مستبد قليلا مستنير بلا حدود

في سبيل ذاته، يجب أن يكون الحاكم خبيثا، نصح نيكولو ماكيافيللي، أشهر منظّر للأنانية. الشعوب في حاجة إلى حاكم قاس يحتفظ لنفسه بكل السلطات والقرارات. قال عبد الرحمن بن خلدون، أحد أهم علماء البلدان والعصور. «الحاكم هو الشخص الأول في الدولة، ولذا يجب أن يأخذ مكافأة مادية كبرى، من أجل أن يحافظ على كرامة المنصب، شرط أن يعمل بكل قواه من أجل خير الدولة»، كتب الألماني فريدريك الأكبر، عام 1752.

سوف يؤسس فريدريك الأكبر لما سوف يصبح فيما بعد، ألمانيا. وقبل أن يدرك أنه يضع الحجر الأساسي لإحدى أهم دول أوروبا، قال: «لا يمكن أن تكون عندي أي مصالح ليست في الوقت نفسه مصالح شعبي. وإذا ما تعارضت، فالأفضلية دائما لمصلحة وتقدم البلاد». ثم راح يطبق القاعدة على نفسه أولا، وأمر ببناء فيللا صغيرة في بوتسدام (قرب برلين) كان فيها خزانة واحدة، ولم ير في التاج سوى أنه «قبعة يسهل منها دخول الأمطار».

فريدريك الأكبر هو الذي بدأ فكرة «المستنير»، وليس «المستبد العادل» كما شاعت خطأ، لأن لا عدل في الاستبداد. وفي حين كان يرفع هرم الدولة، كان السلطان في إسطنبول يوسع جناح الجواري إلى 500 غرفة، بينما أخذ فريدريك في توسيع بروسيا، وبدأت الإمبراطورية العثمانية في التقلص. يومها قال جملته الشهيرة – أو الرهيبة – وهو يتطلع إلى جارته بولندا: هذا بلد يجب أن يؤكل مثل الأرضي – شوكي (الخرشوف)، ورقة ورقة! استبد في الخارج وانفتح في الداخل. أعطى الحرية للصحف ولم يتمسك حتى باللغة الألمانية. كان يكتب بالفرنسية ويتحدث بها ويقول إنه لا يستخدم الألمانية إلا لمخاطبة حصانه. وفتح الباب واسعا أمام المهاجرين والأديان. وكثرت في ظله نوادي الحوار وجمعيات القراءة والتجمعات الأدبية. وظهر يومها أعظم فلاسفة القرن الثامن عشر، عمانوئيل كانط، صاحب «نقد العقل المجرد»، الذي سوف يصبح في القرن الماضي «نقد العقل العربي» عند محمد عابد الجابري، ومن ثم «نقد نقد العقل» عند ناقده جورج طرابيشي الذي أهدر عمرا في استنهاض شيء منبوذ، ثم الاتفاق على تسميته العقل.

مثل ملكه، كان كانط متقشفا ودقيقا وصارما. وتطلع فريدريك فقط إلى عقل كانط وقال إنه من أعظم معالم وقراءات اللغة الألمانية، بينما انتقده الأخفّاء وقالوا إنه ليس سوى حفيد رجل أسكوتلندي من صناع أسرجة الخيول. الأهمية لم تكن في وقع الحافر، بل في أثر العقل على الفكر الأوروبي والغربي وصولا إلى مفكري النخبة العربية. فريدريك الأكبر أرسى الانفتاح والحرية والعقل، وأدولف هتلر أرسى العمى الفكري والإنساني، ووضع العرق الآري الألماني فوق الجميع، وما التفت إلى كلام شاعر البلاد من عصر النور، فريدريك شيللر: «إنني أكتب كمواطن من العالم. الناس هي كل شيء عندي. هاجسي وسيادتي وصديقي. أنتمي إليها وحدها. وأمام محكمتها فقط أمثل».

About سمير عطا الله

كاتب صحفي لبناني الشرق الاوسط
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.