند الله وليست نابعة من حياة البشر – المسلمين الاوائل. وبالتالي فان التنوعات هي من الاعمال المتعددة التي لا ترضي رب الكون الواحد. لكنهم سرعان ما يقعوا في الخطأ وينكشف بعضا من المستور في نواياهم عندما يؤكدون ان الهدف ليس فقط تطبيق الشريعة انما في اقامة مجتمع اسلامي يجري تاسيسه علي قواعد من القرآن والسنة بفهم سلف الامة، اي بسلف جماعة جغرافية بعينها دون باقي التنوعات الكثيرة الاخري. ولانهم لا يستطيعون التعامل الا بالعقل حتي ولو البسوه جلد ماعز أو سقوه ببول إبل فقد اضطروا لاستعارة عقل السلف وفهمه للنصوص كما لو انهم ليسوا حاملين لعقل مماثل، وربما افضل، بحكم مراكمتهم للمستجدات والخبرات لعشرات القرون التي تفصلهم عن سلفهم الصالح. وهنا تقع جريمتهم الثانية بالنيل من ذواتهم قبل المثقفين ونخب المجتمع التي تعارض تطبيق احكام الشريعة.

وقبل الذهاب الي ما هو ابعد من ذلك فان هناك إشكالية كبري نابعة من فكرة التوحيد التي حملها العرب لنشرها كعقيدة يتناقض معها وجود تعدديات علي سطح الارض متمثلة في ثقافات برموز دينية كثيرة ويرافق كل منها تشريعات وقوانين وقواعد سلوكية اجتماعية تختلف باختلاف الثقافات. فكلما تصادمت مفاهيم باقي الثقافات مع مفاهيم عرب البداوة القرشية كلما برزت فكرة الحرام والحلال المصاحب بالعنف، فاذا ما عجزوا عن تمرير مفاهيمها الاسلامية كلما اعيد تقسيم الجغرافيا علي قواعد دار الحرب ودار اسلام وأعيد انتاج فكرة الكفر بالله الواحد وشريعته المفترض تطبيقها في كل موقع وصلت اليه فكرة التوحيد.

يقف النص القرآني كسيف مسلط بنصوصه مع اي خلاف كما وقف مع أول واكبر صدام مع اليهود كما في الاية43 من سورة المائدة ” وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ “. ويفسر ابن كثير هذا القول (ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ فِي آرَائِهِمْ الْفَاسِدَة وَمَقَاصِدهمْ الزَّائِغَة فِي تَرْكهمْ مَا يَعْتَقِدُونَ صِحَّته مِنْ الْكِتَاب الَّذِي بِأَيْدِيهِمْ الَّذِي يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِالتَّمَسُّكِ بِهِ أَبَدًا ثُمَّ خَرَجُوا عَنْ حُكْمه وَعَدَلُوا إِلَى غَيْره مِمَّا يَعْتَقِدُونَ فِي نَفْس الْأَمْر بُطْلَانه وَعَدَم لُزُومه لَهُمْ فَقَالَ وَكَيْف يُحَكِّمُونَك وَعِنْدهمْ التَّوْرَاة فِيهَا حُكْم اللَّه ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْد ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤمنين).

ابن كثير، بهذا التفسير، هرب من مواجهه اكبر اشكالية اسلامية لازمت الاسلام ولازالت تلازمه في عراكه مع اهل الكتاب. فالتناقض المفتعل علي العقيدة يقع في هذه الحالة كبداية للتشاكل مع كل مجتمع يذهب اليه الاسلام. فيهود خيبر وبني قريظة … الي آخر طوائف يثرب المتعددة كان التوحيد هو المهيمن علي عقيدتها، ورغم ذلك جاء القران ليتشاكل معهم باكثر من تشاكله مع الوثنيين. فالقرآن يؤكد صحة عقيدتهم في مواقف كثيرة مقابل ما لدي المسلمين ثم ينقلب فجأة الي الاتهام في العقيدة وما هم بمؤمنين. الاكثر غرابة ان منظومة القيم الاجتماعية البدوية والقبلية هي ذاتها التي عند باقي طوائف يثرب من غير اليهود ليست فقط متشابهه انما متطابقة بحكم اشتراكهم في بيئة وثقافة واحدة. فجميعهم تجمعهم المفاهيم السائدة ذات النمط المتماثل حضاريا عبر القيم التجارية او الرعي او بعض الزراعات البسيطة. وبالتالي فان اي حرام او حلال يصبح امرا لا محل له من الشريعة في شئ. هذا مثال اولي بدأ مبكرا في تشاكل المسلمين الاوائل مع من يماثلوهم في العقيدة والثقافة والوضع الحضاري. فما بالنا ومجتمعات كالصين والهند واوروبا وافريقيا إذا ما وصل اليها الاسلام؟

ثاني المشاكل التي يقفز فوقها الاسلاميون، إذا ما اصبح للاسلام من نفوذ وانتشار، قولة احد فقهاء السلف “العبرة بعموم اللفظ وليس بخصوض السبب”. يمكن اعتبار هذا القول الغير عقلاني وغير منطقي كمحاولة للتعتيم علي التناقضات في الشريعة ذاتها إذا ما تجرأ احد علي اعتبارها مقوصة وغير كاملة وكبديل لقيم القانون والعادات والاعراف في المجتمعات الحديثة العهد بالشريعة، او في تناولها لحالات لم تخطر علي بال مجتمع قريش. يصعب أخذ هذا القول مأخذ الجد لسطحيته وتسطيحه للتعددية التي هي من طبيعة الاشياء. فلفظ واحد وعبر تعميمه يستحيل ان يكتفي به لمعالجة كل المسائل والمشكلات ذات الجوانب المركبة والمعقدة. ويصعب وصف مثل هذا الفقية الا بضيق الافق وقصر النظر وضحالة فكره وكسله عن التفكير. فما اسهل الاستسهال لنص ليصبح ساريا دون اي صلاحية علي تراث اليهود وتراث غيرهم واعتبروه اساسا لمنظومتهم العقائدية. فهناك في التراث اليهودي امثلة للتسطيح والحلول السهلة الاسطورية اصطبغ بها العقل التوحيدي المستخلص من التراث العبراني الاصل واهمها عصا موسي التي تبهر وتبرهن وتشق وتنجي وتحي وتميت … الخ المطالب الاعجازية لجماعات بدائية في ازمنة سحيقة. فالراسب التوراتي في العقل الاسلامي كان دائما حاضرا لتبرير ما يستحيل تعقله ليس فقط في السلوك الاسطوري المعجز لانبياء اليهود إنما في التصييغ اللفظي للقوانين في الشريعة ومبسطة الي حد الخلل بقيمة البشر كبتر الاطراف ورجم النساء في حالات الاتهام بالسرقة او ممارسة الجنس.

ويقابل مثل هذه المواقف التسطيحية الذي يدعو اليها الاسلام السياسي موقفا آخر مضاد من الذين حملوا صفة العلمانية، بشرف واعتداد بالذات، تقول بان مقاصد الشريعة أو مبادئها هي التي علي هداها ينبغي صياغة القوانين. فالمبادي أو المقاصد هي الحق والخير والجمال وتحقيق الرفاهية والعدل بين البشر مهما كانت الفروق بينهم ومهما تباينت اوضاعهم الطبقية والاجتماعية والثقافية. ورغم الاستحالة بشكل مطلق في تحقيق هذا ايضا مع امكانية تحقيقة بشكل نسبي وبدرجة عالية من الصواب، الا ان هذا الطرح العلماني (حسب اتهامات الاسلاميين له بالكفر) يحمل قدرا من التصحيح المستمر و الدائم في ضوء المقاصد والمبادئ العامة كلما تغيرت الظروف واختلفت الازمنة والاوضاع.

 

من أهم الفروق بين المنادين بالشريعة وبين المنادين بالقانون الوضعي ان هناك فضيلة يتحلي بها العلمانيون ويفتقدها الاسلاميون المطالبون بحرفية النص للتطبيق، وهي الشجاعة مقابل الخوف والثقة بالنفس مقابل فقدان الاهلية كبشر يتحملون مسؤولية افعالهم. ففي الاسلام يطلب من المؤمنين الغاء العقل في مقال طاعة نص ثابت جامد وهو أمر غريب لو ناقشناه في ضوء اي نظرية بما فيها نظرية الخلق الدينية، لو ان لها اسسا عقلانية. فالعقل عن الاسلاميين يبدو وكانه زائدة دودية اصبحت متنحية الوظيفة بعد ان ظهر سلف صالح من صحابة نبي الاسلام ومن بعدهم عدة فقهاء انتهي دورهم بانتهاء عصر تدوين نصوص الاسلام وقاموا بمهمة العقل بديلا عن كل الاجيال اللاحقة. مثل هذا الموقف هو تعبير عجز مزمن في البنية الفكرية الاسلامية يقابله، كتعويض، وكحنين الي زمن قديم وصلت الينا اخباره بانه كان ذهبيا لان العقل فيه كان حصرا علي قلة من البشر هم غالبا العشرة المبشرون بالجنة وفقهاء الاسلام الاربعة واضيف اليهم حديثا ابن تيمية وابن عبد الوهاب لكونهم اكثر تشددا واقل تفضيلا للعقل. زمن ابن عبد الوهاب وفي بيئته الحضارية بجزيرة العرب كانت كل الظروف القديمة حاضرة حيث الصحراء والبداوة والقبلية ومجتمع التجارة هي ذاتها شروط مجتمع النبوة لهذا فان صلاحية النص مع الغاء العقل وتسييد قواعد البداوة لها الاولوية عنده ايضا.
وتشكل قضية المرأة والرقيق في الاسلام نموذجا فادحا لعدم اهلية الشريعة للتطبيق. ففي الاولي لم يكن المسلمون مجددين أو مبدعين ولم تكن نصوصهم الاسلامية ثورية بقدر ما كانت توافقية مع ما هو قائم ومسلم به عند اجدداهم في جاهليتهم وعند كثير من الامم السابقة في الثقافات الاقدم. كان اعتبار جنس المرأة مرادفا للنجاسة والشر وحليفا للشيطان واتخذ من دم الحيض او زمن الولادة دليلا علي نجاستها فاصبح عزلها أمرا مفروغا منه تقربا اما للطوطم أو الاله كل في زمن عبادته. وحيكت حولها الاساطير وخرافات الخلق بانها جاءت من ضلع اعوج وان الغواية كانت من نواياها السيئة واصبح الطرد من جنة مزعومة حكما علي مدي خطورتها في الجنة وعلي الارض علي السواء. أمر النساء منقول بحرفيته من التوراه رغم التنكر للتوراه ومعها امور الرق وقواعده القانونية. كل هذا اصبح من قواعد الاسلام ومفاهيمة العقائدية. فكما تسابق المسلمون في زمن النبوة وما بعدها زمن الفقهاء الي نصوص التوراه وللاسرائيليات ككنز لا يفني لتصعيد فلان وبخس علان وسب هذا وتمجيد ذاك، إما بكونه عدوا لبني اسرائيل لتطييب خاطر القبيلة العبرانية التائهة في صحراء قاحلة باثر رجعي ، قام الاسلاميون كمدافع ومحامي عن الاسرائيليات ومدوناتهم التي تتفق في طبيعة مكونها الحضاري مع مجتمع القبيلة في صحراء العرب مع تجريم مواز لليهود وللكتب السماوية الاسبق. فعجزوا عن السمو عن اخلاق البداوة الاسرائيلية وفشلوا في وضع حد للعنف الذي تمتلئ به كتب بني اسرائيل. لكن ومع اختفاء اليهود وانزوائهم جغرافيا بعيدا عن صناعة القرار في دولة الخلافة وحتي الزمن العباسي اصبحت تشريعات الاسلام عن المرأة سائدة كتجديد للشرائع اليهودية ويرافقها كتلازم ضروري لها فقه الرقيق والاماء، المنقول إما من التوراه أو من عادات العرب في صحرائهم. ذلك لان زمن الغزو وجلب العبيد كان مستمرا انتهي واصبح علي الواقع المستقر علي اسس التجارة بالبشر ان يحدد استحقاقات الملكية التي جري توريثها واختفي اصحابها الاصليين الجالبين لها من بقاع كثيرة بمرور الزمن.

فعجز الشريعة بناء علي ما سبق ان تكون اممية وتتفق مع المستقبل ومستجداته اصبحت عبئا علي الانسانية بحكم ترجيحها شرائع من ازمنة سحيقة لا تعرف التنظيم المدني الحديث. بل واصبحت دليل خصوصية ثقافية لا تصلح لحكم مجتمعات مختلفة حضاريا بغض النظر عن مدي رقيها أو انحطاطها مقارنة بمجتمع صحراء قريش. ولهذا السبب لازالت هناك فرقا تقول بان الخلافة لا بد وان تكون لقرشي، اي لمن يحمل ثقافة البداوة بهدف محو ما يخالف ما في ثقافة المجتمعات المسلمة الحديثة وتختلف جذريا عما كان سائدا في الزمن القديم والقريب تاريخيا.

 

حاول الاسلام زرع فكرة تحمل نقيضين اولاهما تدمير الماضي باعتباره خروجا علي شريعة الله وثانيهما الرغبة الحميمة في الحفاظ عـلى الشواهـد الحضارية لمجتمع مكة الوثني الحامل لكل ما سعي المطلب الاول لتدميره. وبدون التعرض لطقوس الصلاة والحج والصوم التي كانت سائده قبل ظهور نبي الاسلام فان بقاء وضعية المرأة والرق كما هي دون تغيير هو الدليل الاوضح لهذا الطرح. فنحن لا نعرف أحدا عن ذلك المجتمع جمع باربع زوجات في وقت واحد حسب مستجدات الاسلام. لكننا علي علم بمن اصبح يستبدل ويجدد ويطلق ويتزوج بكل حرية طالما هو يلعب في مساحة الاربع زوجات. ولا نعرف حقوقا سلبتها الشريعة من الرجل لصالح المرأة بقدر ما نعرف كيف انصاعت المرأة طبقا للنص الاسلامي لصالح الرجل في الميراث والاهلية في الزواج ولاية الرجل عليها. وكان الرقيق مفروغا منه وبلا حد أو ضوابط عددية، فلم يضبط العدد او حق التملك في الانسان، لكن أصبح الاتجار بهم مع الله اضافة لانواع التجارة المعروفة في اسواق قريش التي اصبحت معولمة بين الاندلس وبخاري دون اي لفتة الي انسانيتهم كقيمة مستقلة لا علاقة لها بالملكية أو حق الاستغلال.
هذه النزعة المتناقضة هي ذاتها النزعة الثنائية التي يتضارب فيها مجتمع البداوة مع باقي مجتمعات الحضر الجديثة وبين ما سمي الايمان وبين مجتمعات العلمانية، والتي تركت بصمتها علي عقيدة المسلم الحديث ممزقة بين قيم الجاهلية العربية وعادات العرب وتقاليدهم وبين شكل الدولة الحديثة.

محمد البدري (مفكر حر)؟

About محمد البدري

مهندس وباحث انثربولوجي
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, فكر حر. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.