ملائكة وشياطين !!.

طلعت ميشو

في سنة 1988 إستلمتُ من أهلي في بغداد خبر مقتل أخي الصغير فيصل ميشو في الأشهر الأخيرة من معارك العراق ـ إيران، وقبلها كان أخي الكبير نبيل ميشو قد ضاع وفُقد في بداية الأشهر الأولى لتلك المعارك العبثية
( messing in action ) .
وبعد شهرين من تلقي الخبر المُفجع أصبتُ بالسكتة القلبية وتم نقلي ليلاً إلى واحدة من أشهر مستشفيات ولايتنا الأمريكية مشيكان .
في تلك الليلة وبعد إجراء الفحوصات اللازمة والإحتياطات الطبية الضرورية في قسم الطواريء تم نقلي إلى القسم التابع لأمراض وحالات القلب إنتظاراً لزيارة الطبيب المختص في الصباح الباكر .
وضعوني في غرفة تسع مريضين وكان سريري قرب النافذة أي في عمق الغرفة وليس في بدايتها حيث السرير الآخر الفارغ . وبعد نصف ساعة جائوا بمريض آخر ليكون شريكي في الغرفة، وتعجبتُ لكونه كان في حالة سبات دائم
( كوما – come )،
حيث القسم الذي كنتُ انا فيه مخصص لمرضى القلب فقط !!.
المهم … قالت لي واحدة من الممرضات بأنها ستستبدل موضع سريري مع مريض الكوما!، فقلتُ لها بأنني كنت الأول في الغرفة ومن حقي أن أختار السرير الذي اريد، ثانياً ما حاجة مريض الكوما للسرير قرب النافذة وهو في حالة سبات دائم ولا يشعر بما حوله حتى لو وضعناه في الجنة !!؟. وتعجبتُ جداً من علامات الإشمئزاز والغضب التي بدت على وجهها وهي تتمتم ببضعة كلمات غاضبة عرفتُ أنها كانت شتائم موجهة لشخصي !!.
وللبقية الباقية من الليل كانت تلك الممرضة تزور غرفتنا كل عشر دقائق لتعمل ضوضاء مُفتعلة لمضايقتي وحرماني من النوم الذي كنتُ بأمس الحاجة له بعد السكتة القلبية التي أصابتني في تلك الليلة !.


كانت تتظاهر بأنها تُكلم الشاب المصاب بالكوما وإسمه ( مِكي ) وكانت تُدلله وتدلعه وتغني له وكأنه يسمعها أو يفهم ويعي ما تعمل أو تقول !، بينما كنتُ متيقناً أنها تعمل كل ذلك لإغاضتي وحرماني من الراحة وكأنها تعاقبني لإني رفضتُ أن أعطي مكاني قرب النافذة لمريض لم يعد يعي هل هو موجود أم لا !!.
كلمتها بهدوء أكثر من مرتين وقلتُ لها بأني متعب ومنهك القوى وبحاجة للراحة والنوم وإن ما تقوم به من مضايقات وتصرفات هو عمل غير قانوني وغير أنساني ولا مبرر له إطلاقاً، لكنها لم تبالي بل راحت تجلب معها ممرضة اخرى ليتضاحكوا علي ويُسمعوني كريه الكلام ومن ضمنه أنهم يكرهوننا ولا يُطيقون وجود نوعيتنا في المستشفى وحتى في وطنهم !، والحق لم أفهم لحد اللحظة من كانت تعني بالضبط !، هل كانت تعني الشرقيين أم العرب أم الكلدان أم الناس المُهاجرين بصورة عامة !.
ولعدة مرات ضغطتُ على جرس النجدة محاولاً أن أشكوها لمن هو أعلى منها في القسم الطبي ولكن في كل مرة كانت هي التي تأتيني وكأن هناك مؤامرة مبيتة ومدبرة ضدي وهو أمرٌ لم أكن أستطيع تصديقه وخاصة في أمريكا وفي واحدة من أشهر مستشفياتها وأكثرها سمعة طيبة وجيدة .
في الصباح الباكر زارني ثلاث أطباء معاً لفحصي كبداية لتقرير حالتي الصحية، لكني رفضتُ أن أدعهم يلمسوني أو يفحصوني وشرحتُ لهم بالتفصيل ما حدث من تناذل وخباثة وإستهتار ضدي في الليلة الماضية لكنهم لم يُصدقوني وسألوني عن إسم الممرضة لكني لم أكن قد قرأتُ إسمها الذي عادة يكون على صدر الممرضات والممرضين، وبدوري طلبتُ منهم أن يدعوني أشاهد ممرضات الليلة الماضية لأريهم أي منهن كانت تلك الجاهلة التي قامت بما لا يتوقعه أحد وربما مدفوعة بسبب عنصرية مريضة خبيثة تأكل كيانها وعقلها وأحشائها وتدفعها نحو شر غير متوقع، لكنهم رفضوا طلبي !.
المهم .. إتصلتُ بزوجتي وشرحتُ لها ما حدث الليلة الماضية وسألتها أن تتصل بطبيب العائلة وتسأله الحضور للمستشفى ونقلي رأساً لمستشفى أخرى لإكمال الفحص والعلاج اللازم . فكان .
يومها كنتُ أفكر بأنه لا وجود برأيي ومعتقداتي للشياطين، لكن تلك الممرضة ورفيقتها كانوا شياطين خبيثة مؤذية ضارة حقودة عنصرية لئيمة في تلك الليلة التي لن أنساها ما حييتُ !.
*************************
في المستشفى الجديد تم فحصي مباشرةً ومن ثم إحالتي لقسم العمليات حيث اجروا لي عملية تبديل شريانين في القلب بسبب إنسدادات شبه تامة، وأخذوا الشريانين الجديدين من فخذي الأيسر وتمت العملية بنجاح كامل .
في قسم العناية المركزة والإنعاش ولعدة ايام قام بتمريضي ممرضات رائعات الخلق والتصرفات والمعرفة والخبرة، وقاموا بخدمتي وكأنني طفل صغير ولدرجة كنتُ أخجل أحياناً من كثرة إهتمامهن بي وبراحتي وتدليكي وغسل جسمي وتنظيفي والعناية بي بدرجة غير متوقعة أدهشتني وأدهشت زوجتي وبناتي وكل من زارني من أحباب !.
بعد أسبوع من العملية وقبل نقلي للبيت قمتُ بأعطاء خمسة ممرضات منهن مبلغ محترم من المال مع كل البقلاوة والحلويات التي أهداني إياها كل من زارني من أحباب ، كذلك كتبتُ مذكرة لرئاسة القسم الطبي للقلب أشيد بها بأخلاق وعناية الممرضات اللواتي قمن بخدمتي وذكرتُ أسمائهن وشكرتُ إدارة المستشفى على ذلك الكادر من الموظفين الذين يرفعون الرأس ليس فقط كموظفين بل كرسل للإنسانية الحقة .
يومها … كنتُ أفكر بأنه لا وجود برأيي ومعتقداتي للملائكة، لكن بضعة ممرضات في قسم العناية المركزة والإنعاش كانوا بحق وحقيق ملائكة صامتة جميلة رؤوفة حنونة عطوفة بحيث جعلوا من مدة إقامتي في المستشفى فرحة وسعادة وذكرى طيبة لبشر مباركين يستحقون أن يُسموا ( بشراً ) .
طوبى للذين يهبون الراحة والسعادة لبقية البشر .
المجدُ لمن يخدم البشر ويحرص على راحتهم .
طلعت ميشو . Jun – 19 – 2018

This entry was posted in الأدب والفن. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.