نبيّك هو أنت.. لاتعش داخل جبّته! الحلقة الأخيرة

وفاء سلطان

لم يستطع كتاب في تاريخ البشرية أن يبرهن على أهمية الكلمة كما استطاع القرآن، وبرهانه يكمن في الكم الهائل من التخريب العقلي الذي أحدثه لدى قرائه وأتباعه.
للكلمة تأثيران سلبي وإيجابي، وأهميتها تأتي من حجم التأثير الذي تتركه سلبا كان أم إيجابا. قد تبني وقد تدمر، ووضع أية أمة في تاريخ البشريةـ كان ولم يزل ـ الإفراز الذي ينضح به القاموس اللغوي لتلك الأمة.
لقد أفرزت لغة القرآن رجلا يفتقر إلى كل ما يحتاج اليه الرجل لبناء مجتمع صحيّ معافى على كلّ الأصعدة وبكل ما تعنيه الكلمة!
العقل بكل ملكاته هو البوصلة التي ترشد الإنسان إلى بناء ذلك المجتع، وتلك البوصلة لا تخرج عن كونها جهازا متكاملا ومتماسكا.
الجهازـ تعريفاـ هو مجموعة من العناصر التي ترتبط مع بعضها البعض بروابط تختلف في شدتها من مكان إلى آخر. القلب جهاز، والحكومة جهاز، والتلفزيون جهاز، والأخلاق جهاز والعقل جهاز وبالتالي لا ينهار جهاز إلا عندما تتفكك الروابط التي تربط بين أجزاءه.
لكي تكون قادرا على أن تحطم رابطة بين جزئين من أي جهاز يجب أن تعرض تلك الرابطة إلى ضغط ما يفوق قدرتها على تحمله.
الضغوط التي تمارس على العقل البشري هي وحدها التي تؤدي إلى تفكيك روابطه، وبالتالي إلى إنهياره كجهاز.
تتولد أشرس أنواع تلك الضغوط عندما يتلقى العقل رسالتين متناقضتين ويتطلب منه الأمر أن يقبلهما كرسالتين متعاضدتين.
“القرآن متعاضد وليس متناقضا” واقع شرس كان على الرجل المسلم أن يتعامل معه عبر التاريخ الإسلامي دون خيار.
لقد أثبت الدراسات العصبيّة-النفسيّة على أن الأثر البيئي، لو استمر حقبة كافية من الزمن، يستطيع أن يغيّر الخريطة السلكية للنواقل العصبية داخل الدماغ، ثم تنغرز تلك التغييرات لاحقا في الشيفرا الوراثية لصاحب ذلك الدماغ.
بناء على تلك الحقيقة، قد تصبح الصفة المكتسبة من البيئة مع الزمن ميّزة تنتقل بالوراثة.
تستطيع أن تتخيل الدماغ البشري كمدينة صاخبة وعامرة بالأسلاك التي تربط كل جزء منها بالآخر.
الخريطة السلكيّة لكل دماغ تنتقل عبر الشيفرا الوراثية من صاحب ذلك الدماغ إلى أجياله المتلاحقة. لكن أثبت العلم بأن التأثيرات الخارجية التي تفرضها البيئة قد تساهم، عندما تستمر عدة أجيال، في تغيير تلك الخريطة وبالتالي في تغيير الشيفرا الوراثية.
النقطة التي أود الوصول إليها هنا أن التأثير الذي يتركه القرآن على أتباعه لم يعد يأتي من قراءته والإلتزام بما جاء فيه، وإنما صار ينتقل عبر الشيفرا الوراثية للمسلم وغير المسلم الذي يولد ويموت في بيئة إسلاميّة.
ليس شرطا أن تكون الشيخ القرضاوي لكي ينعكس ذلك التخريب على سلوكك، وإنما يكفي أن تكون ابن البيئة أبا عن جد لتسقط ضحية لذلك السلوك!
لقد شرحت باسهاب كيف أن البرمجة العقلية المميزة لكل شعب هي تحصيل حاصل لعاداته وتقاليده ومفاهيمه وعقائده، وأحب أن اؤكد هنا بأنها قد تصبح عبر مئات السنين جزءا من شيفرته الوراثية.
لذلك تتطلب إعادة برمجة العقلية الإسلامية أجيالا حتى في حال قمنا بتعقيم البيئة من كافة الآثار التي ساهمت في تلك البرمجة.
في المجتع الواحد، تستطيع أن تلمس فرقا في نمط البرمجة العقلية حسب مدة وكميّة التعرض للأثر البيئي.
في الطب يصنفون الحروق درجات حسب مساحة الأذية وعمقها تحت الجلد، فيقولون: حروق من الدرجة الأولى…الثانية…الثالثة.. أو الرابعة.
ويلعب زمن التعرض للمادة المحرقة ونوعها دورا في تحديد الأذية.
ينطبق هذا التصنيف تماما على المسلمين، فحجم التخريب العقلي الذي أحدثته التعاليم الإسلامية لدى المسلم يتعلق بالمدى الذي تغلغلت إليه التعاليم الإسلامية في اللاوعي عنده ونوعية ثم كميّة تلك التعاليم.
قد يتفق معي الكثيرون بأن البرمجة العقلية لدى أهل الشيعة تختلف عنها لدى أهل السنة.
والإختلاف قد نجم عن رفض الشيعة للكثير من السنّة المحمديّة، وبالتالي كان تعرضهم لما أحدثه الإسلام يختلف نوعا وكما، علما بأن كلا الطائفتين يتساويان في نوعية وكمية الأثر الذي ساهم به القرآن في تلك البرمجة، ولذلك هم يتشابهون في نواح ويختلفون في أخرى.
يصلني الكثير من الرسائل من مسلمين يحتجّون على ما أكتب، في معظم الحالات وبسهولة بالغة أستطيع أن أميّز إن كان المرسل شيعيّا أم سنيّا.
لا أذكر في حياتي تلقيت رسالة قذرة من شيعي تنعتني بأخلاقياتي وبسمعتي، أقسى ما يقوله لي الشيعي “أنت مغرورة…أنت جاهلة ولا تفهمين شيئا عن الإسلام، هل قرأتيه من مصادره الأصلية؟”
أما السني فيهددني ويشتمني ويتناول منبتي الطائفي بطريقة تثير قرفي.
هذا لا يتعارض مع كون الكثير من رسائل التشجيع تصلني من أخوة سنة، ولهم في قلبي مودة كبيرة.
هذا مع العلم، عندما يفتح السنّي عقله ويتخلى عن برمجته يكون أكثر جرأة في التعبير عما يجول بخاطره، إنتمائه إلى الأغلبية يشرح سرّ جرأته.
أمّا الشيعي، الذي يقتله الخوف المتربص باللاوعي عنده من أن يتهمه السنة بأنه من “الرافضة”، فيحاول في كثير من الأحيان أن يعبّر عن رغبته في الإنفتاح بطريقة أكثر تحفظا.
الأمر نفسه ينطبق على المسلمين العرب والمسلمين غير العرب، فالبرمجة تختلف لدى هذين الطرفين، وذلك بإختلاف العمق الذي تغلغت إليه التعاليم الإسلامية داخل التلافيف المخية لكل طرف.
في جميع الأحوال لم تستطع، ولن تستطيع، التعاليم الإسلامية أن تتغلغل في تلك التلافيف بنفس العمق لدى الطرفين.
أضرب مثلا: عندما يتعلم الطفل العربي كيف يصلي، يتعلم مع الصلاة أن يتلو الفاتحة ويكررها عدة مرات في الصلاة الواحدة.
لا أتصور بأن هناك طفلا عربيّا استطاع أن يتعلم الصلاة ويجيد أدائها ولا يعرف ماذا تعني الآية التي تقول: “صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم و لا الضالين”.
الأثر الذي تلعبه تلك الآية في برمجته العقلية، ولاحقا في تحديد سلوكه من الآخرين، قد أصبح مع الزمن محفورا في البنية التشريحية والفيزيولوجية لدماغه ومغروزا في شيفرته الوراثية.
بالمقابل عندما يتعلم الطفل الباكستاني، كمثال على غير العربي، تلك السورة ويكررها في صلاته يكررها كالببغاء دون أن يدرك في معظم الحالات معناها.
ولذلك لا يمكن أن تترك لديه الأثر الذي تركته لدى قرينه المسلم العربي.
عندما تقارن بين السني والشيعي تلمس الفرق بينهما، كما تلمسه عندما تقارن بين المسلم العربي والمسلم غير العربي.
ولكن تتضاءل تلك الفروق وتبدو أوجه الشبه بينهم أكثر وضوحا عندما تقارن بين المسلم، شيعيا كان أم سنيّا عربيا أم غير عربي، وبين غير المسلم.
بدأت الهيمنة العقلية على المسلم منذ أن تمّ إقناعه بأن القرآن معجزة محمد السماوية، ومنذ أن وقف السيف حائلا بينه وبين أن يتساءل: أين تكمن المعجزة في ذلك الكتاب المليء بالأخطاء اللغوية والتاريخية والأخلاقية؟!!
وقع المسلم سجين تلك الهيمنة التي ضربت حوله عزلة فكرية، ولم تسمح له أن يتجاوز دفتيّ ذلك الكتاب على مدى أربعة عشر قرنا من الزمن.
عندما يخضع الإنسان لمؤثر ما تزداد قوة تأثير ذلك المؤثر عندما ينفرد في تأثيره ولا يسمح للمؤثرات الأخرى بأن تفرض تأثيرها. في تلك الحالة بالذات يتم ما نطلق عليه بـ “الغسيل الدماغي”، فعملية الغسيل الدماغي تتم بطريقة أسرع وأسهل عندما يُعزل الشخص المراد غسل دماغه عن كافة المؤثرات باستثناء المؤثر المراد فرض تأثيره.
أول من أطلق تعبير “غسيل دماغ” كان الصحفي الأمريكي Edward Hunter عام 1950، عندما لاحظ ما فعلته الحكومة الصينيّة يومها بالجنود الأمريكان الذين أسرتهم خلال الحرب الكوريّة.
قام عالم النفسي الأمريكي Robert Jay Lifton بدراسة حالة هؤلاء الجنود عندما اُطلق سراحهم بعد أعوام من أسرهم، وتوصل إلى حقائق كثيرة تتعلق بالطريقة التي تمّ بها إقناعهم بالشيوعية وبضرورة رفض العودة إلى بلادهم. وجد من خلال تلك الدراسة بأن عامل العزل المطلق عن كافة التأثيرات الخارجية قد لعب الدور الأكبر في تسهيل تلك العملية.
هذا ما حدث عبر التاريخ الإسلامي، فعزل المسلم عن كافة المؤثرات الأخرى لعب دورا كبيرا في تسهيل عملية الغسيل الدماغي التي تعرض لها.
لم يتثنَ لذلك الإنسان يوما أن يتساءل عن مكامن الإعجاز في القرآن.
هل يكمن إعجازه في لغته، أم يكمن في تنبؤاته، أم يكمن في أحكامه، أم في ماذا؟!
أين الإعجاز اللغوي في كتاب لا يخضع لأبسط قواعد اللغة التي جاء بها؟!!
هذا من جهة ومن جهة أخرى كيف يستطيع عقل بشري أن يتحمل الضغط الناجم عن التوفيق بين أخطائه اللغوية وبين إعجازه اللغوي؟!!
لا يستطيع إنسان على سطح الأرض أن يبني جهازا أخلاقيا سليما عندما يتغاضى عن الأخطاء ليثبت الإعجاز!
عندما تضيع الحدود بين النقيض ونقيضه تختلط الأمور وتنقلب المفاهيم، فيخضع عندها أي مفهوم للتأثير الذي تفرضه البرمجة العقلية للشخص الذي يتبنى ذلك المفهوم.
قد يرى ذلك الشخص الليل أحيانا أبيض وأحيانا أخرى أسود، في تلك الحالة تتوقف رؤيته على الظرف الذي يخدم برمجته العقلية إذ لا يوجد لديه تعريف محدد وواضح لمفهوم البياض أو السواد.
أضرب مثلا:
عثر أحد مغسوليّ الدماغ على خطأ إملائي في إحدى مقالاتي، فانتشى فرحا وراح يرغد ويزبد ويرقص حتى داس في عليقته!
ظن أنه قضى على وفاء سلطان بالضربة القاضية، فكتب مقالا مطولا، كان بيت القصيد فيه ذلك الخطأ.
لقد وردت في مقالتي كلمة “آبائهم”، وكان المفروض أن أكتب الهمزة على سطر ” آباءهم” بدلا من أن أكتبها على نبرة.
استخدم، تأبط شرا، ذلك الخطأ كمبرر يقوّض من خلاله فهمي للإسلام ويثبت عدم صلاحيتي لنقده!
لا ينتابني شكٌ بأن هذا المعتوه قد قرأ القرآن في حياته من المرات مالا يُعدّ ويُحصى، لكن لم تسمح له برمجته العقلية، والتي أوهمته بأن القرآن كتاب معصوم عن الخطأ، لم تسمح له يوما أن يلتقط ما فيه من أخطاء نحويّة وتاريخية وأخلاقية وتشريعية، ناهيك عن الكثير من المتناقضات، ولو فعل ذلك لأطلق الرصاص على نفسه قبل أن يصوّب بندقيته باتجاهي!
من كان بيته من قشّ عليه أن لا يرمي عود ثقاب على بيوت الآخرين، وخصوصا عندما تكون تلك البيوت من حديد!
جاء في سورة البقرة 24:2 “لاينال عهدي الظالمين”.
لكنه السيد المغسول لم يظهر “سيبويته” إلا عليّ، ورفض أن يتساءل: لماذا لم يرفع الفاعل فيقول “الظالمون”؟!!
جاء في سورة الأعراف 160:7 (وقطعناهم اثنتي عشر أسباطا أمما) لكن سيبويه لم يتساءل: لماذا لم يذكّر العدد فيقول “اثني” ويأتي بمفرد المعدود فيقول”سبطا”؟!!
جاء في سورة الحج 19:22 (هذان خصمان اختصموا في ربهم) لكنه تجاهل عن عمد بأنه كان يجب أن يقول: “خصمان اختصما في ربهما”!
جاء في سورة التوبة 69:9 (وخضتم كالذي خاضوا)، وكان يجب أن يجمع اسم الموصول العائد على ضمير الجمع فيقول:”خضتم كالذين خاضوا”!
جاء في سورة البقرة 183:2 (كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدودات) والأصح أن يقول: “معدودة”.
جاء في سورة التحريم 66:4 (إن تتوبا إلى الله فقد صفت قلوبكم)، ألا يعلم الله بأن لكل شخص قلب واحد؟! أليس من الأصح أن يقول “صفا قلباكما”؟!!
لست هنا بصدد ذكر كل الأخطاء النحوية التي وردت في القرآن، والتي على ذمّة المفكر الإيراني علي سينا قد تجاوزت الألف، وإلا لإحتجت إلى كتاب.
لكنني بصدد أن أتساءل كيف يستطيع المسلم أن ينبش خطأا إملائيا بسيطا في مقالتي ويتغاضى عن أخطاء قرآنه، كيف يستطيع أن يتحمل الضغط الناجم عن التناقض في هذين الموقفين؟!!
كيف يعتبر القرآن معجزة لغوية مالم تُقاس تلك المعجزة بمدى تقيده بأحكام تلك اللغة؟!!
الرجل العاجز على أن يسمي الأشياء بمسمياتها عندما تتعارض تلك المسميات مع برمجته العقلية هو ـ باختصار شديد ـ إنسان مغسول الدماغ لا يستطيع أن يرى خارج حدود البؤرة العقائدية التي برمجته.
لدى المسلم لم تتسع تلك البؤرة لتشمل ما كان ضروريا لخلق مجتمع بشري إنساني سليم ومعافى.
لم يُعزل المسلم داخل حدود القرآن وحسب، بل وقع ضحية عزلة ضمن عزلة، عندما فرض عليه الإسلام سجنا آخر داخل سجن القرآن نفسه.
ضمن السجن الواحد كانت هناك حواجز عقلية وهمية تمنع المسلم من سبر أغوار سجنه.
لقد أقنعته الهيمنة العقلية التي مورست عليه بأن قدرته كمخلوق بشري أقل بكيثر من أن يفهم ما يجري داخل حدود ذلك الكتاب.
عندما أتناول القرآن في كتاباتي تصلني رسائل كثيرة تتدعي بأنني لا أفهم القرآن، إذ لا يستطيع فهم ذلك الكتاب سوى ” فقهاء” يتمتعون بقدرات خارقة فوق مستوى قدرة البشر!
استنادا لإدعاءاتهم تطفو على السطح تناقضات من نوع آخر يرزح عقل المسلم تحت وطأة ضغوطها.
تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ
فأين البيان في كتاب لا تستطيع وفاء سلطان أن تفهمه، ناهيك عن المسلمين غير العرب والعرب الأميين الذي لا يجيدون قراءته؟!!
إذا أخذنا بعين الإعتبار أن المسلمين غير العرب يشكلون %80 من مجموع المسلمين والأميين العرب يشكلون على الأقل %60 من العشرين الباقية، نستطيع بعملية حسابية بسيطة أن نتوصل إلى أن أكثر من %90 من أتباعه لا يجيدون قراءته، ناهيك عن فهمه!
ثمّ إذا أخذنا بعين الإعتبار نسبة الناس الذين يقرأونه لكنهم لا يجيدون فهمه ـ وأنا على حد زعمهم واحدة منهم ـ نستطيع بسهولة أن ندرك مفهوم “السجن داخل سجن” الذي أشرت إليه سابقا.
فبصورة عامة وقع المسلم رهينة كتاب لا يجيد قراءته، وإن أجادها لا يجيد فهمه.
الهيمنة العقلية التي أوحت للمسلم بأنه كتاب عصيّ على الفهم، وبأنّ فهمه محصور ضمن شرذمة من “الفقهاء”، سهلت على تلك الشرذمة أن تقبض بإحكام على عقل ذلك الرجل ولم تسمح له أن يتجاوز حدود تلك القبضة.
……………..
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ
وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ
توحي الآية الأولى بأن القرآن قد جاء لمن يقرأ العربية كي يعي ما يقرأ، أمّا الآية الثانية فتوحي بأن القرآن جاء للعالم كله دون أن تشرح كيف سيفهمه من لا يعرف قراءته.
ثمّ تأتي الآية الثالثة لتؤكد على أهمية تساؤلنا هذا، أي كيف يستطيع إنسان أن يفهم كتابا يبدو أعجميّا بالنسبة له؟!!
هنا، وخارج حدود الهيمنة العقلية المفروضة على المسلم، يحق لنا أن نتساءل: كيف يرسل الله كتابا بلغة العرب كي لا يحتجوا على عدم وضوح آياته، وفي الوقت نفسه يرسله للعالمين أجمع دون أن يحقّ لهم أن يحتجوا لنفس السبب؟!!
هذا من جهة ومن جهة أخرى، بناء على الآية التي تقول: إنّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
يُفترض أن يكون القرآن ككتاب عربي واضحا كلّ الوضوح، ويسهل على قارئ العربية أن يستوعبه بلا إشكالات، وإلا كيف يَعقل ما دام لا يفهم؟!
لكن الحواجز العقلية الوهمية التي فرضتها شرذمة “الفقهاء” أوقعت المسلم رهينة قبضتهم داخل سجن القرآن نفسه!
ولكي لا أضع كلّ اللوم على تلك الشرذمة، أود أن اُشير إلى لغة القرآن الغامضة وغير الواضحة أيضا قد لعبت دورا في عجز المسلم عن فهمه، وبالتالي سهّلت مهمة تلك الشرذمة.
معظم آيات القرآن تتكرر بشكل ممل في أكثر من موقع، ولو حُذف ذلك التكرار لخسر القرآن ثلاثة أرباعه.
والكثير منها يحوي كلاما متناقضا للغاية وبطريقة مثيرة للدهشة!
ورد في سورة النساء 82:4 (ولو كان من عند غير الله لوجدتم فيه اختلافا كبيرا) ولكننا نجد فيه الإختلاف الكثير:
ورد في سورة الواقعة 56/13و14 (ثلة من الأولين وقليل من الآخرين) أي أن قليلا من أهل الجنة مسلمون، وورد في السورة نفسها 56/39 و40 (ثلة من الأولين وثلة من الآخرين) أي أن كثيرا من أهل الجنة مسلمون!
ورد في سورة السجدة5:32 (يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج اليه في يوم مقداره ألف سنة مما تعدون)، وورد في سورة المعارج 4:70 (تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة)!!
في الأية الأولى اليوم عند الله ألف سنة، وفي الأية الثانية اليوم عند الله خمسون ألف سنة!!
ورد في سورة المائدة 69:5 (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصائبون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون)
وورد في سورة آل عمران 85:3 (من يتبع غير الإسلام دينا فلا يقبل منه وهو في الأخرة من الخاسرين)
تصرّ الأية الأولى على أنّ الله سيقبل في جنته اليهود والصائبين والنصارى الذين آمنوا به وباليوم الآخر، بينما تصرّ الآية الثانية على أنه لن يقبل في جنته سوى المسلمين!!
وهنا أيضا ليست غايتي أن أذكر كل التناقضات التي وردت في القرآن وإلا لاحتجت لكتاب آخر، ولكن لأوضح كيف تبرمج المسلم على أن يرى القشة في عين غيره ولا يرى المسمار في عينه!!
لقد احتوى القرآن على كثير من التراكيب اللغوية التي لا تجد لها مبررا ولا تجني منها فائدة.
ما هي الفائدة التي جناها المسلم ومازال يجنيها من قراءة الآيات التالية:
وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا
فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا
فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا
فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا
ثم ما الغاية من أن تبدأ بعض الآيات بحروف لا معنى لها ولا قيمة، ألم يلعب ورود تلك الأحرف في القرآن دورا في إقناع المسلم بأنه ليس أهلا لفهم ذلك الكتاب؟!!
َلَرَ، اَلمَ، المص، حم، حم غسق، ص، طس، طسم، كهيعص، يس وغيرها.
كيف نستطيع أن نترجم للصيني أو الأمريكي أو الهنغاري لغة عربية محليّة بدويّة ماتت منذ أن انقرضت قريش؟!!
إذا كان القرآن لكل زمان ومكان فلماذا لم يستمر أتباعه، على الأقل العرب منهم، في استخدام تلك اللغة كي يحافظوا على جدوى استمراريته ككتاب قابل للقراءة؟!!
…………
سُئل الكاتب الأمريكي الحائز على جائزة نوبل William Faulkner عن رأيه بالقاص الأمريكي ارنيست همينغواي، تعالوا نتأمل بإمعان ما قاله:
“تكمن عظمة السيّد همينغواي في أنه لم يكتب كلمة واحدة احتاج عندها القارئ أن يسأل عن معناها”.
ولا يخرج القرآن ككتاب عن تلك الحقيقة، فعظمة أي كتاب تكمن في وضوحه وفي سهولة فهمه واستيعاب رسالته.
الضبابية الفكريّة التي نجمت عن هذا اللغط اللغوي أوقعت المسلم رهينتها، وأحالت بينه وبين أن يرى الواقع كما هو.
يقرأ المسلم كتابه ويتوقع أن يكون خلف كلّ كلمة يقرأها معنى لا يستطيع إدراكه.
وبالتالي ينظر إلى الأمور، حتى في أبسط أشكالها، ولا يستطيع أن يراها ويفهمها على حقيقتها، لأن الحواجز العقلية الوهمية التي أحالت بينه وبين فهمه لكتابه، تحاول باللاوعي عنده أن تحول بينه وبين رؤية واقعه على حقيقته.
لقد اقتنع إلى حد التسليم بأن للأمور، مهما كانت واضحة، خفاياها وبأنه عاجز بإمكانياته البسيطة عن استيضاحها.
الرجل الذي لا يستطيع أن يفهم لغته لن يستطيع أن يفهم واقعه، وبالتالي لن يستطيع اطلاقا أن يتفاعل مع ذلك الواقع بطريقة إيجابية ومنتجة.
ولهذا لم تقف شرذمة “الفقهاء” بينه وبين لغته وحسب، وإنما وقفت سدا منيعا بينه وبين فهمه للحياة والتفاعل مع تلك الحياة.
………………….
يقول بوذا في أحد تعاليمه: لا تسمع إلاّ ما تسمع، ولا ترَ إلا ما ترى!
لقد جاء بوذا قبل محمد بآلاف السنين، لكنه كان يدرك يومها أحدث ما يدركه اليوم علماء النفس والسلوك، كان يُدرك بأن البرمجة العقلية للإنسان تقف بين عينيه وما يرى وبين أذنيه وما يسمع، فأوعز إلى أتباعه أن يروا بتجرّد وأن يسمعوا بتجرّد.
علّق أحد ضحايا “القرآن” على مقالتي الأخيرة في الحوار المتمدن مدافعا عن سيّده البيانوني تحت عنوان “حفدة القردة والخنازير”، بمايلي:
صدق قرآننا حين وصف أولئك الجماعة بحفدة القردة والخنازير وسنضم طائفتك العلوية إلى عبدة القردة والخنازير وبالسيف والرمح سنحرر دمشق وحلب من العلويين. فضيلة المراقب العام المحامي الأستاذ علي صدر الدين البيانوني لايرد على سفاهات الكتاتيب ولاكبارهم فهو الكبير دائما. لقد ألبى في الجاد في سبيل الله وأما السيدة سلطان فقد أـبلت في خدمة الطائفة النصيرية المتآمرة مع الغرب. قاتل الله النصيرية وأراحنا منهم. إخواني اصبروا فإن موعدكم الجنة. زموعد الكافرة الرافضة النصيرية سلطان هو النار وعذاب جهنم. لا إله إلا الله ومحمد عبده ورسوله. سبحان الذي يعطي والذي يأخذ وأرجو من كل الشرفاء محاربة الطائفية النصيرية أينما رأيتمونها على وجه الأرض. والصلاة والسلام على نبينا نبي الهدى محمد صلي الله عليه وآله وصحبه وسلمز
لو لم يُبرمج الإسلام أتباعه بطريقة حدّية لا تسمح لهم أن يروا أو يسمعوا إلا وفق تلك البرمجة، لما وقف هذا الحقد الدفين بين عيونهم وبين ما أكتب، بين آذانهم وبين ما أقول!
علويتي لم تكن خياري، وليست عيبا يستدعي أن أتسول رضى الآخرين كي يتستروا على ذلك العيب!
من خلال علومي وتجاربي أدرك بأنني امرأة بلغت مرحلة النضج العقلي.
لا يستطيع الإنسان أن يبلغ مرحلة النضج العقلي إلاّ عندما تصل ثقته بنفسه حدا لا يحتاج عنده أن يُرضي الغير على حساب رصيدة المعرفي والأخلاقي.
لا يهمني أن أرضي الغير على حساب أرصدتي، وخصوصا عندما يكون ذلك الغير مفلسا فكريّا وأخلاقيا وأكون قادرة على إعادة تمويله!
لأنني أرى بتجرّد وأسمع بتجرّدـ إلتزاما بمبدأ بوذاـ لم أر في تعليق ذلك الرجل سوى حالة الإحباط النفسي التي وصل إليها، والتي نجمت عن إفتقاره لحجة الإقناع.
وجد نفسه في مواجهتي مجردا حتى من قشة يتعلق بها فراح يشتمني ويهددني!
منذ أن قطع محمّد رأس كعب بن أشرف وفسخ أمّ قرفة وغرز السيف في صدر عصماء بنت مروان وهي ترضع طفلها، منذ أن فعل ذلك جرّد أتباعه من قوّة المنطق وحجّة الإقناع!
في تصريح له حول شريط بن لادن الذي أصدرته القاعدة مؤخرا، قال السيّد المتحدث الرسمي باسم المجلس الأعلى للأمن القومي في البيت الأبيض، قال: ماجاء في شريط السيد بن لادن يدّل على حالة العزلة والإحباط النفسي التي يعيشها منذ أن وقف العالم متحديا لإيدولوجيته في الأعوام الأخيرة، ولذلك لن نقيم للشريط وزنا!
ولنفس السبب لن اُقيم لتعليق ذلك المسكين وأمثاله وزنا!
……….
نعم أرى بتجرّد وأسمع بتجرّد، وهذا سرّ سعادتي وقدرتي على الإستمرار في العطاء.
قبل حوالي ثلاثين عاما، وكنت يومها صبية غرّة أقل علما وتجربة، سمعت قولا لإسحق رابين عقب لقائه بالسادات استحوذ انتباهي، رغم البرمجة العقلية التي كانت تمنعني يومها من أن أهضم ما يقوله عدوي، قال:
“علينا أن ننزع الملح من الماء والرمل من الصحراء والحقد من النفوس”
لم اسمع في حياتي حاكما مسلما يعترف بمسؤلياته ويقترب في أخلاقياته من هذا القول ولو ميلا!
هذا من جهة ومن جهة أخرى تمنع البرمجة العقلية الرجل المسلم من أن يعي ما يقوله عدوه، ناهيك عن أن يتعلم من قوله!
مازال حديث محمد عن شجرة الغرقد التي سيختبئ وراءها اليهودي خوفا من أن يقتله المسلم يقف حائلا بين عيني المسلم وأذنيه من جهة وبين قول رابين من جهة أخرى.
مازال حديث محمد عن أمته التي ستنقسم إلى ثلاث وسبعين فرقة واحدة فقط في الجنة والباقون في النار يقف حائلا بين عيني المسلم وأذنيه من جهة وبين كتاباتي من جهة أخرى، ولذلك لا يستطيع أن يرى في تلك الكتابات سوى إنتمائي الطائفي الذي لا حول لي به ولا قوة!
كيف نعتبر محمد مرسلا من الله، ولا نعتبر بوذا هو ذاك الله؟!!
ألا يجسد قوله: “لا تسمع إلا ما تسمع ولا ترَ إلا ماترى” سرا من أسرار الله في خلقه؟!!
كيف يعرف رجل جاء قبل كل هذه الأديان التي يسمونها “سماوية” سر الخالق لو لم يكن هو صاحب ذلك السرّ؟!!
يذكر توفيق الحكيم في إحدى كتاباته بأنه رأى رجلا روسيّا عقب الحرب العالمية الثانية يقرأ في كتاب لفيلسوف ألماني، وكان الروس يومها قد دفعوا ضريبة تلك الحرب ما يزيد عن خمسين مليون ضحية، فسأله:
كيف تقرأ كتابا لألماني وأنت روسيّ، ألا تكرهون الألمان؟!!
فردّ الرجل الروسي: قد نكره الألمان، ولكننا لا نكره ثقافتهم فثقافة كل شعب هي ملك للجميع!
عندما يتمكن الإنسان من أن يرتقي بروحانيته إلى المستوى الذي لا يرى فيه إلا ما يرى ولا يسمع إلا ما يسمع يكون قد اقترب من الله، أو ربّما قد توحد فيه!
أرفض أن أعتبر بوذا.. رابين.. توفيق الحكيم أو الرجل الروسي مجرد أنبياء، لأنهم قد توحدوافي الله!
كل عبارة جميلة هي موحاة من الله!
عندما يتجاوز المسلمون حدود برمجتهم العقلية ويعون ما قاله عدوهم، فينزعون الملح من الماء والرمل من الصحراء والحقد من النفوس، سيكونون في مستوى مواجهة ذلك العدو!
هل بإمكاننا أن نتصور ولو لبضع دقائق لو أن محمدا قد أتى برسالة لا تشمل في طياتها سوى عبارة رابين، بمعنى أنه لو قال لأتباعه: “جئت إليكم لأحضّكم على أن تنزعوا الملح من مياهكم والرمل من صحرائكم والحقد من نفوسكم”، هل بإمكاننا أن نتخيل عندها وضع العالم الإسلامي الذي نعيش به اليوم؟!!
……………….
يقول المثل العربي: عدو متعلم خير من صديق جاهل!
ولكن الآية التي تقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ
تمنع المسلم من أن يستفيد من علم عدوه أو أن يعترف بجهل نفسه، ولذلك تصحرت أرضه وتملحت مياهه وطغى الحقد في قلبه حتى حرقه!
عندما انسحبت اسرائيل من غزة في أيلول عام 2005 ترك المستوطنون اليهود وراءهم حوالي 3000 مما يُطلق عليه بالـ Greenhouses والمعدة لزراعة الأزهار والخضروات وحمايتها من تبدلات الطقس. لقد تبرع بثمن تلك البيوت بعض اليهود الأمريكان شرط أن يتركها أصحابها للفلسطينين كي يستفيدوا منها. رئيس البنك العالمي يومها السيّد James Wolfensohn ساهم من جيبه الخاص بمبلغ نصف مليون دولار. غار الفلسطينيون على تلك البيوت وأحالوها قفرا في يوم واحد، نهبوا ما نهبوا وحطّموا ما تبقى!
اقرأ النبأ مقرونا بالصورة على هذا الرابط:
http://www.msnbc.msn.com/id/9331863/

وهذا ما حدث بالضبط عندما جلت القوات الفرنسية عن الأراضي السورية عام 1947. كانوا قد خلفوا وراءهم محطّات للسكك الحديديّة، فهجم السوريون عليها وأحالوها في يوم واحد خرابا. لسبب ما بقيت محطة قطار حلب سليمة، وما زالت شاهدا حيّاعلى فشل الحكومات الوطنيّة المتلاحقة في بناء مثيلا لها.
ويبقى السؤال: من يستطيع أن يعيد لتلك القطعان الضالة صوابها، ما داموا يقرأون في تاريخهم الإسلامي كيف غار محمد على بني النضير وحرق نخيلهم عن بكرة أبيه؟!!
………………….
تصلني من الرفاق “أهل الكافيار” رسائل كثيرة شديدة اللهجة تحاول بلا جدوى أن تدافع عن الإسلام بطريقة لا تتعارض مع ماركسيتهم، تتدّعي تلك الرسائل بأن جميع الأديان التي يعتبرونها “سماوية” تحضّ على الإرهاب بشكل أو بآخر.
قد يكون في قولهم بعض الصحة، لكن لا يختلف اثنان على أن مساحة الحرية الموجودة في الديانة المسيحية قد أطلقت العنان للكثير من أتباعها كي يتجاوزوا حدود برمجتهم الدينية ويحلقوا بإبداعهم، ولا ينتابني أدنى شك من أنه يوجد في الديانة اليهودية مساحة من الحرية، مهما كانت ضئيلة، سمحت للكثير من أتباعها بأن يتجاوزوا حدود تلك البرمجة!
لولم يستطع كارول ماركس وسالك وفرويد وانشتاين وغيرهم من علماء اليهود أن يتحركوا بحرية خارج حدود برمجتهم الدينية لما توصلوا بالبشرية إلى تلك الدرجة من الإنجاز والتقدم، ولو استطاع المسلمون أن يفعلوا ذلك لما كانت إنجازاتهم أقل شأنا!
لو لم يكن الأمر كذلك، كيف نفسر حصول أكثر من مائة وثلاثين عالما يهوديا على جائزة نوبل وهم أقل من 0.02% من سكان العالم، بينما لم يعثر عليها أكثر من ستة مسلمين ـ مع الأخذ بعين الإعتبار أن العالم ياسر عرفات واحد منهم (!!!) ـ وهم يشكّلون الـ 20% من سكان العالم.
كلنا سمعنا عن يهود في العالم تمرّدوا على دينهم وهم يستنكرون مواقف اسرائيل وينددون بالتعصب اليهودي، هؤلاء اليهود يعيشون في اسرائيل بأمان وسلام ولم أسمع في حياتي بأن حاخاما يهوديا قد أهدر دم أحد منهم، ألا يبرهن ذلك على وجود تلك المساحة من الحرية في ديانتهم التي أشرت إليها؟!!
لو خاف هؤلاء المتمردين على حياتهم من يهودي متعصب واحد لفروا من اسرائيل فراريَ من “الأسد”؟!!
هل يستطيع أحد منكم أن يتخيل وفاء سلطان تمشي بحرية في أزقة خان الخليلي أو سوق الحمدية؟!!
قصّت لي صديقة يهودية كيف كانت تمشي في أحد شوارع اسرائيل عندما تقدم منها رجل يبدو من زيه أنه من اليهود الأرثوذكس وبصق في وجهها لأنها كانت ترتدي قميصا سافرا.
سألتها: كيف تتعاملون مع هذا النوع من العبيد؟! ردت: نضربهم بأحذيتنا وهم قلة قليلة، لقد خلعته على ظهره بفردة حذائي، لكنه فرّ هاربا ولو أصابت رأسه لأفقدته وعيه!
كم مرّة هبط القرضاوي بالمرأة إلى مستوى البهيمة، هل تتجرأ امرأة مسلمة على خلعه بفردة حذاء؟!!
كيف نواجه تلك الحقائق ونصرّ على أن الديانتين توأمان لبويضة واحدة؟!!
اعترضت في إحدى مقالاتي على الآية التي تقول:(وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)
فتلقيت إثر نشرها رسالة من رجل سعودي تتجاوز الأربعة صفحات. تحوي الصفحة الأولى كلّ ما يوجد في قاموسه من شتائم، بينما تشرح الثانية بالتفصيل كيف سيقليني الله ويشويني في ناره وكلما نضج جلدي سيبدله بجلد آخر، علما بأن ذنبي الوحيد كان أنني فندّت اتهامهم لله بالمكر ودافعت عنه. المهم حاول في الصفحة الثانية والثالثة أن يُثبت جهلي بالإسلام ويشرح المناسبة التي نزلت بها تلك الآية محاولا أن يبرر أمرا ترفضه الأخلاق للغاية!
تذكرت وأنا أقرأ هذيانه ما قاله الفيلسوف الرومان Cicero، والذي ولد قبل المسيح بحوالي مائتي عام، قال: “مهما كان الأمر مرفوضا يستطيع الدين أن يبرره”.
هل هناك أمر مرفوض أخلاقيا أكثر من أن نتّهم الله بأنه يمكر وبأنه خير الماكرين؟!!
أتفق مع الجميع بأن اليهودية تبررـ كما يفعل الإسلام ـ أمورا مرفوضة للغاية، ولكن تختلف عن الإسلام في أنها لا تحكم بالقتل على من يتمرّد على تبريراتها.
هذا تماما ما قصدته بمساحة الحرية المتواجدة في تلك الديانة والتي سمحت للكثير من أتباعها أن يفلتوا من مدارها.
لو توفر للمسلمين تلك المساحة، مهما كانت ضئيلة، لكان حال المسلمين اليوم كحال اليهود إن لم يكن أفضل.
قد يكون مقبولا أن تبرر أبشع الأمور بما فيها اتهام الله بالمكر، ولكن ليس مقبولا أن تحكم عليّ بالقتل إذا رفضت تبريراتك!
عندما أقام الرئيس الإيراني أحمدي نجاد مؤتمرا لتكريم من ينكر الهولوكوست، استقبل في قصره مجموعة من الحاخامات اليهودية وقلدهم أوسمة. تلك المجموعة تعيش في اسرائيل وعادت لتوها إلى بيوتها دون إحساس بالخوف على حياتها، هل تستطيع أن تتصور أنه بإمكان وفاء سلطان أن تعيش في بلد اسلامي بحرية ودون أدنى إحساس بالخوف على حياتها؟!!
هذا هو الفرق بين اليهودية والإسلام، وهذا الفرق كاف لأن يجعلهما دينين مختلفين مهما التقيا في تبريراتهما لأمور يرفضها العقل والمنطق والأخلاق.
………..
لا يستطيع الشر أن ينتصر إلاّ إذا رفضنا أن نواجهه.
يقول المفكر الأمريكي Thomas Penn: إذا كان ولا بدَّ للشر من أن يقع فليقع في زمني، لأنني أريد أن يعيش أولادي بسلام.
لو قرر سلفنا الطالح أن يواجه شرّ زمانه لما ورثناه، ولما كانت حياتنا اليوم جحيما.
لذلك قررت أن أواجهه رغم خطورة المواجهة، أملا في أن تعيش أجيالنا القادمة بسلام.
…………………
أعزائي القرّاء:
“أودّ أن أختم كتابي بقول رائع لكاتب مجهول:
كن حذرا من أفكارك قد تصبح كلمات…
كن حذرا من كلماتك قد تصبح أفعال…
كن حذرا من أفعالك قد تصبح أنت..
كن حذرا من شخصك قد يُصبح قدرك…”
لقد تحولت أفكار محمد إلى قرآن، وصار ذلك القرآن أفعال المسلم، ثمّ صارت أفعاله هويته، وبالتالي قادته هويته إلى قدره!
قدر المسلم هو اللحظة التي يعيش بها الآن، فهل هو راض عن قدره؟!!
محمد آتاكم بكتاب لا تستطيع حتى وفاء سلطان أن تفهمه، أما وفاء سلطان فآتتكم بكتاب يستطيع حتى الأمي أن يفهمه!
هذا هو البيان، وهنا يكمن إعجازي!

About وفاء سلطان

طبيبة نفس وكاتبة سورية
This entry was posted in الأدب والفن, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.