من محمد الإيمان إلى محمد التاريخ -1

مقدّمة

“في القرن الـ 20، على فقهاء الإسلام أن ينجزوا مهمة أخرى: عليهم تقليد العمل الذي أنجزته أوربا في القرن الـ 19، بفضل اللاهوت العلمي، ليرفعوا بذلك مستوى الفكر الديني، لجعله متفقاً مع المعرفة التاريخية”.

(المستشرق المجري جولد زيهير)

*****

هدف هذا البحث، القصير، كبير: انتزاع نبي الإسلام من التخاريف وإعادته إلى التاريخ.

عبر القرون، تكونت لنبي الإسلام 3 صور:صورة الرسول المبلغ الأمين لرسالة الله عبر جبريل؛صورة المفتري،الذي يدعي النبوة،التي حصرتها التوراة في ذرية اسحاق، والحال أنه من ذرية إسماعيل، إذن هو طريد منها؛صورة الزعيم الماكر الذي أراد الرئاسة وجمع المال؛وهذا ما لخصه المعري:

أفيقوا، أفيقوا يا غُواة فإنما / ديانتكم مكر من القدماء

أرادوا بها جمع الحطام فأدركوا /وماتوا وبادت سنة اللؤماء

هذه الصور التقليدية الثلاث لمحمد مغلوطة، وأحد أهدافي من هذا البحث هو تصحيحها،على ضوء المعارف النفسية،لتقديم صورته الحقيقية،التي تجعله لا يختلف عن جميع أسلافة وأخلافه من الأنبياء، من أنبياء معبد عشتار، في القرن 7 ق.م.، إلى أنبياء ساحل العاج وافريقيا وأمريكا اللاتينية،في القرن العشرين، مروراً بأنبياء إسرائيل. فهم يشتركون جميعاً في كثير من الخصائص النفسية والأعراض السريرية الأساسية خاصة:”هذيان النبوة”،كما يسميه الطب النفسي.

الذهنية العتيقة،ذهنية التقديس الساذج لنبي الإسلام، السائدة إلى اليوم ،لم تعد ملائمة للذهنية الحديثة النقدية.التقبل الأعمى لكل ما ترويه السيرة من معجزات محمد، ينبغي أن يُخلّي مكانه للإرتياب،للبحث والتنقيب؛ لإكتشاق أن التصديق بهذه المأثورات هو من تأثير الإنبهار الأعمى بها، واستقالة الفكر النقدي أمامها، اللذين يُلغيان كل مسافة نقدية منها.حتى المؤمنون يليق بهم منذ اليوم أن يجددوا أُسس إيمانهم؛الباحث المؤمن عليه أن يفصل بين الباحث والمؤمن فيه.كي لا يطغى الثاني على الأول.هذا الفصل الضروري متواتر جداً عند الباحثين اليهود والمسيحيين المؤمنين،فضلاً عن باحثي الأديان غير التوحيدية.فلماذا يبقى الإسلام متخلفاً عن الأديان الأخرى في هذا المجال؟.

لماذا؟فتش عن العلمانية،التي تغلغلت في الوعي الجمعي حتى للمؤمنين بهذه الأديان،التي ُأصلحت وُكيفتّ مع متطلبات الحياة والعقل؛لذلك لم يعد يشعر المؤمنون بها،بأنها تتنافى مع عقائدهم الدينية الإنتقائية.قلما يتبنى المثقف،وحتى المتعلم منهم،دينه ككل،ككتلة صماء.بل ينتقي منه ما يلائمه. إنه هو الذي يملك دينه،ويتصرف فيه تصرف المالك في ملكه.في الإسلام،الذي لم يُصلح بعد،العكس!.

لهذه الغاية نزّلت بحثي عن محمد التاريخ،من الزاوية النفسية،في مناخ الحقبة التي نعيش.من عقاب الذات الآثم، أن نتقاعس عن دراسة محمد بالمعارف العلمية المتاحة اليوم،مثلما دُرس أنبياء اليهودية والمسيحية، مثلاً ولازالوا يُدرسون بها.كل بحث جدي، يستمد شرعيته من روح الحقبة وممارساتها وكشوفاتها المعرفية.فلماذا يبقى نبي الإسلام مغبوناً بين الأنبياء؟ لا يحتل إلا مكاناً ثانوياً جداً في الدراسات العلمية، وتقريباً لا شيء في الدراسات النفسية!.

استشهدت في: “إصلاح الإسلام بدراسته وتدريسه بعلوم الأديان”، بكتاب أستاذ تاريخ الأديان المقارن بالكوليج دو فرانس، طوماس كرومور في كتابه: “موسى الذي عرفه يهوه وجهاً لوجه”، بأن موسى، مؤسس اليهودية، الذي جاء ذكره في القرآن 136 مرة، شخصية رمزية. كتب كرومير: “قصة ميلاد موسى تشبه عن قرب قصة ميلاد الملك الأسطوري الآشوري، سارجون. الإثنان لا يعرفان أبيهما؛ أمهاتهما أخفتهما أول الأمر ثم ألقتهما في نهر. الإثنان وضعا في صندوق طُلي بالقار. كلاهما عثر عليهما وتبناهما فاعلا خير. هذا التبني شرعن ملكية سارجون وأدخل موسى إلى بلاط فرعون (…) قصة سارجون كتبت على أكثر تقدير في القرن 8 ق. م. تاريخ موسى الأول لا يمكن إذن أن يكون متقدماً عن هذه الحقبة. بالمثل، أصدر البابا، بنوا 16 ،سنة 2007 كتابه “يسوع الناصري”، استعار فيه من الإخصائيين في “مسيح التاريخ” بعض العناصر، اللواتي كفرهم الفاتيكان في القرن الـ 19 بسببها، مثل أن المسيح،لم يلقب نفسه في حياته بـ”المسيح”،اي الممسوح بالزيت المقدس بما هو “المشيح” العبري، أو المهدي المنتظر،الذي بشرت به التوراة؛ولم يسمي نفسه”سينيور”،أي السيد أو الرب؛ولم يقل أنه”ابن الله”.هذه العناصر القليلة من مسيح التاريخ تقوض اللاهوت الكاثوليكي القرووسطي من أساسه.فكيف سيكون الحال،لو أن بابا آخر يذهب في الشجاعة شوطاً أبعد،متبنياً جميع حقائق البحث عن مسيح التاريخ،من نفي الحبل بلا دنس،والولادة العذرية إلى القيامة؟صحيح،أن البابا بنوا 16،وقّع كتابه باسمه كأستاذ جامعي باحث، جوزيف راستينجر،ولم يوقعه باسمه كبابا،حتى لا يتحول إلى وثيقة رسمية ملزمة لجميع الكاثوليك. لكن ذلك مجرد احتياط بروتوكولي،لا يغير من جوهر اعترافه.فهل سيتشجع شيخ الأزهر يوماً،ويعترف ببعض عناصر محمد التاريخ،كما هم في هذا الكتاب؟ربما.ولكن ربما ليس غداً.

من أهداف هذا البحث أيضاً، سد هذا الفراغ الذي أعاق حتى الآن نزع الأسطرة عن النبي الوحيد، محمد،الذي لا شك في وجوده كشخصية تاريخية،عكساً لكبار الأنبياء السابقين،الذين بدأ يتضح أكثر فأكثر،عبر البحث التاريخي والأركيولوجي، منذ كتاب فرويد:موسى والتوحيد،أن بعضهم على الأقل شخصيات رمزية أكثر مما هم شخصيات تاريخية.

ماذا عسى أن تقدم علوم الأديان الحديثة عن محمد؟

رحلة البحث عن محمد التاريخ تهدف إلى العثور،وراء محمد الإفتراضي، كما تقدمه السيرة،على محمد الحقيقي بمقاييس علوم الأديان المعاصرة.طبعاً الرحلة ليست سهلة وليست مأمونة.لكن لا بديل عنها، للعثور على محمد كما عاش في التاريخ،أو على الأقل ـ في بعض جوانبه ـ كما كان يمكن أن يعيش، في مكة والمدينة من سنة 570(؟) إلى 632.

أحياناً تقدم علوم الأديان،عن الأديان ومؤسسيها،حججاً مقنعة، وأحياناً أخرى تقدم لنا فقط شبكة من المؤشرات المتضافرة لترجيح فرضية على أخرى؛وفي كلا الحالين لا غنى عنها.عدم استخدامها يجعل الباحثين في كل واد يهيمون ويهرفون بما لا يعرفون، مثلما هي الحال اليوم، كثيراً وغالباً، في الكتابات عن فجر الإسلام ونبي الإسلام، التي يكثر تفصيلها ويقل تحصيلها.

لماذا فكرت في كتابة هذا البحث عن محمد؟

لأسباب عدة منها مثلاً ،أن ما سأكتبته عنه لم يكتب من قبل على حد علمي، بل لم أقرأ شيئاً عن نبي آخر كُتب عنه بها؛وأيضاً لأن أمة حية هي امة متعطشة لمعرفة الماضي، ولتحويل الحاضر، لإعطاء معنى للمستقبل.ومنها أيضاً أن فرضيات وحقائق هذا البحث، تركتها اعواماً تنضج في رأسي، قبل إقتراحها على الجمهور عشية رحيلي؛عسى أن تكون خير هدية وداع.

وأيضاً لكسر محرم غليظ:هو هذا الإجماع المريب والمخيف حول شخصية محمد، التي لا يجوز مقاربتها نقدياً، حتى همساً.تماماً كما كان البدائيون يعتبرون الـ”فيتيش”،أو الصنم،هو إلاههم المتجسد الذي لا يرقى إليه الهمس؛ويحكمون بالموت على كل من يدنسه، بكلمة أو بفعل يشكك في قداسته.كذلك فعل ـ وللأسف مازالوا يفعلون ـ المسلمون بـ”صنميهما” نبي الإسلام وقرآنه، اللذين تنعقد أمامهما الألسن وتنشلّ العقول.هذا البحث هو نداء ملح للنقاش والتفكير فيهما معاً، بعلوم الحداثة.هذا الفعل التاريخي كفيل بفتح الإسلام على حضارة عصره، وأخيراً دمجه فيها،إنهاءاً لمنزلته الهامشية الحالية.لن نخرج من هذه المصيدة،إلا إذا تشجعنا ففتحنا ورشة للتفكير في محمد والقرآن،لكسر تحريم النقاش الحر والمتعارض فيهما. من دون ذلك سنبقى ندور حول أنفسنا،كبغل الطاحون المعصوب العينين،يدور حول نفسه وهو يظن انه يتقدم.وحده،هذا النقاش كفيل بأن يقودنا إلى تشخيص دقيق وعميق لأمراض الإسلام.التشخيص للمرض هو نصف العلاج.

معرفة شخصية محمد النفسية، على ضوء العلوم المعاصرة خاصة علوم النفس،يخدم هذه الغاية: جعْل القرآن لأول مرة قابلاً للفهم فهماً علمياً أي بما هو،في جزء منه، أعراض للأمراض النفسية، التي كابدها نبي الإسلام من المهد إلى اللحد. والحال أنه اليوم بالطلاسم أشبه.هذا وحده كاف ليعطي مبرراً لهذا البحث.

السعادة هي أيضاً لذة الإكتشاف،الذي يتجلى في شعور المرء، بأنه بعد بحث طويل قد وضع قدميه على الطريق،ورفع قليلاً الستار عن شخصية محمد النفسية،التي ظلت حتى الآن لغُزاً.هذا الاكتشاف قد يساهم في تغيير،لا فهم نبي الإسلام،ولا فهم القرآن والحديث، ولا حتى فهم الإسلام بما هو دين. بل قد يساهم أيضاً في تغيير الذهنية الإسلامية الخرافية السائدة، لدفعها إلى مزيد من التعقل، بل والعقلانية الدينية.هذه العقلانية هي نموذج التدين الوحيد الملائم للقرن الـ 21 ،الذي بات نفوراً من اللامعقول ،خاصة الهاذي، مثل اللامعقول الديني.هذه العقلانية ضرورية لفهم مؤسس الإسلام ونصه المؤسس.هذا الفهم العلمي هو الذي يُنير الطريق أمام الممارسة المعقولة ويمهد لظهور العقلانية الدينية،التي لا تقبل من الدين كل ما يتعارض مع قيم الحداثة الكونية، وحقائق العالم الذي نعيش فيه؛ويسمح أيضاً للمسلم بأن ينظر إلى نصه المؤسس بشكل مختلف؛وربما أدّى كل ذلك أخيراً ،مع عوامل أخرى تربوية،اقتصادية وسياسية واجتماعية،إلى تهميش التعصب الديني المستشري اليوم في المجتمعات الإسلامية، إستشراء السرطان في الجسد.

ولماذا أكتب هذا البحث؟

للقطيعة مع التفسير العامي،أي تفسير عامة المؤمنين، بمن فيهم قطاع من النخب التقليدية أو ذات الذهنية التقليدية،للنبوة لإدخال التفسير العلمي،الطبي النفسي، لها.مفهوم النبوة العامي بما هو”صوت من الغيب”،حامل لحقائق عابرة للتاريخ،أي صالحة لكل زمان ومكان،لا يستطيع العقل البشري إلا التقيّد بها وإلا ضاع وأضاع!.اما مفهوم النبوة العلمي، الطبي النفسي،فهو أن النبوة هي هذيان التأثير،أي هذيانات وهلاووس صادرة عن دماغ بشري مستوجب للعلاج.علماً بأن الشفاء من هذيان النبوة هو اليوم نسبياً في المتناول، خاصة إذا كان في بداية المرض.

هذا الفهم العامي للنبوة ترسخ في وعي،لا جمهور المسلمين فقط،بل وحتى في وعي قطاع واسع من النخب المسلمة. فشكّل، عند الجميع عائقاً دينياً وابستمولوجي مازالا يعيقان الانتقال من الفهم العامي إلى الفهم العلمي للنبوة.يقول فيلسوف العلوم ومؤرخها باشلار:”على الكيميائي[العلمي] أن يحارب في داخله الخيميائي[السحري]ليتغلب على العائق الابستمولوجي”،كذلك على الباحث المسلم أن يحارب في داخله المسلم المؤمن،إيمان العجائز، ليتغلب على العائق الديني، الذي يعيقه عن الوصول إلى التفسير العلمي للظاهرة الدينية، أو على الأقل إلى التسليم به.هذا التفسير العلمي للنبوة سيساعد، إذا عممه التعليم والإعلام والخطاب الديني المستنير،على ترشيد الخطاب الديني، بتنقيته من الهذيان الديني ،الذي جعل المسلم غارقاً حتى أذنيه في الفكر السحري، ومنتهكاً صفيقاً لمواثيق حقوق الإنسان؛ وتنقيته من المعجزات والخوارق والقضاء والقدر”المكتوب”، ومن الشريعة وحدودها الدموية والجهاد بما هو”قتل مقدس”،وكل ما يتحدى قوانين العقل وقوانين الطبيعة وقيم حقوق الإنسان الكونية، أي الصالحة لجميع الأمم،لأن الحق في الحياة وفي السلامة الجسدية وفي الحرية وفي الكرامة…حق مقدس لا تفريط فيه لكل إنسان.

تأخّر العالم الإسلامي التاريخي،يعود في جزء أساسي منه،إلى هذا الهذيان الديني، الذي غذّى على مر القرون التواكل [فاتاليزم] الإجتماعي والإرهاب الديني ـ السياسي. معيقاً هكذا الوعي الجمعي الإسلامي، بما فيه وعي قطاع من النخب، عن تبني العقلانية في العلوم والقيم، والبرجماتية في الاقتصاد والسياسة.العقلانية والبرجماتية هما اليوم رافعتا التقدم، والاندماج الضروري في العالم الذي نعيش فيه.

أبتغي من هذا البحث،في أرض بكر،فتح منظورات جديدة قد تساعد،من الزاوية النفسية،على فهم ظاهرة النبوة عامة ونبوة محمد خاصة.كما أبتغي أيضاً انقاذ محمد التاريخ من شانئيه، حقداً دينياً أو ايديولوجي عليه، ومن عابديه، طمعاً في شفاعته لهم يوم الحساب.إنقاذ محمد التاريخ من محمد الإيمان،بخطاب معرفي عن محمد، من خلال تحليل القرآن بعلوم النفس بما هو وثيقة طبية،وسيرة ذاتية ووثيقة تاريخية ذات مصداقية عالية.

أتوقع من تقدّم العلوم النفسية، في تشخيص الأمراض العقلية،أن يساعد باحثي الغد، على التمييز شبه الكامل للسيرة الحقيقية لنبي الإسلام، من السيرة التخييلية، التي نسجتها له رغبات المؤمنين وتخييلاتهم الجامحة،الميالة للإرتفاع بالأسلاف إلى مرتبة المثال،بل إلى مصاف الكائنات الفوق ـ طبيعية.لأن ذلك يرضي نرجسيتهم الجمعية الدينية، ويعطيهم خاصة تعويضاً وعزاء عن الذات الفردية والجمعية، المنطرحة أرضاً، منذ سقطوا في الإنحطاط،الذي بدأت بعض البلدان رحلة الخروج منه،مثل تركيا الكمالية،منذ إلغاء الخلافة في 1923،وتونس البورقيبية،منذ إصدار مجلة الأحوال الشخصية في 1956،التي حررت المرأة من رق قانون الأحوال الشخصية الشرعي،كبداية جدية على طريق إصلاح الإسلام.

“كيف ترقى رقيّك الأنبياء / يا سماء ما طاولتها سماء”

(البوصيري)؛

أو

“ولد الهدى فالكائنات ضياء / وفم الزمان تبسم وثناء

(أحمد شوقي).

وهكذا فالرواية التي تقدمها السيرة،التي يلخصها هذان البيتان أفضل تلخيص، هي في مجملها ميتاتاريخ.الميتاتاريخ تخضع التاريخ لحتمية لا تاريخية،أي للتدخل الرباني في التاريخ،هذا التدخل الإلهي الذي يرفع الأسلاف إلى مصاف الأبطال، إلى أنصاف آلهة ،منزهين عن الوقوع في الخطأ والخطيئة.وهذا ما فعلوه بمحمد من المهد إلى اللحد،بل منذ أن كان جنيناً في رحم أمه! .هذه الرواية ارتفعت به، من شرطه البشري، إلى مقام المختارين، الذين رصدتهم الأقدار لتحمّل رسالة النبوة، حتى قبل أن يعلن هو نفسه نبياً. فهي إذن أبعد ما تكون عن التاريخ،أي الوقائع التي وقعت فعلاً أو كان يمكن منطقياً ان تقع.

محمد ليس إستثناء لشخصيات تاريخية أخرى؛بوذا أيضا،كان في بدايته شخصية تاريخية.لكن الميتاتاريخ،التي تتطلبها دائماً النرجسية الجمعية،سرعان ما حولته إلى شخصية أسطورية:عُلوقه في رحم أمه وحمله كانا بمعجزة.وولادته كانت عذرية. كما سيكون ُعلوق وحمل وولادة عيسى بعده بـ 650 عاما!يبدو أن الأسطرة هي قدر كثير من الشخصيات التاريخية، خاصة الأنبياء.

مراجعي، العلمية والدينية، لهذا البحث مبثوثة في ثناياه.لكن المرجع الأول هو القرآن،في قراءة غير مسبوقة، بما هو سيرة ذاتية لنبي الإسلام.وقد استخدمته أيضاً كوثيقة طبية لتشخيص هذياناته وهلوساته وحالاته النفسية.القرآن هو لاشعور محمد، وهو ايضا ضميره الأخلاقي القاسي والخاصي.لا شعور العصابي مغطى بمحدلة الكبت،لذلك يحتاج محلله النفساني إلى أحلامه، لفكّ شفرتها، للوصول عبرها إلى مكونات ومكنون شخصيته النفسية.أما لا شعور الذهاني وضميره الأخلاقي فهما عاريان لا يحتاجان لفك أي رموز مستعصية.

القرآن هو لا شعور محمد،بكل متشابهاته،والتباساته وتناقضاته الوجدانية،وتقلبه من النقيض إلى النقيض،من التسيير إلى التخيير،من الضمير الأخلاقي الجائر في مكة،إلى الضمير الأخلاقي الغائب في المدينة.من نبي وشاعر في مكة إلى مشرع ومحارب في المدينة.لا نستطيع الدخول إلى أدغال الشخصية النفسية المحمدية إلا عبر 6236 آية.

رحلة شاقة وممتعة في آن.الممتع فيها على نحو خاص، هو لذة الإكتشاف.كشف الغطاء عن جذور مآسي حاضرنا في أحافير ماضينا،في طوايا وخبايا تراثنا،في 6236 آية وآلاف الأحاديث”الصحيحة”، تراثنا الذي لم نتشجع حتى الآن على تصفية الحساب معه؛ لم نقطع معه حبل السرة،هذه القطيعه التي هي رمز التحرر من عوائقه الدينية.

كما لا يستطيع الفرد أن يصبح فرداً إلا إذا قطع حبل السرة مع عائلته،المشتقة من عال يعول، أي جار وبغى، وهذا بالنسبة لي تجربة معاشة،دشنتها بهجرتي من تونس في 10/01/1961 ،هجرتي التي كانت تاريخ ميلادي الثاني؛كذلك لا تستطيع أمة أن تصبح أمة حديثة إلا إذا قطعت حبل السرة مع ماضيها المكبّل لإبداعها،وهذا في حالة الأمم الإسلامية حقيقة تفقأ العيون!.

من خلال القرآن،بإمكان كل باحث جدير بهذا الاسم،أن يزيح ركام الخرافات، التى راكمتها السيرة والمتكلمون والمفسرون،رداً على نصارى بلاد الشام ،منذ القرن 8،الذين عقّدوهم بالسؤال المحرج: كيف يكون محمد نبياً وهو بلا معجزات؟رداً عصابياً على هذا الإحراج، اختلقوا أطناناً من المعجزات والخوارق،بدأت منذ كان محمد جنيناً في رحم آمنة الوثنية:بل وحتى قبل خلق العالم” أخذ الله قبضة من نوره وقال لها كوني محمد” كما يقول حديث؛ويوم ميلاده تزلزل عرش كسرى وقيصر و”طلع نجم أحمد”، كبشارة على أن نبياً جديداً قد وُلد؛ونسبوا لأمه،آمنة،أنها قالت:”(…) لإبني هذا لشأن (…):حملت به، فما حملت حملاً قط أخف منه، فرأيت في النوم، حين حملت به، كانه خرج مني نور أضاءت له قصور الشام.ثم وقع حين ولدتُه وقوعاً ما يقعه المولود:معتمداً على يديه رافعاً رأسه إلى السماء(…)”(1). هذيان مستوفى الشروط !.

نبي الإسلام لم يتردد في التصريح بأن أمه وأباه وكل أعضاء عائلته،الذين لم يؤمنوا به، في النار. فكيف يكونون قد اكتشفوا باكراً نبوته، أو على الأقل بركته، ومع ذلك فضلوا الكفر على الإيمان والنار على الجنة؟!.

القرآن وثيقة طبية صادقة عن نفسية نبي الإسلام،أشبه ما يكون باعترافات روسو،كشف فيه حتى لحظات شكوكه المتكررة في إيمانه برسالته، وعن ضيق صدره بالقرآن:”فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك،وضائق به صدرك”(12 هود)؛بل وحتى نيته في”افتراء”قرآن آخر، على غرار الآيات الشيطانية، طمعاً في استرضاء مثقفي مكة، الذين طالما أحرجوه بسؤال المعجزة،عسى ان يستريح من شقاء العزلة النفسية، التي لا تلطف وقعها الأليم على نفسه الجريحة إلا الهلاوس؛إذ أن وظيفة الهلاوس هي تطمين المهلوس لتخفيف عزلته وقلقه.لذلك يكون انقطاعها،أي انقطاع الوحي،مصدر شقاء ما بعده شقاء له.إذ تتركه وجهاً لوجه مع عذابه النفسي،ومع العنف النفسي،الذي كان يكابده يومياً،بسبب استهزاء قريش به،كما سجل ذلك بنفسه في القرآن:”إذا رأوك،إن يتخذونك إلا هزوءاً:أهذا الذي بعث الله رسولاً؟!”(41 الفرقان)،:”فأغروا به سفهاءهم فكذبوه وآذوه،ورموه بالشعر والسحر والكهانة والجنون(…)[ذات مرة] أقبل [محمد] يمشي (…) فلما مر بهم طائفاً بالبيت غمزوه[=عيّروه] ببعض القول.فعرفت [=الراوي] ذلك في وجه رسول الله (ص)”(2).

وهذا ما يعطي اليوم القرآن مصداقية الوثيقة التي لا شك فيها، والصالحة لتكون مرجعاً لمعرفة ما مر به نبي الإسلام من حالات نفسية غالباً مريرة؛واستهزائهم بأصحابه،الذي ولا شك أثّر في معنوياتهم وأصابهم بالحزن والخوف:”إن الذين أجرموا،كانوا من الذين آمنوا يضحكون؛وإذا مروا بهم يتغامزون؛وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فاكهين؛وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون.”(29،30،31،32،المطففين)؛أو: “وأذكروا إذ أنتم قليل مسضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس(…)”(26 الأنفال).

القرآن وثيقة تاريخية أيضاً ذات مصداقية عالية؛فمن بين،مصاحف جامع صنعاء،التي أكتشفت في 1972 ،إثر تهدم سقف الجامع،عُثر على نسخة تعود إلى سنة 65 هجرية، لا تختلف عن نسخة عثمان المتداولة اليوم .وما يقال عن أن جمع عثمان للقرآن لم يكن نهائياً،بل جمعه بعده عبد الملك، وراجعه للمرة الأخيرة المهدي العباسي،هي فرضية ضعيفة.توجد احتمالية جدية في أن يكون عبد الملك قد جمع المصاحف المتداولة في خلافته،لكن لا ليعيد كتابتها،ولكن لينقطها ويشكلها، نظرأ إلى أن نصر بن حجاج قد اضاف،بأمر من الحجاج،التنقيط والتشكيل، اللذين لم يكونا موجودين في النسخة الأصلية. اما أن يكون المهدي قد راجعة للمرة الأخيرة،فهذا لا تشهد له مخطوطة 65 هجرية.طبعاً توجد شكوك واحتمالات قوية في أن يكون عثمان،الذي حاول تزوير آية”والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله”(34،التوبة)بحذف الواو العاطفة، لولا عتراض أُبي بن كعب، حسب رواية السيوطي في تفسيره،قد تلاعب بحذف ما لا يروق له من المصاحف، التي أحرقها، مثل مصحف أبي نفسه، ومصحف ابن مسعود، ومصحف علي ومصحف ابن عباس.يبدو أن عثمان لم يدخل في الإسلام اقتناعاً به؛أحد مؤشرات ذلك هو تخلفه،بلا عذر،عن أول غزوة مجهولة العواقب:بدر.بل دخل حباً في رقية، بنت محمد التي تزوجها.مصحف ابن عباس،بشهادة الطبري، عند تفسير آية نكاح المتعة:”فما استمتعتم به منهن فأتوهن أجورهن فريضة”(24 النساء)،يقدم رواية أخرى مختلفة للآية، تبيح نكاح المتعة،أي الدعارة الشرعية،التي كانت شائعة في المعابد الوثنية في بابل وآشور وأثينا والهند وفي مكة نفسها.فالكعبة كانت ماخوراً(انظر كتاب الأصنام للكلبي).

يؤكد الطبري أن الآية في مصحف ابن عباس هي”فما استمتعتم به منهن ـ إلى أجل مسمى ـ فأتوهن أجورهن فريضة”؛لكن الطبري يضيف: لا نستطيع العمل بهذه الآية، لأن مصحف اين عباس لم يصلنا. طبعاً لأن عثمان أحرقه.يروي الطبري عن الإمام علي،الذي قال آسفاً:”لولا أن عمر نهى عنه[= نكاح المتعة]ما زنى إلا شقي”.وبإختصار، يبدو أن قرار،عمر نسخ آية نكاح المتعة،في خلافته، قد تبناه عثمان. بالرغم من كل شيء،سواء بزيادة بعض الآيات أو حذف البعض، يبقى القرآن إذن سيرة ذاتية لمحمد ووثيقة طبية ووثيقة تاريخية ذات مصداقية عالية.

أتمنى أن يساهم هذا البحث في وضع اللبنات الأولى، لتدارك النقص الفادح في دراسة شخصية نبي الإسلام النفسية من جميع جوانبها، ولتحليل النبوة تحليلاً طبياً نفسياً.طبعاً فهم النبوة علميا، ليس مضاداً لفهم المؤمنين لها على طريقتهم الخاصة،شرط عدم السقوط في التعصب والعنف الشرعي،والنكوص إلى اللّامعقول الديني المعادي للمجتمع،مثل عداء المرأة،وغير المسلم،وتكفير العقل والعلم،الذي تجاوزته البشرية المتحضرة منذ زمن بعيد: هكذا يصبح محمد التاريخ،أو القريب من الحقيقة التاريخية، في متناول أجيالنا الصاعدة، التي يفيدها كثيراً أن تعرف تاريخها على حقيقته، لتتعامل معه بالعلم،لا بالفانتازم.ليكون لها ينبوعاً لمعرفة تاريخها وتاريخ تشكّل وعيها الجمعي،وليس مجرد ملاذ بائس من بؤس حاضرها وانسداد آفاق مستقبلها. وكما قال الزهاوي:

أإذا كان حاضرنا شقياً / نسود لكون ماضينا سعيدا؟!.

لأول مرة،على الأقل من الزاوية النفسية،ستكون بين أيدي الباحثين محاولة علمية تحمل نظرة نقدية محايدة للموضوع المدروس،في موضوع بالغ الحساسية مثل نبي الإسلام.وهكذا يمكن أن تقدم للقارئ والباحث قدراً أكبر من المعطيات، ومن المعرفة الموضوعية، بعيداً عن القدح والمدح؛الموتور دينياً أو فكروياً من محمد والمؤمن،إيمان العجائز الساذج به، لا يريان فيه إلا ما يريدان أن يريا، قبل أي فحص موضوعي:”وعين الرضا عن كل عيب كليلة /كما أن عين السخط تبدي المساويا”. الأول لا يرى فيه إلا القائد العسكري أو رجل الدولة الماكر، الذي أراد توحيد عرب شبه الجزيرة في دولة عربية، تدين لها الأعراب”وتدفع لها العجم الجزية”،كما يقول حديث موضوع على الأرجح؛والثاني، المؤمن، لا يرى فيه إلا”الإنسان الكامل”،الذي أعدته العناية الإلهية، لختم النبوة و لتبليغ آخر الرسالات التوحيدية، التي صححت ـ وفي رواية أكثر تطرفاً نرجسياً ـ نسخت الرسالات التوحيدية السابقة لها،أي رمت جميع الأديان،التوحيدية والوثنية،إلى مزبلة التاريخ!.

العائق الإبستمولوجي الأول،الذي سأحاول عدم الوقوع فيه هو ادعاء الموضوعية الصارمة،الإدعاء بأن البحث في سيرة محمد موضوعي،لا ظل فيه للتحيز الذاتي اللاشعوري على الأقل،كاذب.الموضوعية غير متحققة بالكامل حتى في العلوم الطبيعية.أما في العلوم الإنسانية فهي صعبة المنال،خاصة في موضوع شائك كالدين.لكن مخاطر التحيز غير القصدي،مهما كانت جدية، لا ينبغي أن تُصيب العقل بالشلل، فيستقيل من مهمة الحفر والبحث الشاقة،مع الإضطلاع بإمكانية الخطأ.ذلك سيكون جريمة في حق المعرفة وفي حق البشرية،المعنية بترشيد الإسلام،عبر تنقيته من ثقافة العنف والتعصب والكراهية؛وإدخال البشرية كافة فيه.ليس بالتبشير السلمي،فهذا حق من حقوق الإنسان،بل بجهاد الطلب،أي فتح العالم كله لأسلمته!.

كل شمعة تضاء في ليل الثقافة العربية، تفتح نافذة فُرص أمام أجيال الغد،التي لها علينا حق أن نترك لها معالم، تساعدها على فهم تاريخها الديني والسياسي، عسى أن يساعدها ذلك على العيش في بلدان تطيب فيها الحياة.النقيض المباشر لهذه البلدان، التي تكتوي فيها اليوم أجيالنا بنار التعصب الديني والفوضى الخلاقة للفوضى الدامية،وفتاوى القتل،أو الإيعاز به.

قارئان سيتأكدان من هذه النظرة،المحايدة لمحمد التاريخ:القارئ الخبير والقارئ النابه.وإليهما كتبت هذا البحث، الذي كشف عن جوانب من الحقيقة:حقيقة نبي الإسلام؛عسى أن يساعدهما على المضي قُدماً لكشف جوانب أخرى من حقيقة أوسع وأعمق برسم الاكتشاف،سواء في شخصية نبي الإسلام أو في شخصيات خلفائه الراشدين،وخاصة عمر.الذي هو المؤسس الحقيقي للإسلام، مثلما كان بولص هو المؤسس الحقيقي للمسيحية.عمر نشر الإسلام، خارج شبه الجزيرة العربية، بالسيف. أما بولص فقد نشر المسيحية،خارج فلسطين،ببناء الكنائس.

كلمة حق لابد منها في حق المستشرقين،لتفنيد التشنيع بهم الشائع لدى مثقفي الإسلام التقليدي وأقصى اليمين الإسلامي،ورثاء الإنغلاق الديني الحنبلي،الذي حرّم منذ 8 قرون تدريس “العلوم اليونانية الدخيلة”عن القرآن والسنة، بما هما شرطان ضروريان وكافيان لفوز المسلم بالسعادة في الدارين!في نظرهم، المستشرقون هم ورثاء”العلوم الدخيلة”المعاصرة،التي يعتبرها أقصى اليمين التقليدي و الإسلامي علوماً دخيلة،بل هي في نظره أشد خطراً على الإسلام من العلوم الدخيلة القديمة.المستشرقون عندهم،هم طابور خامس في حرب”الغزو الفكري”على الإسلام. والحال أن المستشرق يقدم خدمة جليلة بدراسته القرآن وصاحب القرآن،على ضوء العلوم الحديثة،خاصة الفيلولوجيا[= علم تاريخي موضوعه دراسة معرفة الحضارات الماضية عبر الوثائق المكتوبة، التي تركتها وقد دُرس بها العهد القديم]،بعيداً عن الهم الجدالي القديم.

وقد ارتكب إدوارد سعيد خطأ تاريخياً فادحاً وربما مغرضاً،عندما اعتبر المستشرقين،عدا قلة منهم جاك بيرك، طابوراً خامساً لجيوش الفتوحات الإستعمارية،مقدماً بذلك خدمة مجانية لأقصى اليمين الإسلامي، الحساس، حتى الرهاب، لمقاربة تاريخ الإسلام بالعلوم الحديثة،التي يحرمها ويجرمها.

الطريقة التاريخية النقدية الإستشراقية،هي التي درسوا بها تراثهم وبعض تراث الإسلام في القرن الـ19 ،والتي أنتجت لاهوت يهودياً ـ مسيحياً مستنيراً .

كان المستشرقون يعملون على ظهور لاهوت إسلامي مستنير،على صورة الاهوت اليهودي ـ المسيحي المستنير، يرفع من مستوى الفكر الديني الإسلامي، ليتطابق مع معارف العصر العقلانية والعلمية؛كانوا يطمحون لمساعدة المثقفين المسلمين، على الإنتهاء من طريقة التقريض العقيمة، التي يكتب بها المؤمنون للمؤمنين،والتي كانت غالبية المثقفين المسلمين ـ وإلى حد كبير مازالوا ـ يقاربون بها تراثنا الديني بمنطق:ليس في الإمكان أبدع مما كان!.

الطريقة الإستشراقية التاريخية النقدية،أثرت في النخب الثقافية العربية والإسلامية في القرن الـ 20 ،الذين حاولوا،بنجاح متفاوت،انتاج لاهوت إسلامي مستنير ورؤية لتاريخ الإسلام مختلفة عن الرؤية التقريضية التقليدية العقيمة؛ مثلاً طبق طه حسين،بإحتشام أحياناً،هذه الطريقة التاريخية النقدية خاصة في كتابيه:في الشعر الجاهلي والفتنة الكبرى؛وطبقها منصور فهمي في رسالته الجامعية عن المرأة:”أحوال المرأة في الإسلام”؛وطبقها أحمد أمين في ثلاثيته:فجر ،وظهر،وضحى الإسلام؛وطبقها الدوري في دراساته عن تاريخ الإسلام وفي كتابه”علم التاريخ”(3)؛وطبقها لويس عوض في اسهاماته المتعددة وخاصة كتابه”فقه اللغة”الذي منعه الأزهر،وكتابه عن الأساطير الشعبية الهلالية؛وطبقها هشام جعيط: في الفتنة الكبرى…

ستكون ترجمة ما كتبه المستشرقون، وما قد يكتبونه عن القرآن وعن محمد وعن الإسلام إسهاماً أساسياً، في فهم القرآن ومحمد والإسلام فهماً تاريخياً،يقطع مع التمجيد الورع(بكسر الراء) السائد في الكتابة، عن هذه الموضوعات،اليوم،والذي يكثر غثّه ويقل سمينه.

لولا أمثال نولدكه،وبلاشير،واط،رودينسون،لكي أكتفي بأشهر الكلاسكيين،لبقي القرآن ونبيه لُغزاً. بالرغم من أنه مازالت توجد 3 كتب، بالألمانية عن محمد تعود إلى القرن 19، لم تترجم بعد؛لولا الدراسات السياسية والسسيولوجية، الغربية المعاصرة، لظاهرة الإسلام السياسي،وخاصة لأقصى يمينه،لما استطاعت غالبية النخب، في ارض الإسلام ،مقاربة الظاهرة وتحليلها.تحليلات أمثال جيل كيبال وجان بييار فيليو،وغيرهما من الخبراء الأوربيين والأنجلو سكسانيين،تشكل مصدراً ثميناً لفهم الظاهرة الإسلاموية في كثير من جوانبها.والحال أن بعض ما كتب عنها بالعربية لا يستحق حتى عناء القراءة.

وكيف ننسى عشرات الأسماء الأخرى،التي ألقت إضاءات علمية ثمينة على الإسلام وتاريخه وشخصياته؛وفضلاً عن ذلك كوّنوا أجيالاً من الجامعيين المستنيرين في ارض الإسلام.من هؤلاء المعلمين الكبار أذكر، عفو الخاطر، جولد زيهير،الذي حلل تفاسير القرآن بالمفاهيم العلمية الحديثة، وبلاشير،الذي قدم أول ـ وللآسف ـ آخر ترجمة فيلولوجية للقرآن،وماسنيون،أهم وأول من عرّف الإسلام الصوفي بكتابه”صلب الحلاج”،فضلاً عن اضاءاته الأخرى التي سلطها على الفن الإسلامي والمنطق الإسلامي والنحو العربي؛وجيب،قد يكون أول من أكتشف عجز المثقف العربي عن الكتابة بالمفاهيم العقلانية،الوحيدة المنتجة للعقلانية الفلسفية والعلمية وللأخلاق النفعية.لكنه فسر ذلك بخاصية الفكر السامي التذريري، أي العاجز عن السانتاز.لكنه في نظري عائد بالأحرى إلى تأثير القرآن الذي يغيب فيه الرابط المنطقي بين السور والآيات.فضلاً عن رمزية الله،الفعال لما يريد،كيف يريد ومتى يريد. سلاحه الوحيد هو الفكر السحري:”إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له: كن فيكون”(82 ياسن)،أي إرغام الواقع على إعطاء نتائج مخالفة لقوانينه.هذا المناخ الديني مضاد للتطور العلمي؛ وآدم ميتز، الذي حلل في كتابه”الإمبراطورية العربية”،كيف أعاق الإستهلاك الترفي التبذيري للخلفاء مراكمة رأس المال وظهور اقتصاد منتج،وهنري كوربان،الذي حلل الفكر الشيعي على ضوء العلوم الحديثة، ولاووست،الذي قدم بتحليله لإبن تيمية نموذجاً للدراسة الحديثة للشخصيات الإسلامية،وكلود كاهان،الذي كان أول من حلل الأزمة المالية التي أدت إلى سقوط الخلافة الأموية، ولوي جارودي، الذي فسر كيف أن الفلاسفة العرب كانوا متكلمين،أكثر مما كانوا فلاسفة،والصديق جاك برك، الذي، فضلاً عن إسهاماته الثمينة الأخرى،قدم أول ترجمة أدبية للقرآن، مع مقدمة تحليلية،تقريضية إلى حد ما، إذ رأى في ورود فعل”يعقل”40 مرة في القرآن دليلاً على حثه على استخدام العقل، وتناسى مجاملة على الأرجح، كل الفكر الغيبي والسحري المبثوث في معظم آياته.لكنه قدّم في مدخله التحليلي ملاحظات فقهية وسسيولوجية وتاريخية مهمة؛(4) وشوراكي، الذي قدم ترجمة طريفة للقرآن أعادت مصطلحاته الدينية إلى أصلها التوراتي،وفان إس، الذي نفضَ نقدياً الغبار على مكاسب العقلانية الإعتزالية وثغراتها،وبرنارد لويس،الذي قدم مقاربة نقدية ثرية للإسلام والناطقين المعاصرين بإسمه،جدير بكل مسلم،ناضج لتقبل النقد بصدر رحب وممارسة النقد الذاتي بشجاعة،أن يستفيد منها للإفلات من مصيدة النرجسية الدينية المنغلقة على نفسها، والتي أدخلت الإسلام في الإنحطاط ،والتي مازالت تلحق بصورة الإسلام،في مرآة الرأي العام العالمي،وبمصالح المسلمين أذى بليغاً.

هدف هذا البحث ليس مسح طاولة الماضي لكتابة تاريخ بِكر.فعل صبياني!الحضارة مسار تراكمي ثقافي مديد.بدأ منذ بدأ أجدادنا القرود،بعد أن انتصبوا على ارجلهم،محررين هكذا قوائمهم الأمامية ومحولينها إلى ايدي،ستتفرغ شيئاً فشيئاً إلى العمل اليدوي، إلى نحت الصوان.ونعرف من تاريخ التطور ان العمل اليدوي والفكر الرمزي[=الفكر السحري،ثم الفكر الأسطوري ثم الفكر الديني]، هما اللذين حولا القرد إلى إنسان.منذ بدأ يصنع أدوات الصوان إلى أن انتهى،على مسار التطور اللانهائي، إلى صنع الكمبيوتر.الطور الأخير من تطور القرد إلى بشر بدأ، يوم شرع القرد ـ البشر يعبد موتاه،أي يدفنهم تحضيراً لإنتقالهم إلى عالم آخر،كما تؤكد الإنثروبولوجيا.

مطلوبي، من استعادة نبي الإسلام من الأسطورة إلى التاريخ، هو تدشين تصورات جديدة لتاريخ الإسلام،تحرر عقولنا ومخيلاتنا من الرق النفسي لأساطير الماضي،بتحليلها علمياً، لفهمها بما هي أساطير مؤسسة،جديرة بالإحترام الواجب للأساطير المؤسسة،ولكن ليست حقائق تاريخية أو أوامر ونواهي إلاهية؛إذا إلتزمنا بها،رغم تناقضها مع متطلبات عصرنا،فزنا في الدارين، أو على الأقل في الدار الآخرة، وإذا خالفناها،لأن حقائق العالم الذي نعيش فيه تفرض ذلك،بؤنا بالخسران المبين في الدارين، أو على الأقل في الدار الآخرة،التي هي خير وأبقى:أما الدار الدنيا”فمتاع الغرور”!.

من حق”المسلم الحزين”،كما سماه حسين أحمد أمين،أن يُنهي حداده طامحاً،كمعظم معاصريه،في أن يكون سعيداً هنا والآن؛وأن يتصرف بحرية في جسده لتحريره من ملكية الله ـ ألم يفتى[للتذكير لا أجزم بلم لحاجة العربية إلى الحروف الصوتية الفقيرة فيها] الشيخ الشعراوي بحرمة نقل الكلى من شخص إلى آخر، لأن جسده ليس ملكاً له بل ملك لله؟!،وملكية ظلال الله على الأرض:العائلة و المجتمع التقليديين والدولة الدينية؛وأن يعترف له هذا الثالوث المخيف بحقه في تقرير مصيره في حياته اليومية،وبجميع حقوقه التي اعترفت له بها وثائق حقوق الإنسان؛وبحقه في انتقاء ما شاء من دينه وطرح ما لا يرضيه منه؛وبحقه في تعليم ينمّي فكره النقدي ويعلمه التجديد العلمي والتكنولوجي،الذي لا مستقبل لأمة معاصرة من دونه،بصرف النظر عن محرمات دينه المتقادمة.

احترام الماضي؟نعم.لكن شرط ألا يكون عائقاً لبناء الحاضر وتحضير المستقبل؛التراث يجب أن نجعل منه،كما تتطلب منا الحداثة وعلومها، رأس مال رمزي برسم البحث والإكتشاف. نتأوّله تأويلات شتى تخدم حاضرنا بتكييفها مع العقلانية الدينية،وننسخ منه كل ما يشكل عائقاً، دينياً أو ذهنياً ،يمنعنا من أن نكون معاصرين لمعاصرينا،لا أن نحوله إلى قيد على عقولنا،أي إلى عقيدة جامدة يحكم بها الأموات من وراء قبورهم حياة الأحياء،كما تريد القراءة الحرفية له!.

يجب،مرة وإلى الأبد، أن نكّف عن كوننا كائنات تراثية لنصبح، من الآن فصاعداً، كائنات لها تراث، تحررت من رقه النفسي،فغدت قادرة على دراسته و تدريسه بعلوم عصرها لتعرفه على حقيقته التاريخية، وتتعرّف خاصة على استمرارية عوائقه الدينية والذهنية في ممارستنا الدينية والدنيوية.هذه الممارسات التي جعلتنا، لا أفراداً مبدعين لأنماط حياتنا، بل قروداً مقلدين لأسلافنا،منبتّين من حاضرنا وصماً وعمياناً عن مستقبلنا هنا والآن،الذي يجب أن نضحي به على مذبح مستقبلنا بعد الموت!كأنما كُتب على المسلمين وحدهم، أن يدخلوا الجنة جياعاً وجهلة وأميين،لأنهم أساساً مازالوا يتناسلون كالأرانب؛مثلاً مصر تضاعف سكانها 4 مرات في 60 عاماً بدلاً من 4 مرات كل قرنين، وتضاعف معهم،بذات النسبة،الأمية،والمرض والفقر وسوء التعليم والجنوح والإرهاب وسوء صناعة القرار…

نكابد،وستكابد الأجيال التي لم تُولد بعد هذه الكوارث، لأن آية قرآنية تحرم علينا وعليهم، اعتماداً على القراءة الحرفية العقيمة لها، تحديد النسل:”ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق”(23 الإسراء).منع الحمل أو التخلص منه بالوسائل العلمية،لا علاقة له بوأد البنات أو بقتل الأطفال خشية الفقر!.

عندما قرر جمال عبد الناصر في بداية الستينات، في لحظة صحوة وعي نادرة، تحديد النسل، تقليداً للحبيب بورقيبة على الأرجح، الذي حدده منذ 1961.تصدى له شيخ الأزهر،شلتوت، بسلاح ضارب:ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق،نحن نرزقكم وإياهم”!وهكذا طُويت صفحة إصلاح ديموغرافي مهم وملح معاً تتجرع مصر اليوم عواقبه الوخيمة!.

نحن اليوم وجهاً لوجه أمام مشاكل مستقبلنا.فإما أن نحجب وجوهنا حتى لا ترى المخاطر الماثلة أمامنا.وإما أن نتشجع ونسمي هذه المخاطر بأسمائها، عسى أن نجد حلولاً لهن.بعد وقوفنا أمامهن عاجزين طوال قرنين.لأننا جَبُنا أمام فتح ورشة نقاشهن الحر والمتعارض.لماذا؟لأن السؤال في ثقافتنا الدينية محرم.لماذا أيضاً؟لأننا تعودنا على مر القرون مهادنة الواقع بدلاً من مجابهته،ومجاملة الجمهور بدلاً من مصادمته لتوعيته وتنويره،والمحافظة على استمرارية الماضي بدلاً من القطيعة معه. دفعتنا البارانويا الجمعية، إلى اتهام “المؤامرات”الخارجية بالمسؤولية عن جبننا، عن صناعة قرار شجاع، سياسي، اقتصادي وديني؛يكشف لنا أن مآسينا منا وإلينا، ولا أحد مسؤول عنها سوانا:وكما قال المتنبي:

نعيب زماننا والعيب فينا / وما لزماننا عيب سوانا!

حسبنا الآن أن نفتح ورشة نقاش هذه المآسي في المدرسة،في الجامعة،في الجامع وفي جميع منابر الإعلام… عسى أن نصل أخيراً إلى قرار صحي:يجعل من كل شيء علماً وتكنولوجيا، ومؤسسات ديمقراطية وقيماً إنسانية بدلاً”من كل شيء دين”السائد اليوم! الإسلام يحتاج إلى اصلاحات استراتيجية وليس إلى نصف إصلاح؛يحتاج إلى ثورة ثقافية برسم التدشين:تخرج المسلمين من إنحطاطهم الأخلاقي، المتجسد في تطبيق الحدود الشرعية الدموية، أو المطالبة بتطبيقها، تجعلهم يتبنون القيم الأساسية لحقوق الإنسان،والقانون الوضعي المشتق منها،وتخرج المسلمين من إنحطاطهم الإقتصادي، وتدخلهم إلى الحضارة الصناعية،وتجعلهم يتشربون ذهنيتها الحديثة، بالتنمية المستدامة، التي تحافظ على حقوق اجيال الغد في موارد وفيرة وبيئة نظيفة؛و تخرج المسلمين من إنحطاطهم السياسي، بإدخالهم مؤسسات الحداثة الديمقراطية والعلمانية إلى دولهم؛ تخرج المسلمين من إنحطاطهم الديني، بالفصل بين الدين والدولة والمؤمن والمواطن، محررين هكذا العقل البشري من وصاية العقل الإلهي،أي الأوامر والنواهي الدينية المتقادمة؛ وبإختصار، إعادة تأسيس ثقافية تخرج المسلمين من عجزهم عن معاصرة عصرهم مؤسساتيا وأخلاقياً وإقتصادياً وسياساً وسكانياً وعلمياً ودينياً، ما لم يُصلحوا دينهم، أي يعيدوا تأسيسه بإدخال العقلانية الدينية إليه، وإدخالها عبره، إلى مجتمعاتهم الغارقة في اللامعقول والخرافي إلى الأذنين،فسيظلون واقفين حيث هم الآن امام جميع المخاطر!.

هذه العملية الإصلاحية الشاملة طويلة ومؤلمة. ولكن لا بديل لها غير الغوص المتواصل، منذ قرون، في رمال الإنحطاط المتحركة. وقد لخص هيجل فلسفة التاريخ في جملة سديدة “لا ولادة عظيمة من دون ألم”: من دون إصلاح، ومن دون نقد ومن دون إعادة تأسيس، جارحة جميعاً لعبادة الأسلاف وللنرجسية الدينية الجمعية.لكن جروحها صحية.

المقاربة النقدية للتراث الإسلامي ورموزه، بعلوم الحداثة، هي الخطوة الأولى على الطريق المؤدية إلى هذه الولادة العظيمة والمؤلمة.

وها انا ذا أدشّنها بكل راحة ضمير، وبكل أمل في مستقبل باسم للعرب والمسلمين وللبشرية كلها.

في 1939، في مناخ عداء متصاعد واضح للسامية،إستأنف فرويد تفكيره في موسى والدين التوحيدي، كان مرض السرطان قد أثر فيه كثيراً.وهكذا أخذ كتابه مظهر وصيته الفكرية،معتذراً للمؤمنين بانتزاع موسى منهم وإعادته إلى أصله المصري.فكان كتابه حجر الأساس في الدراسات التطبيقية التاريخية المقارَنة لرموز التاريخ الديني. ولم يكن تخريفاً، كما وصمه بخفة هشام جعيط في كتابه عن محمد!

في بداية 2013، أنا أيضاً، وفي مناخ إسلاموفوبيا مخيف، أكتب هذا البحث عن محمد التاريخ، في مرضي الأخير بالسرطان، الذي أثّر، خاصة في الشهور الأخيرة، على جميع قواي عدا الفكرية، جاعلاً منه أيضاً وصيتي الفكرية للباحثين بعدي. عسى أن ينطلقوا منه نقدياً، لتوسيع، وتعميق، وتعميم الموضوعات الأساسية فيه، وفي إصلاح الإسلام، بدراسته وتدريسه بعلوم الأديان.سواء في رسائل جامعية أو في أبحاث ومقالات علمية على الشبكة العنكبوتية، وعلى الورق ما أمكن ذلك، لتأسيس دراسة رموز ديننا بالعلم، غير معتذر للمؤمنين،لأنني لم انتزع محمد منهم،بل من الميتاتاريخ لإعادته إلى التاريخ.

وكما قال أريطوطاليس، وهو يدشّن نقد معلِّمه أفلاطون: “أفلاطون حبيب إلينا، ولكنّ الحقيقة أحبّ إلينا منه”.

مراجع المقدمة

1 ـ سيرة ابن اسحق ص 102.

2 ـ مختصر سيرة ابن هشام، ص ص 47،46.

3 ـ تعرفت على د.عبد العزيز الدوري في 1969 ،عند ناشري د.بشير الداعوق في دار الطليعة.ومنذ أول لقاء تصادقنا. عندما قلت له: أراك خائفاً من الغوص في أعماق التراث. سأل: كيف؟ فقلت: “لماذا لم تقترب من محمد؟ سأكتب عنه كتاباً، ليس فيه من الدين إلا بسم الله الرحمن الرحيم، أما الباقي فسيكون كله علم”أجاب.لست أدري إن كان استطاع، أن يكتب أو ينشر هذا الكتاب في عمان، حيث كان يدرس في جامعتها، وحيث كان سيف الإخوان المسلمين مسلطاً على رقاب المثقفين النقديين. ذات يوم رآنا الأمين العام للجبهة الديمقراطية، نايف حواتمة، في صيف 1969 جالسين معاً في فندق الدوري. لم يقترب منا. ما إن إلتقينا بعد ذلك، حتى بادرني مستغرباً: “أتجلس مع عبد العزيز الدوري الرجعي؟”: “بل مع عبد العزيز الدوري المؤرخ”أجبت.الدوري هو تلميذ وصديق برنارد لويس.

بالمناسبة طلب مني بعض الأصدقاء الرد على تصريح نايف حواتمة لـ “لحوار المتمدن” القائل بأني عندما التحقت بالمقاومة في 1969، كنت ضد الكفاح المسلح. وهذا صحيح. فقد كنت ولا زلت اعتبر الكفاح المسلح نسخة حديثة من الجهاد القديم، الذي كان منذ القرن الـ 16، عندما امتلكت أوربا السلاح الناري، كارثة على المسلمين، لتجاهله موازين القوة واعتماده على الإستراتيجيا الدينية الإنتحارية: “الجهاد فرض للفوز بإحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة”.

هدف النضال السلمي، الذي كنت أنادي به، كان كسب الرأي العام الإسرائيلي لتسوية النزاع الفلسطيني ـ الإسرائيلي والعربي ـ الإسرائيلي، والكفاح المسلح، كان ولازال في نظري، ليس الطريق المؤدي إلى ذلك.لهذا السبب،حللت في كتاباتي في “الحياة” وفي حواراتي في “الجزيرة “مخاطر تحويل حماس، ومنافسَةً لها فتح،الإنتفاضة الثانية إلى عمليات انتحارية ضد المدنيين الإسرائيليين، بشعة أخلاقياً وكارثية عسكرياً وسياساً.وإني اليوم لسعيد، أن أرى أن لا أحد يطالب بالكفاح المسلح، حتى في صفوف حماس.لقد انتصر غاندي على ماو.

4 ـ قبل موته بأسابيع،أرسلت له رسالة ضمنتها تصحيح بعض الأخطاء في الترجمة،كما طلب مني ذلك،أذكر منها”ذروه في سنابله”(47 يوسف)فقد ترجمها بتشديد الراء،أي التذرية والحال أن المقصود هنا:دعوه في سنابله و”لمن جاء به حمل بعير”(72 يوسف)ترجمها:حمل عير أي حمار.والحال أن المقصود حمل جمل.

غالب الأخطاء،حوالي 30 ،ثانوية وناتجة غالباً عن خطأ في قراءة الكلمة.لست أدري إن كان استطاع تداركها في الطبعة التالية أم عاجله الموت؟.لكن “الإخوان”شنوا عليه في مصر حملة ضارية،متهمين إياه بتزوير القرآن،لمجرد أنه تبنى نظرية على عبد الرازق في كتابه”الإسلام وأصول الحكم” في أن الإسلام دين وليس دولة وأن محمد “ُمبلغ”،أي رسول، وليس”ُمسيطر” أي ملكاً.قاد الحملة محمد عمارة،الذي لا يعرف الفرنسية، على حد قول برك.

حلم لقائي بمحمد

في أواخر السنوات 1970، كنت أتردد بين حين وآخر على دروس الفيلسوف والمحلل النفسي، كاستوياديس. كنت أتدخل باستمرار في مناقشات أعمال طلبته،الذين كانوا يحُضّرون دبلوم مدرسة الدراسات العليا العملية.كانت تدخلاتي تستأثر باهتمامه نظراً لتعدد أعمال موضوعات طلبته.ذات يوم اقترحت عليه الجلوس في مقهى قريب من المعهد.خلال اللقاء سألته، إن كان بالإمكان أن يحللني رحب وحدد لي جلسة أولى،طالت على غير المعتاد.سألني ماذا تكتب؟:بحوثاً أجبت.فعلق: نفسيتك كان يمكن أن تكون مصدراً ثرياً للكتابة الأدبية، الرواية أو الشعر.قلت:الشعر حاولته مراهقاً وتوقفت.أقرأ الرواية،لكن كتابتها لا تغويني،فيبدو أني لست من أحفاد ألف ليلة وليلة.في النهاية قال لي:تحليلك قد يتطلب 5 أو 6 سنوات.سألته عن السعر قال:300 فرنك للجلسة.قلت له:دخلى الشهري 1000 فرنك. اندهش: وكيف تستطيع أن تعيش بهذا المبلغ؟:كمعظم عمال أجر الحد الأدنى وأأكل أحياناً في مطاعم الفقراء.قال:التحليل المجاني غير مثمر… واصل قراآتك النفسية،وأضاف مبتسماً:بإمكانك عمل تحليل ذاتي؛فرويد،في النهاية حلل نفسه؛ شخصياً،لست مقتنعاً كثيراً بجدوى ذلك، لأن التحويل، الضروري في العلاج،يغيب فيه.لكن شيء أحسن من لا شيء .

شرعت في تحليلي،عبر تسجيل أحلامي،بمجرد ان أستيقظ.

كنت منذ موت أبي، أحلم أسبوعياً به قادماً نحوي، على حماره الشهير، ووجهه أزرق،كما كان عندما مات مختنقاً، في سن الـ 49 عاماً،بعد اسبوع من دون علاج بمرض مجهول. كلما حاولت أن أسلّم عليه ينعقد لساني،كتعبير عن الشعور الساحق بالذنب،فيمر عليّ من دون أن ينظر إليّ.

في آخر تحليلي الذاتي،اختفى هذا الحلم الكئيب،وفي المقابل حلمت بنبي الإسلام يدخل فجأة في الأستوديو، ويعانقني ويقبلني من فمي كما كان أبي يفعل، وهو يلاعبني ،لما كنت طفلاً.اختفى حلم أبي وبعد ذلك عاد في التسعينات،مع أمي بعد موتها، ومسّدا ظهري الموجوع بالإنزلاق الغضروفي…

عادة في التحليل النفسي الناجح يتصالح الإبن مع الأب عبر شخصية محبوبة ترمز للأب:ملك أو رئيس…أنا تصالحت مع أبي ـ وأمي أيضاً ـ في شخص محمد!.

قصصت الحلم على كاستورياديس فكان رده:لا أستطيع إلا معاينة ذلك.

كنت أفكر في كتابة هذا الحلم في نهاية هذا البحث.لكن محللة نفسانية اقترحت عليّ أن يكون أول فقرة فيه.

الفصل الأول

طفولة محمد

“لا سبيل لفهم شخص من دون معرفة طفولته”

فرناند دُلينيى، عالج وعاش مع الأطفال الفصاميين.

*********

لا نكاد نجد في السيرة عن طفولة محمد، منذ زواج عبد الله بآمنة إلى عودته من مرضعته الأخيرة حليمة السعدية، إلا ميتاتاريخ، أي ـ كما يتطلب ذلك منطق النرجسية الدينية الجمعية ـ محاولة للإرتفاع به، من شرطه التاريخي، إلى مرتبة المثال البعيد المنال، إلى مرتبة” الإنسان الكامل”، الذي رصدته الأقدار ليكون نبي هذه الأمة، التي كرمها الله به لتكون آخر وخير أمة أخرجت للناس.

ماكسيم رودنسون محق، عندما يؤكد في كتابه عن محمد: “لو جمعنا كل ما هو تاريخ عن محمد لما تجاوز صفحة ونصف من كتاب.” أما الباقي فأساطير!، الميتاتاريخ هي الحفرة السوداء في السيرة. لكن لا ينبغي للباحث أن يلقي أمام المصاعب السلاح.

كما يحاول الأركيولوج، بمسعى حدسي، إعادة بناء إناء إنطلاقاً من شقفة، كذلك سنحاول نحن، بفضل حدوس وفرضيات والحقائق السيكلوجية، محاولة إعادة اكتشاف العوامل، التي أثرت في نفسية الطفل محمد، انطلاقاً من شقفة هنا وشقفة هناك،أي من الوقائع القليلة التي تركتها لنا السيرة. هذه الوقائع، التي غدا بإمكاننا اليوم، بفضل تقدم المعارف النفسية،أن نميز بها قليلاً أو كثيراً التاريخ من الميتاتاريخ،والمسكوت عنه خلف المتحدث فيه.

من الصعب فهم الشخصية النفسية لفرد، من دون معرفة العوامل التي ساهمت في صياغتها، خلال طفولته ومراهقته.والحال أن السيرة لا تذكر تقريباً شيئاً عن هاتين الفترتين، سوى المعجزات والخوارق التخييلية طبعاً.

“التطور النفسي للرضيع، المنُتزع بالولادة من النعيم النرجسي لحياته في الرحم،سيكون تحت رحمة نظرة أمه له.هذه النظرة هي أول تأكيد نرجسي، يتطلبه الطفل المحتاج إلى تأكيد نرجسي كامل،أي إلى حب غير مشروط ،حصري ولائق به، من الأم.(…)المرأة،التي يستطيع الطفل بواسطتها معرفة سلامته النرجسية، هي قبل كل شيء الوالدة، التي تؤكد نرجسية طفلها بحبها له. افتقاد الطفل، منذ الطفولة الباكرة، للتأكيد النرجسي يسبب له جرحاً نرجسياً، أي خصاء فعلياً وإذلالاً ما بعده إذلال، يعيده إلى حالة من العجز، سيكون تكرارها مؤذياً له. غياب التأكيد النرجسي، ستكون عاقبته أن الطفل لن يعود قادراً على قبول الترضيات النرجسية، ولا على السعي وراءها على نحو سديد وناجع” (رونيه دُنيس، النرجسية ص 90 دار نشر بوف).

العلاقة الباسمة مع وجه الأبوين، خاصة الأم، منذ الطفولة الباكره تقدم للطفل الحب والحنان والأمن. هذا الحب هو الذي سيساعده على تحقيق “الوثبة”، أي الإفلات من كماشة المحن، التي قد يقع فيها في مجرى حياته، بلا عقد أو جروح؛وتقيه من السقوط في الغيرة النرجسية،والثأر النرجسي، والسُعار النرجسي،والهذيان النرجسي،كمحاولات دفاعية لترميم ثقته الكسيرة بنفسه،التي هي مثل الزجاج كسرها لا يُجبر.

“الطفل في حاجة إلى عيني الأم”، كما يقول النفساني كوهوط. غياب هذا الحب، يترتب عنه، كما يقول أيضاً، ظهور ميلين متعارضين؛ أحدهما ينفي الآخر:مثلاً شعور بالعظمة الصبيانية،جنون العظمة المفصوم من شخصية نفسية مصابة في الصميم، بضعف تقدير الذات،وبالميل إلى الشعور بالعار والإكتئاب.

ماذا عسى أن تكون علاقة عيني آمنة بالطفل محمد؟ حتى نستطيع تخمين ذلك،لنتساءل أولاً عن الحالة النفسية لآمنة عندما حملت بمحمد:”حملته أمه وهناً على وهن”(14 لقمان)وهي تنتقل من ضعف إلى ضعف؛قد تكون هذه الآية صدى لذكرى بعيدة، للصورة، التي ترسبت في ذاكرة أو لا شعور الطفل محمد،من قصص أمه له عن متاعب شهور حمله، أو قصص الأسرة بعد موتها على مسمعه.

“مِلستر، كتبت بأن هؤلاء الأطفال الأوطيست(1)يولدون عموماً في فترة يكون فيها الأبوان منفصلين، أو غير متفقين،وهي مواقف تتجلى غالباً بإنهيار عصبي يصيب الأم”.(2)لا شك أن آمنة المراهقة،دون العشرين على الأرجح،كانت عندما مات زوجها،عبد الله،بعد أقل من عام من زواجهما في حالة انهيار عصبي.لا شك أيضاً انها كانت في حداد دائم على الزوج الفقيد، ومستقبلها كزوجة، الذي ضاع منها،في سن تكون فيها الرغبة الجنسية أقوى ما تكون،وعلى جنينها الذي سيعيش يتيماً في عائلة فقيرة.وأكثر من ذلك فقد تكون تشاءمت منه؛في القبائل العربية قديماً وحتى الآن،الطفل الذي يموت أبوه قبل ولادته يُدعى”أحرف”،أي مشؤوم ،ومن الممكن أن آمنة قد راودها هذا الهاجس؛عادة الأم، خاصة في مثل سن آمنة،تتمنى أن يكون مولودها البكر بنتاً،تحقيقاً لرغبة إعادة الإنتاج النرجسية.فإذا كان ذكراً كان، شعورياً أو لا شعورياً، طفلاً غير مرغوب فيه.فهل لهذا السبب سرعان ما تخلصت منه للمرضعات؟:أولاً لمولاة عمه الشهير أبو لهب،ثويبة، التي أعتقها أبو لهب عندما بشرته بميلاد ابن أخيه محمد،ثم لحليمة السعدية وربما أيضاً لآخريات.وهذه فرضية ليست مجانية تماماً. ففي حنين، قال مقاتلوا هوازن المهزومين، متسعطفين المسلمين،الذين كانوا يعاملونهم بفظاظة:”إن لصاحبكم فينا مراضع”؛هل مراضع هو جمع مبالغة، أم ان نساءً أخريات،في هوازن،غير حليمة أرضعنه أيضاً؟.

محمد كان كل شيء إلا طفلاً محبوباً.إذن سعيداً. لماذا؟قد لا يكون الطفل محمد ولد فصامياً،لكنه صار فصامياً.وبالتأكيد ولد مكتئباً؛لا شك أن آمنة كانت في انهيار عصبي ارتكاسي،تجسد في حالتها،في انهيار عصبي حدادي على فقد زوجها بعد أشهر من الزواج،ومن المرجح أن يكون انهيارها العصبي الحدادي طال أكثر من المعتاد،على غرار حداد الخنساء على صخر أخيها:

يذكّرني طلوع الشمس صخراً / وأذكره في كل غروب شمس،

ولولا كثرة الباكين حولي / على إخوانهم لقتلت نفسي!.

ولا شك أن حدادها تسلل إلى فصوص دماغ الجنين محمد؛مثلما تسللت إلي فصوص دماغه الضغوط النفسية،التوترات، والمخاوف، والهواجس، والفواجع، والكدمات والصدمات المتكررة، اللواتي كابدتهن آمنة وهي حامل.تأثير الحالة النفسية للأم ،على جنينها ،هي اليوم حقيقة بيولوجية أكدتها الملاحظة العلمية؛وهذا التأثير هيّأ الطفل محمد ليكون شخصية نفسية اكتئابية وفصامية.

لا شك أن صدمة فراق محمد منذ الأسابيع الأولى لأمه كانت عنيفة، ليسقط في أحضان مرضعات مأجورات،من الصعب تصور أنهن انحنين عليه ونظرن إليه،وهو يرضع،بعينين مبتسمتين، تبثان في عينيه رسالة حب امومي لا تُعوّض، ليشعر الرضيع بالأمن.

لماذا فراق الأم يشكل دائماً صدمة؟لأن الرضيع يتخيل نفسه، في الشهور الأولى، امتداداً بيولوجي لأمه.لذلك يبكي احتجاجاً على فراقها بمجرد أن تغادره بعد ارضاعه. مثلاً خلال السنة الأولى،يعي الطفل إهتمام وحب والديه له،لا بما هو واجب عليهما،بل لأنهما يرغبان في طفلهما.وهكذا يكتسب الطفل شعوراً قوياً بأنه محبوب وذو قيمة عند أبويه.مناخ الرضا،مناخ الأمن العاطفي يسمح للطفل باستدماج العالم الخارجي،وفي هذه الفترة تتكوّن شخصيته النفسية عبر هضم وتبني مواقف، ومشاعر والرموز اللفظية الصادرة عن الأم.إذا كان موقف الأبوين ،وخاصة الأم،غير مناسب تصبح علاقة الطفل مع محيطه العائلي مزيفة،منذ البداية،بفداحة الإحباط وغياب الحب.اتضح من البحوث النفسية، أن والدا الفصاميين،عاجزان عن تقديم علاقة عاطفية مستقرة ومنطقية مع طفلهما، خاصة في اللحظة التي تكون فيها هذه العلاقة أساسية، لتأمين إنسجام تكُوّن الشخصية النفسية. كما أثبتت الأبحاث النفسية عن أسر الفصاميين،أن دور الأبوين لم يكن على ما يرام:الأب غالباً ميت أو غائب، مستقيل أو سلبي.المقصود هنا هو الأب المربي وليس الأب البيولوجي طبعاً.

كيف عاملته المرضعات؟على الأرجح معاملة سيئة.نعرف اليوم كيف يعامل كثير من المربيات الأطفال معاملة قد تصل أحياناً إلى القتل.عن حالة محمد نملك مؤشراً قوياً على سوء هذه المعاملة؛في غزوة حنين أسّر المسلمون الشيماء وأساءوا معاملتها فقالت لهم:”تعلموا والله إني لأخت صاحبكم من الرضاعة، فلم يصدقوها، حتى أتوا بها رسول الله(ص)(…)فقالت:يا رسول الله اني أختك من الرضاعة.قال:ما علامة ذلك؟ قالت:عضة عضضتَها في ظهري وأنا متوركتك[=حاملة لك على وركي]فعرف العلامة (…)” خيّرها في أن تعود معه أو أن يمتعها ويعيدها إلى قومها.ففضلت أن يرجعها إلى قومها. (3)

واقع أن أخته من الرضاعة خرجت مع قبيلتها لمحاربته، وكاد أن يموت في هذه الحرب،مؤشر قوي على أن الطفل محمد لم يترك ذكرى طيبة، لا في عائلة مرضعته ولا في قبيلتها.الذكرى الوحيدة، التي احتفظت أخته له بها هي عضته،وهذا مؤشر إضافي على احتمالية هذه الفرضية.ونعرف من العضة، رغم صعوبة تصديق تفاصيلها،بقاء أثر عض طفل دون السنتين لأكثر من 50 عاماً، أنها كانت مؤلمة وأن الطفل محمد كان عدوانياً.في الواقع الإحباط العاطفي، الذي كابده الطفل محمد، والصدمات العنيفة، التي مر بها جنيناً ورضيعاً وطفلاً، تهيؤه للعدوانية:العداونية ضد الذات و العدوانية ضد الآخر.وسيمارس محمد النبي شاباً وكهلاً وشيخاً الإثنين معاً.

عدوانية الطفل محمد،لا شك أنها جلبت له مزيداً من عدوانية محيطه عليه.شيماء التي عضها محمد؛ ماذا كان رد فعلها؟ابتسمت له،قبلته،ضمته بحنان إلى صدرها؟احتمالية متدنية.الأرجح أنها ردت الفعل بعنف: ضربته أو دفعته بعيداً عنها،أو استنجدت بأمها طالبة القصاص منه.

نعرف من السيرة، أن لمحمد إخوة من الرضاعة. لكن يبدو أن لا أحد منهم قد فكر في زيارته، لا في مكة ولا خاصة في المدينة، عندما أصبح “ملكاً”، قادراً على تمتيعهم، كما متّع الشيماء في حنين. وهل شاركوا في هذه الحرب؟الإجابة الإفتراضية:أن محمد،الذي عرفوه طفلاً،لم يشجعهم على معاودة معرفته كبيراً.ذكَر ابن اسحق أخوين من الرضاعة، فضلاً عن الشيماء هما: عبدالله بن الحارث وأنيسة بنت الحارث، من دون أن يضيف أي خبر عنهما! وهذا مؤشر على أنهما لم يلتقيا بأخيهما، محمد النبي،ولا أقاما معه أية علاقة!.

من المرجح أن الطفل محمد كابد العدوانية من الأمهات اللواتي أرضعنه، ومن آباء وإخوان الرضاعة. والحال أن الرضيع يحتاج،في هذا الطور من تطوره النفسي،إلى إشباع واستقرار عاطفيين تحيطه بهما الأم، أو من يقوم مقامها،وهكذا افتقد محمد باكراً الأمن الداخلي والإستقرار العاطفي،مصدري الثقة بالنفس وإحترام الذات الضروريين، للخروج بأقل الخسائر من جراح الحياة.

طفلاً ومراهقاً، لا شك أنه شعر بالذل أي بالذنب من كونه يتيماً.وهو ما نجد صداه في القرآن: “ووجدك يتيماً فآوى”. المنّ عليه بالمأوى، قد يفيد أنه كان طريداً شريداً، خاصة بعدما آلت رئاسة العائلة إلى عمه وعدوه أبو لهب، فوفر له المأوى ربما عند خديجة.بعد أن كان يهيم مع روقة، وينام او ينامان معاً في غار حراء أو غيره من الغيران، على غرار ما كان يفعل بعض فقراء أنبياء إسرائيل حسب رواية الكتاب المقدس. مما أورثه الشعور بالهوان، الذي سيعبر عنه، يوم أُستقبل في الطائف شر استقبال، في الزفرة المؤثرة: “اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي وهواني على الناس”.

جفوة عاطفية من الأم ـ الأمهات أورثته عقدة هجران أمه له، رضيعاً وطفلاً. قطعت الروابط العاطفية معه، تاركة إيّاه وحيداً في عالم خطِر؛ الهجران بالعربية القديمة هو “التوديع”؛ الآية التي طمأنته بعد انقطاع الوحي: “ما ودعك ربك وما قلى” هي على الأرجح صدى لذكرى قديمة أليمة، هي توديع أمه وقلاها [= كراهيتها] له، إلى درجة فراقه السريع بإعطائه للمرضعات، كما لو كانت تريد التخلص من عبء ثقيل، أي من طفل لم ترغب فيه!.

كل ما اختلقته السيرة، من معجزات نسبتها لآمنة عن جنينها: “لم أحمل حملاً أخف منه (…)”، والحال أنه كان حملها الأول على الأرجح رغم ما يقال عن وجود إخوة له!، و “النور” الذي خرج منها عند حملها به، والذي أضاء قصور الشام،والتنبؤ بأنه سيكون له”شأن”…إلخ،هو لا شعورياً التوابل الضرورية لصناعة البطل،رجل الأقدار.بل وقد يكون محاولة شعورية لإخفاء المسكوت عنه:حقيقة أن آمنة لم ترغب في ابنها محمد؛كما تتضافر على ذلك قرائن عدة تشهد لها حقائق علم النفس.

“الأم التي لا تشعر أنها لا آمنة ولا سعيدة، عاجزة عن إعطاء رضيعها الشعور بالأمن؛ عندما يكون الرضيع قلقا قلقاً شديداً،ينمّي قلقه عنده حالة من اليأس”(4)والشعور بالذنب.هذه هي بذور الشخصية الإكتئابية طوال رحلة الجنين والرضيع والطفل محمد:”فترة الحزن والحداد[عند الرضيع] التي،وهذا ما أنا على يقين منه،تسبق وتُدخل دائماً القطيعة:قطيعة الذهاني الكاملة مع الواقع”(5). فترة الحزن والحداد عاشها الطفل محمد، في فراق أمه رضيعاً، وبعد موتها في سن 6 سنوات.ولا شك أنه كان موتاً فاجعاً بالنسبة لطفل:فقد ماتت وهما في طريق العودة إلى المدينة.وشاهد مرعوباً على الأرجح، عيني أمه الميتتين،كما شاهدت أنا،وعمري 8 سنوات،عيني جدتي في الكفن قبل إنزالها للقبر، برعب لم أنساه، ذكّراني بعيني النعجة المذبوحة!.جدتي التي أحبتني بدلاً من أمي.وترك ذلك كله في نفسية محمد الغضة جروحاً لم تندمل.

شخصّت الطبيبة النفسانية توستين حالة طفل، عالجته زميلة لها(1960)من أوطيزم فصامي:”عبر عن فصله رضيعاً عن أمه بـ”خلع ،تمزيق”مضيفاً: قُطعتُ من جذوري”،في المادة التي قدمها الطفل ديفيد رأينا أن بعض العمليات النفسية غدت مفرطة، بحيث أخفت القطائع المؤلمة التي حدثت في حياته.بهذه الوسائل حاول ديفيد ان يحس بأنه مرتبط على نحو لا انفصال له مع أمه المرضعة(…) وهكذا فإن مجهوده القاسي لإمتلاك الأم،ينتهي بأن يصبح هو نفسه مملوكاً لها.ديفيد فُصل عن أمه جغرافياً،لكن توجد أيضاً عوامل أخرى يمكن أن تنجر عنها صدمة مشابهة،عائدة إلى الشعور بالإنتزاع من الوهم البدائي: أنه وامه يشكلان جسداً واحداً(…).الحساسية المفرطة[عند الطفل ديفيد]يمكن ان تكون ناتجة عن تجربة مبكرة في الانفصال الجسدي عن الأم، الطبيبان برهنا على الآثار الكارثية للإنفصال قبل الأوان عن الأم.جميع الأطفال الذين فُصلوا عن أمهاتهم حدثت لهم نفس الإضطرابات: الإنهيار العصبي الذهاني”(6).

هذه”الآثار الكارثية” للإنفصال الجسدي عن الأم منذ الولادة، تركت بصماتها على شخصية محمد النفسية، وأملت عليه تصرفاته طوال حياته. مثلاً غيرة محمد الهاذية على امتلاك زوجاته حتى بعد موته، عندما حرّم عليهن الزواج من بعده، قد تجد جذورها في قسوة صدمة الإنفصال باكراً عن جسد أمه، فضلاً طبعاً عن الإنهيار العصبي الذهاني. الزوجة تذكّر لا شعورياً بالأم.الرجل يتزوج عادة لا شعورياً صورته عن أمه في زوجته.فهل يكون نبي الإسلام قد عوض، لا شعورياً، فشله في امتلاك الأم حياً، بامتلاك رموزها حيّا وميتاً؟

فقدان الحب في الطفولة يعيق استقلال الشخصية النفسية.وهكذا وجد محمد نفسه، في الطور الأوديبي، في مواجهة صدامية مع الأب المربي، الأب الحقيقي ليس الوالد بل المربي، بل الآباء المربيين، الذين مر بهم محمد طوال طفولته.مثل هذه المواجهة الصدامية أورثته أنا اعلى، أي ضميراً أخلاقياً قاسياً وخاصياً، سنرى عواقبه الوخيمة في هذيان الشعور الساحق بالذنب عند محمد النبي.

تنقّل الطفل محمد بين المرضعات، وبين مكة والمدينة في أسفار شاقة، وفي كل مرة كان يُنتزع من محيطه، كنبتة غضة تُقتلع من جذورها، ما كان ليساعده على التكيف مع المحيط الجديد الذي يُنقل إليه.

ربما كان كل هذا العذاب النفسي الأليم هو، الذي نجد صداه وتخييلاته في عذاب جهنم الأليم، كما وصفه في القرآن؛فهل ما كابده طفلاً من عذاب نفسي،أراد لا شعورياً،تكبيده لأعداء دينه في نار جهنم؟.

هذه السلسلة من الكدمات والصدمات النفسية صاغت عالم محمد النفسي، والذهني وزلزلته وهيأته للأمراض النفسية، من الإكتئاب الإنهياري إلى الفصام مروراً بالعصاب الوسواسي القهري، الذي تجلى في الشعائر القاسية والمكلفة التي فرضها على نفسه وعلى امته.

يعطي كتاب: “أوطيزم وذهان الطفل”لوحة مقارنة بين الطفل الأوطيست والطفل الفصامي.سأنتقي من قائمة الطفل الفصامي بعض الأعراض، التي قد تكون عند الطفل محمد،[في حالة الطفل الفصامي] :”تظهر أعراض خطيرة بعد فترة سوية”،تجلى هذا”العرَض الخطير” في”تعاقب النوبات الإكتئابية والنوبات الإهتياجية[في الذهان الإهتياجي الإكتئابي ]عند الطفل(…) لكنها كثيراً ما تختفي تحت اضطرابات السلوك:سرعة الغضب،و العداونية والهلاوس السمعية والبصرية هن علامة مميزة لهذه الحالة”(7).

نعرف من السيرة أن محمد كان سريع الغضب، إلى درجة أن غضبه كان يتجلى”بظهور عرق بين عينيه”!ويوم سخر المكيون منه وهو يطوف بالكعبة و”تغامزوا”مشيرين إليه بأعينهم هددهم في نوبة غضب مسعور:” أتسمعون يا معشر قريش، أما والذي نفسي بيده، لقد جئتكم بالذبح”!( سيرة ابن هشام ج 1 ص 289″.

هلاوس الأطفال السمعية والبصرية، هن معاينة سريرية في الطب النفسي الحديث:”الطفل جون عامان، مصاب بالأوطيزم.تعتريه أزمات صراخ ليلي:تعتريه هلاووس خلال أزماته،فيعتقد أنه كان يرى عصافير في غرفته(…)العصافير كانت تهدده بنقره وتثير رعبه”(8).

وعندئذ تكون سرعة الغضب والهلاوس قد رافقت محمد منذ الطفولة الباكرة.وهذا ما يرجح أن “حادث شق الصدر”، إذا كان قد حدث،فقد كان هلووسة بصرية ؛سورة” ألم نشرح لك صدرك “لا تتعلق بشق الصدر،بل بشرح الصدر،أي إدخال السرور عليه وليس تشريحه أي شقه؛كما ظن بعض من كتبوا عن محمد بالفرنسية.

في رواية ابن اسحاق، التي يختلط فيها القليل من التاريخ بالكثير من الميتاتاريخ: أعادت حليمة الطفل محمد بعد ارضاعه حولين كاملين،ثم استردته من آمنة،لأن الطفل محمد كان عليها خيراً وبركة.لكن الحقيقة التاريخية،المجهولة أو المسكوت عنها،قد تكون أن أمه المكتئبة قد فضلت إبقاءه عند مرضعته، بدلاً من تحمل أعباء تربيته، هو الذي لا شك أنه أصبح طفلاً صعباً.وهيهات أن يتعرّف عن امه فيها ،هي التي ودعته وقَلتَه [= هجرته وكرهته] رضيعاً! وكيف يستطيع رضيع مرّ، منذ الولادة، بأميّن أو 3 ، عاملنه، على الأرجح، معاملة سيئة، أن يتعرّف على أمه في واحدة منهن؟.

“حادثة شق الصدر:فأقمن به شهرين أو ثلاثة[بعد العودة به ثانية]فبين نحن خلف بيوتنا،وهو مع اخ له من الرضاعة في بُهم[=المواشي]جاءنا أخوه يشتد[=يركض ]فقال: ذاك أخي القرشي قد جاءني [جاءه]رجلان عليهما ثياب بياض، فأضجعاه، فشقا بطنه،فخرجت أنا وأبوه نشتد نحوه، فنجده قائماً، منتقعاً لونه،فاعتنقه أبوه،وقال:أي بني،ما شأنك؟قال:جاءني رجلان عليهما ثياب بياض، فأضجعاني وشقا بطني،ثم استخرجا منه شيئاً فطرحاه،ثم رداه كما كان.فرجعنا به معنا فقال أبوه:يا حليمة لقد خشيت أن يكون ابني قد ُأصيب[بالجنون]،انطلقي بنا،فلنرده إلى أهله قبل أن يظهر به ما يُتخوف”منه (9).تكرار”ابني”من زوج حليمة السعدية، قد يكون أيضاً محاولة من السيرة،لإخفاء معاملة”أبيه” السيئة له .قراره الفوري بإعادة “ابنه”لأهله،خشية أن يتحمل مسؤولية “إصابته بالجنون”،مؤشر آخر على محاولة السيرة المريبة.

أحمد ابن حنبل اكتشف له “معجزة”شق ثاني للصدر وعمره 10 سنوات،كررت سيناريو الشق الأول.

فماذا يمكن أن تكون فرضيات الطب النفسي في حادثة شق الصدر؟

الإحتمال الأول أن يكون ابن اسحاق قد انتحل، كعادته ، اسطورة “الملوك المجوس”،الذين أخبرهم نجم أن المسيح الموعود قد ولد، فشدوا الرحال لزيارته، كما يرويها انجيل متى؛طلوع نجم أحمد،في السيرة،هو ولا شك محاكاة لطلوع”نجم عيسى”في أسطورة الملوك المجوس:”سمعت يهودياً يصرخ بأعلى صوته على أطمة[حصن] بيثرب:يا معشر يهود! حتى إذا قالوا له: ويلك! مالك؟ قال: طلع الليلة نجم أحمد الذي ولد به”.(10)؛ الملكان اللذان أجريا جراحة صدر محمد،قد لا يكونان إلا بديلين متخيليّن للملوك المجوس؛

الإحتمال الثاني أن تكون حادثة تخييلية، بمعنى أنها حدثت نخييلاً، كهلوسة أو صرع “أزمة الصرع الجزئية الحميدة، تحدث في الطفولة وتُشفى تلقائياً”(11).

مما يرجح أن حادثة شق الصدر عائدة للميتاتاريخ، أو أن الميتاتاريخ تغلبت فيها على التاريخ،رواية ابن اسحاق لرواية نبي الإسلام لها:”عن أصحاب رسول الله(ص)أنهم قالوا:يا رسول الله اخبرنا عن نفسك،فقال:[أنا]دعوة أبي إبراهيم،وبشرى عيسى،ورأت أمي حين حملت بي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور بصره من أرض الشام، وأُسترضعت في بني سعد بن بكر،فبين أنا مع أخ في بهم لنا،أتاني رجلان عليهما ثياب بياض،معهما طست من ذهب مملؤة ثلجاً،فأضجعاني، فشقا بطني،ثم استخرجا قلبي فشقاه،فأخرجا منه علقة سوداء،فألقياها،ثم غسلا قلبي وبطني بذاك الثلج،حتى إذا أنقياه،رداه كما كان،ثم قال أحدهما لصاحبه،زنه بعشرة من أمته،فوزنني بعشرة، فوزنتهم،ثم قال:زنه بألف من أمته،فوزنني فوزنتهم، فقال :دعه عنك،فلو وزنته بأمته لوزنهم.”(12).

الفرق بين الرواية المنسوبة للطفل محمد،البسيطة كما تليق بطفل من عمره،ورواية نبي الإسلام، التي انتجتها ولا شك المخيلة الهاذية للمؤمنين،واضح.

2 ـ المقارنة الثانية بين الطفلين الأوطيست والفصامي هي أن:”حركة الجسد غير مترابطة[عند الفصاميٍ]،سيئة التناسق وغالباً ثقيلة”(13).

هذا العرَض الجسدي للفصام حاضر بانتظام عند الفصامي.وقد وصفه الإمام علي ابن أبي طالب، حسب رواية السيرة:”إذا مشى تقلّع[لم يثبّت قدميه لأنه يمشي على مشط قدميه]كأنما يمشي في صَبَب[كأنه نازل في منحدر]وإذا التفت،إلتفت معاً[=التفت بكل جسده]”.(14) في حيي أخوان توأمان مغاربيان، من أتباع الشيخ بن باز، يظهر عليهما العرض ذاته.سُرّ أحدهما لما قدمت له صفحة السيرة،التي تصف مِشية النبي؛سألته أن يجلس معي في المقهى للإجابة عن بعض الأسئلة حول مرضه،فرفض.

3 ـ :”غالباً ما يكون الفصامي واعياً باضطرابه الذهني”(15)عكساً للطفل الوطيست.لا نعرف شيئاً عن محمد الطفل،لكن محمد الشاب كان واعياً بإضطرابه الذهني،لذلك همّ بإلقاء نفسة من قمة جبل حراء، بعد حادثة الغار، ظناً منه انه أصيب بالجنون.

لم أذكر الأعراض الأخرى،لأنه غدا من المستحيل التحقق منها في حالة محمد.وعلى كل حال عرض واحد كافي لتشخيص مرض الفصام،كما يؤكد الطب النفسي.

منذ الطفولة لا يستطيع الفرد أن يبني ذاته،إلا إذا مر بتقمصات متتالية للآخرين.”أنا”هي في الواقع “أنوات”(جمع أنا)الآخرين،الذين نسجوها على مر الأيام .أنوات الآخرين هن قيمهم، تقاليدهم، أخلاقهم،معتقداتهم وتصرفاتهم.باختصار:نمط تفكيرهم وتدبيرهم.

لا نملك مؤشرات جدية على الشخصيات التي قد يكون محمد تماهى معها،منذ الطفولة والمراهقة. قد تكون في طفولته شخصية جده أبو طالب،الذي لا شك أنه أحبه،كما يحب عادة الجدود أحفادهم، ثم شخصية ورقة،وربما عبره أنبياء إسرائيل وعبسى.لكن يبدو أن شخصية ورقة غدت مَثله الأعلى في المراهقة.لكن ماذا نعرف عن ورقة؟معطيات قليلة:أنه كان قساً نصرانياً،أو يهودياً نصرانياً من فرقة الأسونيين، أصحاب مخطوطات قمران، والتي يقول البابا بنوا 16، في كتابه عن المسيح، أن المسيح كان ينتمي إليها. إلا أن بعض إخصايي “مسيح التاريخ” شكك فيما قال البابا.

بالرغم من تطمين ورقة لمحمد، حسب رواية السيرة، بأنه نبي وليس مجنوناً، فإنه لم يدخل في دينه. لكن يبدو أن محمد لازمه إلى أن مات. وأقام عليه حداداً اكتئابياً، أي طويلاً. وقد يكون حاول الانتحار حداداً عليه.من المعقول إذن أن محمد تقمص شخصية ورقة الدينية، أي تماهى بمعتقداته وسلوكياته جاعلاً منه قدوة حسنة: أباً بديلاً.لم نعرف لا من التاريخ ولا من السيرة تفاصيل كافية وشافية عن شخصية ورقة.فهل يمكننا أن نخمّنها من خلال شخصية محمد المكي؟ قد يكون ورقة رئيس دعاة النصرانية، أو أحد أنبيائها المكلفين بترويجها في مكة. وقد يكون “الأحناف”، الذين قالت السيرة والسنة أن محمد الشاب كان أحدهم، والذين لا ذكر لهم في القرآن،هم دعاة ورقة النصرانيين.وهكذا قد يكون ورقه الأب الروحي للإسلام المكي، الروحي بدوره. وهو الذي كان يترجم من العبرية والسريانية الكتب النصرانية، أي “الإنجيل”، الذي هو اسم نوع لمجموع الأناجيل، كما كان يترجم من التوراة، التي هي أيضاً، في القرآن، اسم نوع للكتاب المقدس العبري. وبصمات السريانية والعبرية واضحة في القرآن.

استشهد مكسيم رودنسون في دراسة له، في “إسلاميكا”، بكردينال كاثوليكي من القرن الـ 14 قال: محمد كان ممثلاً للبابا في مكة ثم ارتد! فهل يكون المقصود هو معلمه ورقه، بعد اعتناقه المحتمل للبدعة الأريوسية، التي أدانها المجمع المسكوني في نيقه سنة 325 بما هي زندقة؟ لأننا لا نجد في القرآن صدى، لسفارة محمد البابوية ولا لردته عنها. ولأن محمد المكي ظل مسيحياً أريوسي، أي من التابعين للقس الإسكندراني اريوس، الذي نفى أن يكون الأب والإبن من طبيعة إلاهية واحدة.في نظره المسيح مخلوق الله الأول ونبيه.عيسى القرآني لا شيء غير ذلك.

انقطع الوحي عن النبي بعد موت ورقة ففي صحيح البخاري: “(…)ثم لم ينشب ورقة أن توفى، وفَتَر الوحي فترة، حتى حزن رسول الله، فيما بلغنا، حزناً غدا[=ذهب] منه مراراً كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل، كي يلقي نفسه منه، تبدى له جبريل فقال: يا محمد أنت رسول الله حقاً، فيُسكن بذلك جأشه وتقّر نفسه. فيرجع فإذا طالت عليه فترة انقطاع الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة الجبل تبدى له جبريل فقال له مثل ذلك”.

في السايكولوجيا، طريقة الانتحار،تخبر عن علاقة الإنسان بجسده.واضح من الطريقة الفظيعة، التي اختار بها نبي الإسلام محاولات الانتحار:إلقاء جسده من شواهق الجبال،أنه كان يكره جسده حتى الموت؛أي أن شعوره بالذنب كان ساحقاً، وهو ما سنعالجه في فصل “أفكار أو هذيان الشعور الساحق بالذنب”.

فما هي أسباب هذا الانقطاع؟ هل موت المترجم، الذي كان محمد يكتب ويحفظ ما يترجمه له من الإنجيل والتوراة ثم يستعيده، بذاكرته النسّاءة، في القرآن عبر نوبات الإهتياج والهذيان والهلاوس؟أم يكون موته قد سبب صدمة لنفسية محمد الهشة،فأصيب بالصمت المؤقت،الذي أصيب به قبله حزيقال وإشعيا؟ الفرضية المعقولة والأكيدة، هي أن القرآن المكي كان مسيحياً وبصمات ورقة، كما قدمته السيرة والسنة،مقروءة عليه.

من المعقول أيضاً، أن محمد تقمص الشخصية الدينية لمن اتهمته قريش بأنهم كانوا معلميه.

بصدق الأنبياء، لا ينفي محمد الواقعة.بل نفى فقط أن يكون معلموه يكتبون له أو يملون عليه القرآن كما نزل: “لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين”(103،النحل).فعلاً القرآن كان من انتاج محمد نفسه، بالطريقة المذكورة أعلاه، لكن مضامينه اليهودية والنصرانية والزرادشتية وغيرها كانت من انتاج معلميه: ورقة،بلعام الرومي وسلمان الزرادشتي وربما غيرهم.

معلموه ما كانوا يملون عليه،بل كانوا يترجمون له.آثار ذلك واضحة في القرآن:ليس في المصطلحات الدينية فحسب بل أيضاً في تعابيره العادية،وحتى في نقل أخطاء الكتب المقدسة الأخرى اللغوية، مثل دخول الجمل في سم الخياط بدل دخول الحبل، في آية”(…)حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ”

(40 الأعراف).وسنوضح ذلك في المكان المناسب.

يبدو أن أبو عبيدة ابن المثنى(ق.9)،كان أول من تقصّى في تفسيره “مجازات القرآن”الكلمات التي اقتبسها المعجم القرآني من العبرية،والفارسية، والسريانية،والبربرية،والنبطية والحبشية…إلخ،مثلاً كلمة “مصحف”حبشية.

بعد 7 قرون، حاكاه السيوطي في “الإتقان”. ثم تقريباً لا شيء. ربما تحت تأثير التقوقع على الذات، الذي ترجم نفسه في: محال وجود كلمات أجنبية في كلام الله!.

فهل يبدأ البحث منذ الآن على تلاقح”اللسان العربي المبين”مع كثير من الألسنة “الأعجمية” الأخرى التي عاصرته؛ وخاصة العبرية،التي استعار منها القرآن قصص الأنبياء والرموز والشريعة،والمصطلحات الدينية وحتى الألفاظ العادية؟؛ قال لي البروفسير مناحم ميلسون: عندما أقرأ القرآن أشعر وكأنني أقرأ التوراة!.

على من سيؤلفون معجم الإشتقاق القرآني ـ وهو ضروري ـ ، أن يكونوا مختصين في العبرية والسريانية، ليكون عملهم علمياً حقاً. حتى أن مستشرقاً سويسري معاصر، أبو سهيلة، الذي ترجم القرآن إلى الفرنسية حسب نسخة ترتيب النزول، افترض أن القرآن كتبه حبر يهودي. وهي احتمالية متدنية.فجميع القرائن من السيرة والتاريخ وعلوم النفس، تتضافر على أن مؤلف القرآن هو محمد، بمساعدة هذياناته وهلاوسه ومعلميه. خاصة ورقه في مكة وسلمان الفارسي في المدينة، أو في مكّة والمدينة معا، اللذين كانا يتسامران إلى الهزيع الأخير من الليل؛ مما أثار احتجاج زوجات النبي.ولا شك ان تفاصيل أساطير الجنة والصراط في القرآن، التي لا وجود لها في الكتاب المقدس، مستعارة من الزرادشتية عن طريق سلمان الفارسي.

القرآن، بإحتمالية عالية جداً، أملاه محمد على كتّابه المعروفين. لكن التشابه المذهل بين المعجم القرآني والكتابي، يتطلب فتح ورشة للبحث لكشف سر هذا التشابه بين المعجمين، بل وبين الديانتين أيضاً. فقد أكد فيلسوف الحضارات، ارنولد تونيبي: “أن الإسلام هو الديانة اليهودية الثانية”. وهو تأكيد في محله.

إثنان من معلمي محمد جديران بتخصيص بحوث أكاديمية عنهما لتأثيرهما القوي في القرآن: ورقه وسلمان.

ما نعرفه عن سلمان من السيرة،هو ميتاتاريخ، مرصود لإثبات الاسطورة الشهيرة،أسطورة اعتراف كهنة المسيحية باقتراب ظهور محمد بما هو نبي،فهو إذن بلا مصداقية.لكن تأثير الماجوسية،التي كان سلمان أحد كهنتها، في القرآن شاهد لا تجريح فيه.حديث:”سلمان منا آل البيت”(الطبري)،تمكن قراءته بما هو اعتراف بالجميل من نبي الإسلام لسلمان،الذي علمه كثيراً من أساطير الجنة الماجوسية. هذه الأساطير لا وجود لهن في الجنة اليهودية أو المسيحية: في الجنة القرآنية الأخيار: “عليهم ثياب من سندس خُضر واستبرق [=حرير]”، (21، الإنسان)، تكررت أيضاً في الكهف (الآية 31). وهي تبدو ترجمة لثياب الأخيار في الجنة الماجوسية: “بمناسبة نهاية كل عام ،تُقدَّم للمرء ثياب جديدة .في نهاية العالم سيقدم [الإلاه] أُوهرامزدا، لمن بعثوا من قبورهم ثياب مجد وفَخار”(16)؛ أسطورة “الصراط”، أي الجسر، الذي يمر عليه الأموات المبعوثون من قبورهم للوقوف أمام الله يوم الحساب، بالتأكيد موجود في المسيحية، لكن تبدو في صيغتها القرآنية، أن نبي الإسلام قد رواها عن سلمان: “جسر سينافات” (17)؛ فكرة مركزية في القرآن، جعل منها المعتزلة جواد نزالهم مع السنة، هي فكرة التخيير، أي أن الإنسان مخير، بفضل حريته، بين الخير والشر ولا شيء مقدّر عليه سلفاً من الله،وهي لا وجود لها في اليهودية،التي أخذ عنها نبي الإسلام، بالعكس، الفكرة النقيض: آيات التسيير التي تسلب الإنسان من حرية الإختيار. هذه الفكرة من المرجح أن يكون تعلمها محمد من سلمان: “أُوحي إلى أوهرامزدا: الإنسان حر في اختيار الخير والشر” (18)؛ مفهوم”الدين الحق”، الذي أدخله القرآن المدني لنسخ”الأديان الباطلة”،اللواتي اعترف بهن الإسلام كطريق للخلاص الروحي للمؤمنين بهن، هو أيضاً مزدكي:”أوهرامزدا، [المؤمن] المزدكي يختار الخير على الشر والدين الحق على الدين الباطل” (19)؛ أسطورة الحور العين جاءت للقرآن من الماجوسية: “ثلاثة ايام بعد الانفصال عن الجسد، تصل الأرواح إلى جسر سينافات، حيث ممارسة الدين الحق، تَظهر لهن في صورة عذراء في سن الـ 15 [كجزاء للمزدكي الصالح، وعجوز شمطاء للمزدكي الطالح]” (20)؛ كما في القرآن: “بعد حكم الآلهة الثلاث ميثرا، سراووشا،راشن،تقطع أرواح المؤمنين بالدين الحق الجسر.أما أرواح المؤمنين السيئين فيسقطن في النار(…)”(21)،نجد صدى هذه الأسطورة في سورة القارعة: “فأما من ثقلت موازينه،فهو في عيشة راضية[=الجنة]،وأما من خفت موازينه،فأمه هاوية[= في النار]” (القارعة،6 ـ 8)؛كما أن جنة القرآن في السماء،خلافاً لجنة الكتاب المقدس على الأرض،كذلك الجنة الماجوسية في السماء:”الروح تصعد إلى السماء على 3 مراحل:الكواكب،اللواتي يتطابقن مع”الأفكار الصالحات”،القمر،الذي يتطابق مع “الكلمات الصالحات “وأخيراً الشمس التي تتطابق مع”الأعمال الصالحات”،للوصول أخيراً إلى مملكة الأنوار اللانهائية[= الجنة ]”.(22)حتى اسطورة المهدي المنتظر، السنية والشيعية،نجد لها أصلاً في الماجوسية: “خلال 1000 عام لا وجود للموت ولا للألم والناس يبقون في شباب دائم” (23).

* ملاحظة مهمة بخصوص سلمان(24) (انظر المراجع).

مراجع الفصل الأول

1 ـ الأطفال الأوطيست: الأوطيزم: هو نمط حياة خاص بمرض الفصام يشتمل على مظهرين: فقدان العلاقة مع الواقع وسيطرة الحياة الداخلية، أي سيطرة الشطر السقيم من النفس على الشطر السليم منها.

2ـ فرانسيس توستين، الأوطيزم وذهانات الأطفال ص 34 دار سوي باريس.

3 ـ سيرة ابن هشام ص 246 .

4 ـ أوطيزم وذهان الطفل ص 36.

5 ـ نفس المصدر والصفحة.

6 ـ نفس المصدر ص 56.

7 ـ ميشيل هانوس، طب نفس الطالب، دار مالوان باريس 1991 ص 75.

8ـ أوطيزم وذهان الطفل ص 24.

9 ـ سيرة ابن اسحاق ص 102.

10 ـ سيرة ابن هشام ص 24.

11 ـطب نفس الطالب ص 332).

12 ـ سيرة ابن اسحاق 103.

13 ـ نفس المصدر نفس الصفحة .

14 ـ سيرة ابن هشام ص 36 .

15 ـ أوطيزم اللوحة الثالثة ص ص 40 ،41 مرجع سابق.

16 ـ مرسيا إلياد،تاريخ المعتقدات والأفكار ،ج. 1،ص 347 .

17 ـ نفس المصدر ص 326.

18 ـ نفس المصدر ص 323.

19 ـ نفس المصدر ص 327.

20 ـ مرسيا إلياد،معجم الأديان،ص 304.

21 ـ نفس المصدر نفس الصفحة.

22 ـ نفس المصدر ص 305 .

23 ـ تاريخ الأفكار الدينية ج. 1،ص 345 مصدر سابق.

24 ـ السيرة تقول سلمان لم يلتقي بالنبي إلا في المدينة.لكن قصة ترحال سلمان في السيرة من بلد إلى آخر،حتى حط رحاله في يثرب،وبالصدفة كعامل زراعي عند يهودي فظ،غير موثوقة إذ أننا نجد أن آية الثياب الخضر لسكان الجنة موجوده في سورتين مدنية ومكية(الكهف)؛وآيات الحور العين موجوده في 3 سور مكية،الدخان،الطور والواقعة.وأيضاً في سورة مدنية واحدة هي الرحمان.مما يجعلنا نفترض كذب رواية السيرة عن استقراره في يثرب،لأن الكهنة المسيحيين،كما تزعم السيرة، الذين خدمهم في بلدان عدة،أخبروه بأن زمان نبي عربي قد حان؛أو أن سلمان كان عبداً في مكة منذ دخل الحجاز؛وإما أن تكون الآيات،كالعادة،بُعثرت في سور لا مكان لها فيها،ودونما اعتبار لزمان ومكان النزول.ونعرف أن سورة يونس مثلاً ليس فيها عن يونس إلا آية واحدة من 109 آية،بينما يونس مذكور 8 مرات في سورة أخرى لا تحمل أسمه!.وضعنا هذه الفرضيات، لأن دخول آيات المجوسية المذكورة ،عدا ربما الصراط،في القرآن هي إحتمالية عالية.

About العفيف الأخضر

العفيف الأخضر (1934-213 ) ولد في عائلة فلاحين فقراء في شمال شرق تونس سنة 1934. والتحق بجامعة "الزيتونة" الدينية ("أزهر تونس")، ثم بكلية الحقوق. ومارس مهنة المحاماة بين 1957 و1961، ثم تخلّى عن هذه المهنة وسافر إلى باريس في 1961، قبل أن يلتحق، مع يساريين آخرين، بنظام الرئيس أحمد بن بلا غداة إستقلال الجزائر. وانتقل إلى الشرق الأوسط في العام 1965، وتنقّل بين عمّان وبيروت حيث طبع أهم كتبه التي كان محورها "نقد الفكر الإسلامي التقليدي". غادر العفيف الأخضر بيروت محزوناً بعد اندلاع الحرب الأهلية، وبعد أن صدم أصدقاءه اليساريين بموقفه الرافض لهذه الحرب، والرافض لكل مبرّراتها "التقدمية". فقد هاله أن اليسار اللبناني لم يدرك أنه كان يسهم، بدون وعي، في تحطيم الحصن الوحيد للحرية في العالم العربي "الغبي والمستبدّ". ويعيش "العفيف" في باريس منذ 1979، ويكتب لصحيفة عربية، ويحاضر أحياناً في القاهرة أو يشارك في نقاشات تلفزيونية في محطات فضائية عربية. لماذا ننشر مقالات "العفيف الأخضر"؟ لأن التاريخ يتقدّم بمنطقه الخاص، والفكر "الخارجي" يمكن أن يصبح فكر الساعة "من حيث لا تعلمون". وليس سرّاً أن العفيف الأخضر كان أول دعاة "تجفيف منابع" الفكر الأصولي الإرهابي بعد أحداث 11 سبتمبر-أيلول 2001. كتب العفيف الأخضر: التنظيم الحديث، دار الطليعة، 1972. الموقف من الدين، دار الطليعة، 1973 (الذي تدخّل رئيس تنظيم ديني في لبنان لمنع طبعته الرابعة).
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.