مولانا التيس

بلال فضل

يستميت أنصار تيارات الشعارات الإسلامية منذ وصولهم إلى الحكم فى إكساب قادتهم وشيوخهم حصانة ضد النقد اللاذع العنيف، وبعد أن كانوا قبل وصولهم إلى الحكم يروون قصصا لاحصر لها عن سعة الصدر والحلم والتحمل والتصدق بالأعراض والإحتساب عند الله، أصبحوا فجأة لا يروون إلا المرويات التى تحض على ضرورة التأدب مع الكبراء والعلماء وتحذر من غضب الحليم وتدعو الحاكم إلى أن يكون قويا عنيفا مع معارضيه، ولأنه لا أحد يقرأ فى أمة (إقرأ) يختار هؤلاء من التراث العربى الإسلامى مايروق لهم فقط وما يخدم توجهاتهم وشعاراتهم فيقدمونه للناس على أنه الوجه الوحيد للتراث، لأنهم يعلمون أن مايعيشه الناس من بؤس ومعاناة لن يمنحهم الوقت ولا الجهد اللازمين لتصفح كتب التراث العربى الإسلامى والإطلاع على مدى الإنفتاح المذهل الذى تقدمه وتخطيها للخطوط الحمراء التى يتم فرضها فى هذا الزمن لتحريم السخرية من كل صاحب سلطة لمجرد أنه يمتلك لحية.

 لا أريد أن أكرر ما سبق أن قلته فى مقال سابق نشرته فى (المعصرة) بعنوان (ألا ليت اللحى كانت حشيشا)، فقط أشير اليوم إلى كتاب مهم وجميل يحمل عنوان (التدين والنفاق بلسان القط والفأر) للشيخ بهاء الدين العاملى، صدر عن دار رياض الريس عام 1996 بعد ترجمته عن الفارسية لأول مرة وتحقيقه على يد المحقق دلال عباس. كان الشيخ العاملى ظاهرة فكرية وثقافية فى عصره (القرن الحادى عشر الهجري)، فبرغم أنه برع فى الرياضيات وعلم الجبر إلا أنه درس الشريعة والفقه والأدب والفلسفة ووصل إلى منصب رئاسة العلماء فى إيران، وحرص على طلب العلم فى مصر والقدس ودمشق وحلب، وكما كان كشكولا فى العلوم والمواهب فقد اشتهر أيضا بكتابه (الكشكول) الذى هجا فيه فساد زمانه قائلا «فسد الزمان وأهله وتصدر للتدريس من قل علمه وكثر جهله، وانحطت رتبة العلم وأصحابه، واندرست مراسمه بين طلابه».

 وضع العاملى فى كتابه حوارا بين قط وفأر عن التدين والنفاق «لكى ينتقد أنصاف المتعلمين من رجال الدين الذين وقفوا عند ظاهر النص وأعرضوا عما هو جوهر الإسلام، علمهم قليل، وقلوبهم خالية من العرفان، وإدعاؤهم أكبر من علمهم، يستغلون منصبهم ومعرفتهم من أجل مآربهم الخاصة»، ويحرص على أن يقدم رؤية مركبة بعيدة عن أحكام «الأبيض والأسود»، فمثلما ينتقد الفقهاء لبعدهم عن التصوف والزهد، يشن فى ذات الوقت حملة عنيفة على أدعياء التصوف الذين غلبوا الطريقة على الحقيقة، ربما لأنه كان يعيش فى عصر مضطرب خرج فيه الناس عن حدود الإعتدال، ولذلك فقد ترفع البهائى عن التعصب وانتقد أخطاء الجميع دون إستثناء، ولم يكتف فقط بإنتقاد العلماء الذين بالغوا فى مظاهر التعظيم لأنفسهم، وكانوا لايخرجون إلا فى مواكب شبيهة بمواكب الملوك، فقد بدأ بنفسه حين ألزمها بالطواف على أحياء الفقراء يوميا، يدخل أكواخهم ويطلع على أحوالهم، ويروى أن الشاه عباس انتقده فى ذلك قائلا «سمعت أن أحد كبار العلماء يكون مع الفقراء والأراذل فى أكواخهم وهذا أمر غير لائق»، فأجابه الشيخ بنبرة تحدى مهذبة: «هذا الأمر غير صحيح، فأنا كثيرا ما أكون فى تلك الاماكن ولم يحدث أن رأيت أحدا من كبار العلماء هناك»، وكانت النتيجة أن أثر الشيخ بموقفه هذا على الشاه فصار يخرج إلى الأسواق والأحياء الشعبية متنكرا ليطلع على أوضاع الرعية ويعمد إلى تخفيف الضرائب عن كواهل الناس ويسأل الرعية عن ولاتهم.

 فى مقطع مهم من الكتاب يفقد القط صبره من جهل الفأر فيطلب منه أن «يبيع أذن الحمار التى يسمع بها ويشترى أذنا جديدة، لأن ما سأقوله لك لا تعيه أذن الحمار» ثم يلقى عليه موعظة يصفها بأنها ستعيد صياغة مستقبل الفأر لو عمل بها، وبعد أن ينتهى من إلقاء الموعظة على الفأر يسأله: ماذا تقول أيها الفأر بعد كل ماسمعت؟، فيقول الفأر: الوقت ضيق الآن وقد حان وقت الصلاة، فلنذهب لنصلى ونستطيع أن نتابع الحديث فى وقت آخر إذا أمد الله فى عمرنا، وهنا يأتى رد القط ساحقا ماحقا إذ يقول للفأر: إن للصلاة شروطا كثيرة من أهمها الوحدة والإخلاص والبعد عن العناد والحسد، والتوجه بقلب طاهر ونية سليمة إلى الحضرة القدسية، وليس كمثل ذلك التركى الذى بكى بين يدى الواعظ. قال الفأر: كيف كان ذلك؟، قال القط: ذُكر أن تركيا مر قرب مسجد فى أحد أحياء المدينة فسمع واعظا يلقى موعظته، فدخل التركى المسجد، وجلس بين الناس، والواعظ يلقى موعظة يعجز عن فهمها طلاب العلم، فكيف بالتركي؟، ومع ذلك أخذ التركى يبكى بصوت مسموع، فانتبه الناس عند ذلك إلى حالته واستفسروا منه عن سبب بكائه، قال: أيها الأخوة، أملك فى قريتى قطيع ماعز، وفى هذا القطيع كبش أحبه حبا جما، ولى فى هذه المدينة مدة، لم أر ذلك التيس، وعندما رأيت الواعظ الآن، ذكرتنى لحيته وهى تهتز بلحية الكبش الذى أفتقده كثيرا، ولهذا السبب غلب عليّ البكاء. وبعد هذه الحكاية يلخص القط الحكمة التى يريد أن يوصلها للفأر عندما يقول له: «أيها الفأر لا قيمة لعمل يقوم به الإنسان وهو غير عالم بحقيقته».

 إن أعجبك مارواه الشيخ بهاء الدين العاملى بلسان القط والفأر فقل لي: بالله عليك لماذا يغضب أنصار تيارات الشعارات الإسلامية عندما نقول أن من يصرون على السير فى القطيع حتى وإن إنحرف قائده يذكروننا بالخرفان والتيوس، إن لم يكونوا أضلّ.

 * نقلا عن “الشروق” المصرية

This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.