مرور قرن كامل على ثورة اكتوبر في روسيا

شهد التاريخ البشري العديد من الثورات والحركات الاجتماعية التي رفعت شعار العدالة والمساواة في التمتع بالثروات الوطنية، ولكن جميع هذه الأحلام تبددت لعوامل موضوعية، ومنها ما تمثلت بالمستوى المتدني للقوى المنتجة والعلاقات الانتاجية وبالتالي انتاجية العمل في المجتمعات التي شهدت هذه الحركات، بما يعني عدم قدرة المجتمع على توفير القدر الكافي من النعم المادية والروحية كي يجري توزيعها بشكل عادل على أفراده. هذا إضافة إلى أن كل الحركات التي رفعت الشعار المساواتي كانت تفتقر إلى معرفة خارطة الطريق للوصول إلى هذا الهدف. لنأخذ على سبيل المثال كومونة باريس التي توصف من قبل بعض المؤرخين على أنها أول دولة أشتراكية!!، في حين أن ثوار باريس، كما تدل الوثائق التاريخية،

كومونة باريس (18 آذار 1871- 28 أيار 1871)
لم ينتفضوا إلاّ لمواجهة المظالم وأرادوا تحقيق شعار الثورة الفرنسية لعام 1789 القاضي بتحقيق “الحرية والأخاء والمساواة”. ولم يستطع ثوار الكومونة سوى فرض سيطرتهم على أجزاء من باريس، ناهيك عن عموم فرنسا، كي يؤسسوا لدولة اشتراكية!!، كما لم يكن لديهم تصور وخطة وبرنامج قادر على استمرارية السلطة الجديدة ومواجهة تحديات الخصوم. ولذا وضع كارل ماركس علامة سؤال على “اشتراكية”الكومونة. ويمكن الحديث أيضاً في هذا المضمار عن مصير انتفاضات مماثلة حدثت في ألمانيا وبلغاريا والمجر بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، دون أن يعني ذلك تجاهل الشجاعة والمآثر والنوايا الحسنة لأنصار هذه الحركات وآثارها السياسية والاجتماعية الايجابية على المسيرة التاريخية لتلك المجتمعات وعلى دول العالم، فالحديث يدور عن إمكانية تحقيق الشعارات والأهداف والأحلام التي طرحتها تلك الحركات.
لقد ركزت غالبية الحركات التي دعت الى إرساء مجتمع العدالة والمساواة او الاشتراكية قديمها وحديثها، بالاساس على نقد الانظمة الاستغلالية والتعسفية القائمة وتحليلها بهذا القدر او ذاك، ولكنها طبّقت مشاريع لم يحالفها الحظ في النجاح لعدم واقعيتها ونضوج عوامل نجاحها. ولا يسعفنا المجال هنا كي نشير بالتفصيل الى المفكرين الذين حملوا هذا اللواء في العصور الخوالي أو أولئك الذين رفعوا لواء اشتراكية ما قبل الماركسية والتي تطرق اليها البيان الشيوعي كالاشتراكية الرجعية أو الاقطاعية أو اشتراكية البرجوازية الصغيرة أو المحافظة او البرجوازية او الطوباوية، أو الاشتراكية الالمانية و”الصحيحة” في القرنين التاسع عشر والعشرين. الا ان غالبية هؤلاء، ان لم يكن جميعهم، لم يخرجوا في طروحاتهم عن اطار الدعوات الاخلاقية والانسانية، أو في اقصى الحالات الاشارة الى ملامح واتجاهات لتحقيق حلم المجتمع الجديد.
اننا لو تصفحنا ما أبدعه نبوغ كارل ماركس على سبيل المثال، لوجدنا انه قد قدم في مؤلفه الشهير “رأس المال” خير تشريح لجوهر التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية للرأسمالية ووضع اليد على جوهر الاستغلال الرأسمالي وخصائص الرأسمالية، خاصة في القرن التاسع عشر. الا إن ما كتبه كارل ماركس حول التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية الجديدة الأرقى؛ أي الاشتراكية والشيوعية، لم تتعد صفحات محددة، ولم تتناول مخططاً متكاملاً ولا مشروعاً لبناء المجتمع الجديد البالغ التعقيد، بل ملامح فحسب. فكل ما كتبه كارل ماركس وفردريك انجلز لم يتعد الاشارات العامة حول سمات المجتمع والدولة الجديدة، مستفيداً من فشل تجربة كومونة باريس. وقد اشار كل من ماركس وانجلز بحق آنذاك إلى أن:” هذه المهمة تقع على عاتق الاجيال التي ستعيش ذلك النظام وستكون اذكى منا “.
أما في روسيا، فقد كان برنامج البلاشفة حتى المؤتمر الذي انعقد بعيد استلام البلاشفة السلطة في اكتوبر 1917 هو برنامج ثورة ديمقراطية وليس برنامج اشتراكي، وهو البرنامج نفسه الذي اقر بعيد فشل ثورة 1905 الديمقراطية في

ثورة 1905 الديمقراطية في روسيا
روسيا. كما ان الحزب البلشفي لم يكن قد صادق بعد على شعار ف. لينين “تحيا الثورة الاشتراكية”، هذا الشعار الذي رفعه بعد عودته من المنفى في نيسان عام 1917 في محطة قطار فنلندا في بتروغراد، ثم شرحه بالتفصيل في كراسه الشهير “موضوعات نيسان”. لقد اعتبرجيورجي بليخانوف هذه الموضوعات “ضرباً من الهذيان، فإن شروط الثورة الاشتراكية غير متوفرة في روسيا بعد”.
أكد ف. لينين في “موضوعات نيسان” على نضوج قيام الثورة الاشتراكية في روسيا وضرورة الشروع بها. ومن المعلوم ان هذا الشعار، كما أسلفنا، لم يدرس او يصوب في قيادة الحزب، ناهيك عن الجمهرة الحزبية، الا عشية تنفيذ الثورة، حيث لم تتم الموافقة على الشروع بالثورة “الاشتراكية” من قبل غالبية أعضاء اللجنة المركزية ومن ضمنهم ستالين وكامينييف وزينوفييف، والأخيرين كتبا مقالات علنية صريحة حول خطأ الشروع بالثورة . الا إن ف. لينين هدد بالاستقالة من قيادة الحزب في حالة رفض قيادة الحزب لطروحاته وردد جملته الشهيرة “انه لمن المبكر الشروع بالامس، وسنتأخر اذا شرعنا بها غداً”، مما حدا بغالبية اعضاء اللجنة المركزية القبول بطروحات ف. لينين نظراً للمكانة الكاريزماتية التي كان يتمتع بها لينين داخل الحزب وحتى خارجه.
لقد استندت موضوعات نيسان الى استنتاجات سبق وأن توصل إليها لينين في كتابه “الامبريالية اعلى مراحل الرأسمالية”(عام 1916)، التي انطوت على أول بيان صريح عن حرق المراحل، عندما اعتبر لينين ان “الامبريالية هي عشية الثورة الاشتراكية، وهي الرأسمالية المتعفنة، وان الاحتكار يؤدي الى زوال بواعث التقدم التكنولوجي بل واي تقدم”. ولكن هذه النبوءة لم تتحقق لحد هذا اليوم. فالرأسمالية مازالت لديها القدرة على تجديد نفسها وتفادي أزماتها الدورية المتلاحقة، وسوف لن تنهار بين ليلة وضحاها رغم أزماتها ومآزقها، فإنهيارها يحتاج ، كما يبدو، إلى مرور عدة أجيال عندما تتحول الرأسمالية إلى تشكيلة معرقلة فعلاً لتطور القوى المنتجة والعلاقات الانتاجية.
لم يكن لدى الحزب في ذلك الوقت أي تصور او أي مخطط متكامل او مشروع لبناء الاشتراكية في روسيا المتخلفة سوى بضع مقالات كتبها لينين بعد انتصار الثورة. فمقالات لينين حول هذا الامر الجدي لا تتعدى بضع صفحات، ومن يطلع عليها اليوم يرى انها لا تشكل الا بحثاً مبتسراً حول بناء هذا المجتمع البالغ التعقيد. ولقد تراجع ف. لينين عن هذه المقالات والاجراءات التي اتخذتها السلطة السوفييتية (الشيوعية العسكرية) لاحقاً بعد شهور بسبب عدم استجابتها لحاجة تطور البلاد التي كانت تمر بأزمة اقتصادية واجتماعية عميقة خانقة. فالشيوعية العسكرية وجهت ضربة لأهم شعارات البلاشفة حول “حلف العمال والفلاحين”، حيث أثارت وسطاً واسعاً ضد هذا النهج الذي ألحق الضرر بمصالح أكثرية السكان؛ أي الفلاحين، ودفعهم في الكثير من الأحيان إلى خوض الانتفاضات الفلاحية ضد السلطة السوفييتية. ففي عام 1920 إندلعت انتفاضة الفلاحين المطالبين بالأرض ضد سياسة التعاونيات التي أعلنها البلاشفة في محافظة تنبوف، وشارك فيها بين 65-70 ألف فلاح من الفلاحين. وتعرضت الانتفاضة إلى القمع على يد وحدات الجيش الأحمر وراح ضحيتها أكثر من 5500 فلاح روسي. ولم تكن انتفاضة البحارة في القاعدة العسكرية البحرية في غرونشتاد في آذار عام 1921 بمعزل عن مطالب الفلاحين بتوزيع الأرض. فقد قدم المنتفظون خمسة عشر مطلباً يدعو فيها إلى التخلي عن فرض التعاونية على الفلاحين بالإكراه وتحرير جميع السجناء المعارضين لفرض التعاونية في الريف.
وعلى ذكر سياسة “النيب”، والتي اقترحها ف. لينين بعد التخلي عن سياسة “الشيوعية العسكرية”، فإنها تمثل عودة الحزب الى برنامج التحول الديمقراطي لما قبل ثورة اكتوبر، وهي سعي لأضفاء شكل من أشكال رسملة الاقتصاد السوفييتي الضروري والتوجه صوب اقتصاد السوق الذي طال الفلاحين والتجار والمنتجين الصغار. لقد اعتبر لينين بحق سياسة “النيب” بانها فترة ستمتد طويلا ولمراحل عديدة لا يمكن تحديدها. وبذلك تراجع لينين عن سياسة القفز على المراحل وحرقها، وتعارض موقفه مع موقف التيار المتطرف المتمسك بنهج حرق المراحل و “الثورة الدائمة” وتجاهل مسيرة التطور الموضوعي للمجتمعات البشرية. الا أن سياسة “النيب” تعثرت ولم يكتب لها الاستمرارية كما أكد لينين وانهيت بعد رحيل ف. لينين. كما أن لينين وفي آخر أيامه تراجع حتى عن طابع الثورة الاشتراكي لأكتوبر. ففي رسالة وجهها إلى سوخانوف، عضو سوفييت بتروغراد، في 16 من كانون الثاني عام 1923 قال فيها:” بالرغم من أن روسيا لم تكن مستعدة اقتصادياً لثورة، إلاّ أن تداعيات الحرب الأمبريالية والحماس الذي ساد في البلاد زادا من تأهب روسيا لثورة فلاحية”.
لقد كان من الممكن ان يستمر العمل بسياسة “النيب” لبناء البلاد عبر بناء الرأسمالية وتطويق سلبياتها الى الحد الممكن، ثم التراكم التدريجي لعناصر واركان الاشتراكية دون ان ينتهي النظام السوفييتي الى هذه النهاية المأساوية في التسعينيات، ودون ان تضيع سنوات من الفرص لبناء البلد. ولكن في جو التطرف الذي طغى على الحزب، أخذ ستالين كلياً بالتنظيرات المتطرفة لغريمه ليون تروتسكي، لتُزرع في البلاد كل بذور انهيار النظام لاحقاً، والذي تنبأ به حتى تروتسكي قبل اغتياله في آخر مؤلف له وهو “الثورة المغدورة” في عام 1937. ان سياسة النيب ليست عبارة عن برنامج اقتصادي فحسب، بل هي خطوات سياسية أرادها لينين لتجنيب البلاد العنف والفساد والبيروقرطية وتطويقها والتي تصاعدت بشكل مريع، مما دفع لينين الى التعبير عن مخاوفه منها حيث قال:”ستتحول الدولة البروليتارية الى دولة مطليّة باللون الاحمر”.
لقد حذّر اشتراكيون بارزون روس من خطر اقدام البلاشفة على استلام السلطة ورفع شعار الثورة الاشتراكية، ومنهم جيورجي بليخانوف الذي يعد “الداعية الأول للماركسية في روسيا”. فقد كتب مقالة في جريدة الوحدة في 28 اكتوبر عام 1917 ؛ أي بعد ايام من انتصار الثورة تحت عنوان “رسالة مفتوحة الى عمال بتروغراد” جاء فيها:”انا اشعر بالخيبة لما وقع من احداث في الايام الاخيرة، لا لأنني لا ارغب في انتصار الطبقة العاملة في روسيا، فقد كنت ادعو لها بكل ما أختزن في اعماقي من قوة. لكن علينا ان نستذكر ملاحظة أنجلز التي يقول فيها:”انها لمأساة تأريخية للطبقة العاملة عندما تنتزع السلطة السياسية في وقت ليست مهيأة لها بعد”. ان من شأن ذلك ان يلزمها بالتراجع الى الوراء عن المواقع التي احرزتها في شباط وآذار من السنة الحالية. وكان انجلز قد تحدث عن المصير المأساوي لثورة غير ناضجة او قادرة على ضمان سيطرة الطبقة التي تمثلها….إذ يجد المرء نفسه في مأزق، لان ما يجب ان يفعله لا يمكن ان ينجح، وبالتالي فإن الحزب الذي يضع نفسه في موضع كهذا سائر حتماً الى الهلاك”.

اقتحام القصر الشتوي في اكتوبر عام 1917
يطرح بعض الباحثين في موضوعة ثورة اكتوبر المقولة التالية:”لقد شاءت الظروف التاريخية ان تقوم أول تجربة لبناء الاشتراكية في بلد نضجت فيه الشروط السياسية من دون ان يمتلك، بسبب من ضعف تطور الرأسمالية فيه، أي القاعدة المادية المتقدمة التي اعتبرها ماركس شرطاً لانتصار الاشتراكية في بلد من البلدان”. فاذا كان ماركس قد اعتبر ان القاعدة المادية المتقدمة هي الاساس في انتصار الاشتراكية، فهو جواب كاف لتعليل فشل أية محاولة للثورة في بلد غير ناضج في قاعدته المادية للانتقال إلى مرحلة أرقى، اقتصادياً وتكنولوجياً وثقافياً وديمقراطياً وفي البناء السياسي، من تطور المجتمع. فالحديث عن نضج الشروط السياسية، أي البناء الفوقي يتعارض مع ما يطرحه رواد الاقتصاد السياسي من ان البناء الفوقي هو انعكاس للقاعدة الاقتصادية والتي هي الاساس في تبلور البناء الفوقي. الفكرة المشار اليها أعلاه تقلب الامور رأساً على عقب، وتجعل من البناء الفوقي هو الاساس وتجعل القاعدة خاضعة للبناء الفوقي. بالطبع لا يمكن إلغاء ذلك التأثير المتبادل الذي يبديه البناء الفوقي على القاعدة في سيرورتها.
وفي الواقع عند الحديث عن نضوج الشروط السياسية في روسيا، يمكن الحديث تحديداً عن تعاظم مكانة الحزب البلشفي وشعبية شعاراته المتمثلة بالدرجة الأولى بشعاره الذي رفعه حول “السلم والأرض للفلاحين وحق تقرير المصير للشعوب الخاضعة لروسيا”، وهي شعارات لا تنطوي على الدعوة لثورة اشتراكية. لقد أدى رفع هذه الشعارات من قبل البلاشفة إلى تعاظم رصيده الشعبي بعد انتصار ثورة الشعب الروسي في شباط عام 1917 التي أطاحت بالنظام القيصري. ولكن على الرغم من تعاظم شعبية البلاشفة خاصة بين العمال والفلاحين، إلاّ أن رصيد الحزب البلشفي في الجمعية التأسيسية المنتخبة بعد ثورة شباط بقي محدوداً بسبب قلة عدد مندوبيه قياساً إلى الاحزاب الاخرى ومن ضمنهم المناشفة. وبقيت هذه النسبة متواضعة حتى حل الجمعية التأسيسية بعد ثورة اكتوبر عام 1917. كما ان عدد مقاعد الحزب في السوفيتات كان اقل بكثير من مقاعد المناشفة والاشتراكيين الثوريين والفوضويين حتى حزيران عام 1917.
إن ما جرى بعد ثورة شباط 1917، هو ان غالبية الاحزاب الروسية سواء في الجمعية التأسيسية او في السوفيتات، وخاصة الحكومة المؤقتة الائتلافية التي أعلنت النفير العام واستئناف العمليات العسكرية على الجبهة الألمانية، وبذلك رفضت على الأخص شعار السلام ووقف الحرب الذي طرحه البلاشفة، هذا الشعار الذي طالبت به غالبية الجماهير الشعبية التي اكتوت بلهيب الحرب العالمية الأولى، مما ادى الى انتقال العديد من مندوبي السوفيتات لصالح البلاشفة وخاصة مندوبي سوفيتات الجيش والاسطول الذين ذاقوا الفاقة والحرمان والقتل والدمار جراء الحرب العالمية المدمرة. ويشير الكاتب صالح ياسر في بحثه “الذكرى المئوية لثورة اكتوبر الاشتراكية العظمى” إلى الحالة التي عاشها المجتمع الروسي والتي أدت إلى ذلك الغليان الثوري قائلاً:”في بداية عام 1917، كان ما يقارب 16 مليون نسمة يخدمون في الجيش، مما أدى الى نقص في الأيدي العاملة في الريف. وظلّ زهاء ثلث (1/3) اسر الفلاحين بلا رجال، وتناقص محصول الحبوب الرئيسية بشكل كبير مقارنة مع فترة ما قبل الحرب، كما تقلصت مساحة الأرض المزروعة. وبالمقابل تفاقمت المديونية الخارجية لروسيا مما أدى الى زيادة تبعيتها المالية للدول الأجنبية”. إن تردد السلطتين التشريعية والتنفيذية (الحكومة المؤقتة) في اعلان اصلاح زراعي يوزع الارض على “الموژيك” والقضاء كلياً على نظام القنانة في روسيا والذي شرع به رئيس الوزراء الاصلاحي الروسي بيتر أركاديفيتش ستوليبين، قاد وسطاً واسعاً من الفلاحين المعدمين نحو البلاشفة الذين غيروا برنامجهم الزراعي، واعلنوا تبنيهم لبرنامج الاشتراكيين الثوريين القاضي بتوزيع الارض على الفلاحين الفقراء وليس تأميم الارض، الذي طبق من قبل البلاشفة لاحقاً بعد ثورة إكتوبر.
اضف الى ذلك كان الحزب البلشفي في طليعة من طالب بحق تقرير المصير للقوميات المضطهدة غير الروسية، مما عزز الى حد ما من مكانة الحزب في المناطق القومية الخاضعة للامبراطورية الروسية التي لم تكن الأمة الروسية المسيطرة تؤلف في تركيبة البلاد سوى 42 %. فلم تكن البورجوازية الليبرالية الروسية بعد ثورة شباط تريد، لا في المسألة القومية ولا في المسألة الزراعية، أن تتجاوز بعض التخفيفات في نظام الاضطهاد والعنف والتمييز القومي والطبقي. وقد سارعت حكومة ميليوكوف وكيرنسكي “الديموقراطية” بعد ثورة شباط 1917، التي تعكس مصالح البورجوازية والبيروقراطية، خلال الأشهر الثمانية من وجودها، إلى إفهام الأمم المضطهدة موقفها الرافظ بقولها بالضبط: “لن تنالوا الا ما ستنتزعونه بالقوة”. كما انجذبت أوساط أوسع من الجماهير صوب البلاشفة بسبب رفعه شعار “السلم والخبز” في ظل المجاعة التي كانت تعصف بروسيا. إن كل هذه الشعارات الديمقراطية التي طرحها البلاشفة لم تكن ذات مضمون اشتراكي، وقد جذبت جماهير الجنود والعمال والفلاحين على وجه الخصوص صوب البلاشفة، وهو ما تؤكده الوثائق التاريخية السوفييتية نفسها. ولم يكن شعار الاشتراكية مطروحاً على نطاق واسع في المجتمع بالاساس، بل كانت شعارات السلم والأرض والخبز وحل المشكلة القومية هي الشعارات التي تمتعت بالشعبية، وهو سر تعاظم نفوذ البلاشفة في صفوف الجيش والاسطول، اضافة الى تعزز مكانتهم الطبيعية في المحتشدات العمالية أو بين الفلاحين الفقراء بسبب تبني البلاشفة لهذه الشعارات. ولكن مع ذلك، فإن كل ذلك الرصيد الشعبي للبلاشفة لم يشكل بمضمونه “الحركة الواعية المستقلة للأكثرية الساحقة”، كما يشير إليها ماركس، كشرط لانجاز ثورة اجتماعية تسعى لتحقيق المساواة والعدالة في توزيع الثروة وبناء مجتمع خال من الاستغلال.
لقد تمتع البلاشفة دون غيرهم من الأحزاب بقوة ضاربة في القوات المسلحة الروسية، وخاصة في الاسطول. وكاد ان يكون هو الحزب المسلح الوحيد المنضبط في البلاد، بل وتحول الحزب عملياً من مؤسسة سياسية الى اشبه بفرقة عسكرية. كما تمتع الحزب بدعم البروليتاريا في المدن الصناعية الرئيسية أي موسكو وبتروغراد وايفانوفو، هذه البروليتاريا المنظمة ولكنها المحدودة عددياً، والتي لم تشكل في كل روسيا الا بضع عشرات الالاف من العمال، مما مكن الحزب من احداث التغيير في العاصمة بتروغراد وموسكو ثم السيطرة على مناحي البلاد بعد حرب اهلية ضروس.
إن التركيبة السكانية لروسيا قبيل ثورة اكتوبر وعشية الحرب العالمية الأولى كانت غير مؤهلة للتوجه صوب الاشتراكية، إذ كانت على الوجه التالي: فمن بين 140 مليون نسمة من نفوس روسيا، لم يشكل العمال والموظفون سوى قرابة 23 مليون نسمة (العمال الصناعيين قرابة مليون ونصف عامل والعمال الزراعيين 6 مليون مع عوائلهم)؛ أي 16% من السكان، في حين شكل الفلاحون والبرجوازية الصغيرة والحرفيون قرابة 90 مليون نسمة، ومنهم الكولاك ويشكلون قرابة 17 مليون مع عوائلهم. أما الاقطاعيون والبرجوازية الكبيرة والمتوسطة والكولاك والتجار، فيشكلون قرابة 22 مليون نسمة، والطلاب والعسكريون والمتقاعدون يشكلون قرابة 3 ملايين نسمة. ويشير ليون تروتسكي في محاضرة له عن الثورة الروسية قبل قطيعته مع البلاشفة قائلاً:” يعبر تأخر روسيا في القرن العشرين عن نفسه على أوضح صورة كالتالي؛ تحتل الصناعة مكانا ضئيلا بالمقارنة مع القرية، وكذلك البروليتاريا مقابل الجماهير الفلاحية. وهذا بالإجمال يعني إنتاجية منخفضة للعمل القومي. كما سادت علاقات انتاجية ما قبل الاقطاعية وأقطاعية وشبه اقطاعية في الأطراف الروسية. فقد عاش 25 مليون نسمة في تلك المناطق في ظروف ما قبل الرأسمالية، ومنهم 6 مليون نسمة يشكلون قبائل رعوية لم تنتقل بعد إلى العمل في الأرض ولم تتحرر من البناء الأبوي القبلي.
وبشكل عام كانت روسيا تفتقد إلى القاعدة الرصينة لانتاج الثروة، وخاصة البنى الارتكازية التي يمكن الاستناد إليها للتوجه صوب الاشتراكية. فبالرغم من أن مساحة روسيا شكلت سدس العالم، فلم يوجد فيها عشية الثورة إلاّ جزء يسير من الطرق والسكك الحديدية. ولم تستخدم القوات الروسية في الحرب العالمية الأولى الآلة الحديثة في النقل واعتمدت على الجياد والحيوانات في نقل معداتها وجنودها. وببساطة لم تُنتج في روسيا تلك الثروة التي يمكن توزيعها على البروليتاريا الروسية في ظل الاشتراكية، فروسيا لم تمر بعملية خلق الثروة ضمن نظام رأسمالي حقيقي بسبب ضعف البنية الانتاجية. فما يوجد من المؤسسات بغالبيتها هي مؤسسات استخراج المواد الخام أو بعض مصانع النسيج، وهذا ما يطبع الاقتصاد الروسي حتى الآن رغم المحاولات للخروج من هذا المأزق. ولهذا فإن الدخل القومي عشية الحرب، عندما بلغت روسيا القيصرية أوج ازدهارها، بلغ ثماني إلى عشر مرات أقل منه في الولايات المتحدة. إن هذا المؤشر يعبر رقمياً عن “مدى” التأخر، هذا إذا كان ممكنا بوجه عام استعمال كلمة مدى بالنسبة للتأخر”.
لقد شهد مطلع القرن العشرين جملة من الثورات والحروب. وكانت أحد الأسباب هو الضعف الذي بدأ ينخر في الأمبراطوريات القائمة آنذاك وتنامي الوعي الديمقراطي لدى شعوب المتربول والمستعمرات على حد سواء، مما أغرق العالم بموجة من الأفكار الثورية والغلو الثوري والإصلاحية والفوضوية وحتى الفاشية التي تركت أثرها الكبير على الأحداث في تلك الفترة الملتهبة. فلم تكن الثورة في روسيا سواء في شباط أم في أكتوبر عام 1917 إلاً حلقة حتمية من حلقات ذلك العالم المتلاطم الأمواج في بداية القرن العشرين. ففي عام 1905 أندلعت الثورة الديمقراطية في كل من روسيا وإيران (ثورة المشروطة)، وتبعتها الثورة الدستورية في الامبراطورية العثمانية في عام 1908، والثورة في البرتغال عام 1910 حيث أعلنت الجمهورية في البلاد وحفزت كل أنصار الجمهورية في أوربا، والثورة في الصين عام 1911، وأعبقتها الثورة المكسيكية (1910-1917). ونشوب الثورة في ألمانيا عام 1918، ثم إعلان الجمهورية البافارية السوفييتية في 1919. وأعقب ذلك إعلان الجمهورية السوفييتية في منطقة گيلان – إيران التي استمرت من حزيران عام 1920 وحتى أيلول عام 1921 بزعامة ميرزا كوجك خان، وتبعتها الثورة العراقية ضد الاحتلال البريطاني المطالبة بالاستقلال في حزيران عام 1920. هذا إلى جانب انتعاش حركات التحرر الوطني في الهند وأفغاستان ومصر ضد التسلط الاستعماري البريطاني.
ان اهم الاستنتاجات باعتقادي هي التالية:
اولاً: أعتقد انه مازال مبدأ تعاقب التشكيلات الاجتماعية الاقتصادية الذي طرحه كارل ماركس والذي تم تجاهله لاحقاً يحتفظ بصحته وحيويته. فمن غير الممكن تجاوز اية مرحلة من مراحل تطور المجتمع والقفز عليها والهروب إلى الأمام. ولهذا، وفي المرحلة الراهنة، لابد للمجتمعات الانسانية ان تمر في التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية الرأسمالية الى أن تستنفذ هذه التشكيلة دورها التاريخي. كما لا يمكن التعويل على حدوث ثورات اشتراكية في بلدان متطورة كوسيلة لانتصار ثورة اشتراكية في بلدان ضعيفة التطور لا تشكل البروليتاريا نسبة عالية في تركيبة المجتمع، كما عوّل البلاشفة الروس على انتصار الثورة الاشتراكية في ألمانيا كعامل حاسم في انتصار الثورة الاشتراكية في روسيا الضعيفة التطور. فهذا التعويل حتى ولو افترض أنه كان صحيحاً، فقد إنهار مع فشل الثورة في ألمانيا. كما لا يمكن النقل الميكانيكي للثورة الاشتراكية في ألمانيا إلى روسيا الضعيفة التطور في حالة انتصار الثورة في ألمانيا.
ولذا لابد ان يجري اليسار والحركات الاشتراكية والتقدميةاعادة دراسة الجوانب المعرفية لماركس بالدقة الاكاديمية، والبحث فيما هو سليم وما هو قد شاخ في هذه المنظومة المعرفية. كما ينبغي التخلي عن التفسيرات المبسطة لافكار ماركس والتي وصلت الى حد الابتذال بعد رحيله. وقد كان مايكل هارينغتن الاشتراكي البريطاني ومؤلف كتاب “الاشتراكية ماضي ومستقبل”، محقاً عندما قال:”ان كارل ماركس كان ثورياً وديمقراطياً واشتراكياً، الا ان منهجه قد جرى تحويله الى كاريكاتور، والى حد التفاهة سواء من قبل من يسمون بالماركسيين او من قبل خصوم الماركسية”. نعم لقد جرى تحويل هذه المعارف للأسف الى مجرد تعاويذ ومفاهيم دوغمائية لا اكثر، وفقدت جوهرها المنطقي الجدلي على يد هؤلاء.
وخلاصة القول أن الاشتراكية والشيوعية تبدأ بالنمو في أحشاء الرأسمالية تدريجياً عن طريق الحد من جميع أشكال الاستغلال والهيمنة والاستلاب المفروضة على الفرد والمجتمع في ظل العلاقات الرأسمالية وإرساء أجزاء من المجتمع الجديد الخال من الاستغلال (ونشاهد بعض هذه العناصر والمؤسسات في العديد من الدول الرأسمالية الأوربية التي أقيمت أثناء تولى الحكم فيها الاشتراكيون الديمقراطيون). فالنضال في هذه الحالة لا يتركز على هدف الظفر بالسلطة السياسية والشروع ببناء الاشتراكية على أساس القضاء على العلاقات الرأسمالية، وإنما على العمل المتواصل ضد منطق الرأسمال والربح في جميع ميادين النشاط الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي لإزاحته، وإحلال منطق بديل يضع مصلحة الإنسان في المقدمة بدلاً من الربح. ويتحقق ذلك عبر صراع مثابر جماهيري للطبقة العاملة وكل الفئات الاجتماعية المتضررة من أسلوب الانتاج الرأسمالي من اجل تحقيق مكاسب وإنجازات اجتماعية واقتصادية تقدمية متزايدة للشغيلة، وتوسيع مديات الديمقراطية وتطبيقات حقوق الإنسان. وتستثنى من ذلك إمكانية تخطي الرأسمالية في بلد لم تتطور فيه الرأسمالية كتشكيلة اجتماعية– اقتصادية سائدة.
ثانياً: ان كل تشكيلة جديدة تراكم عناصرها في رحم التشكيلة القديمة موضوعياً. ولكن دور العامل الذاتي يكمن في رعاية وتعزيز التراكم التدريجي الموضوعي الارتقائي لعناصر التشكيلة الجديدة وليس خلقه أو نفيه، وصولا الى استقراره بمختلف الطرق والوسائل. فعلى سبيل المثال أن تستفيد الحركات الاشتراكية من جانب ايجابي في ظاهرة العولمة التي توحد شعوب العالم كي تتقدم تتدريجياً نحو تطويق الجوانب السلبية في الرأسمالية المعاصرة. علماً أنه لا يمكن للتشكيلة الاجتماعية الاقتصادية القديمة ان تنهار بانقلاب او ثورة أو بقرار حزبي مهما كانت درجة نفوذه إلاّ بعد ان تستنفد هذه التشكيلة دورها التاريخي ومبررات وجودها وديمومتها، وهذه هي مصائر كل التشكيلات السابقة. كما لا يمكن ان تنزاح التشكيلة الرأسمالية الا بعد ان تدخل في ازمة لا مخرج منها خاصة في انتاجية العمل وفي التناقض بين قوى الانتاج والعلاقات الانتاجية، وعندها تنتفي مبررات استمرارها، ويتم الانتقال إلى تشكيلة أرقى بأشكال واساليب يصعب تحديدها حسب المكان والزمان.
ثالثاً: لا اعتقد انه بالأمكان وصف الانظمة في الاتحاد السوفياتي او في دول اوربا الشرقية بأنها انظمة اشتراكية. إن الملكية التي أرسيت في الاتحاد السوفييتي هي ملكية الدولة على وسائل الانتاج، وليس الملكية العامة للمنتجين الأحرار، كما تفترضه التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية للاشتراكية. وتشهد كل تجارب العالم أن ملكية الدولة، وفي ظل انعدام أي دور مباشر للمنتجين والرقابة العامة للشعب على المؤسسات وفي ظل انعدام الديمقراطية، فهذا الضرب من الملكية لا يؤدي إلاّ إلى استشراء البيروقراطية والفساد وهذا ما تؤكده جميع التجارب التي طبقت سلسلة من الاجراءات لفرض ملكية الدولة. وكمثال بسيط على حجم الفساد في الاتحاد السوفييتي ،نشير الى احصائية رسمية صدرت في اواخر عام 1989 تؤكد ان حجم الاموال المتداولة في السوق السوداء قد بلغ 340 مليار روبل، وهو ما يعادل 50% من حجم كل الكتلة النقدية المتداولة في الاتحاد السوفييتي آنذاك.
لو كانت هذه الانظمة اشتراكية فعلاً لعالجت مشكلة البيروقراطية والفساد، ولتفوقت على الدول الرأسمالية في كل جوانب الحياة وخاصة في انتاجية العمل وتحقيق الوفرة في الانتاج، التي اعتبرها لينين “من اهم شروط الانتصار على الرأسمالية”. فالوفرة في الانتاج والتقدم العلمي والتكنولوجي. كما أن البناء الاشتراكي يطبق من قبل المنتجين الأحرار، وليس من قبل اسلوب عمال “السخرة” الذي فرضته السلطة السوفييتية باستخام عمل السجناء السياسيين من شيوعيين وعسكريين ومعارضين لبناء مؤسسات مائية ضخمة كقنال فولغا – الدون التي افتتحت عام 1952، وتولي السجناء البحث عن الخامات في سيبريا وغيرها بالسخرة دون أن يتمتعوا بالأجور ولا الحقوق..
رابعاً: ينبغي التأكيد على ان انهيار الانظمة في بلدان اوربا الشرقية لا يضفي صفة الديمومة والاستقرار الابدي والأزلي على الانظمة الرأسمالية الاستغلالية، او أنها تستطيع أن تتفادى الازمات التي كان بعضها من الخطورة بحيث اصابت البلدان الرأسمالية بالركود لفترة طويلة كأزمة عام 1929. الا ان هذه الازمات لم تؤد الى انهيارها بشكل مباشر. واستطاعت الرأسمالية ان تجدد نفسها ولكن الى حين. ويورد الشيوعي المصري المرحوم الدكتور فؤاد مرسي في مؤلفه الهام “الرأسمالية تجدد نفسها”، والذي اصدرته سلسلة دار المعرفة الكويتية في الثمانينيات، شرحاً وافياً ومستدلاً يغني القارئ بالعديد من الامثلة والمعطيات الاكاديمية المقنعة حول أفاق تطور التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية الرأسمالية وحالها الراهن.
خامساً: ان كل العوامل السلبية التي واجهت النظام السوفييتي مثل الحرب الاهلية والحرب العالمية الثانية والمساعدات السوفييتية الى الدول الاخرى على فداحتها وحجمها ، لا يمكنها ان تشكل الا دوراً ثانوياً في فشل عملية بناء المجتمع الجديد. فمثل هذه العوامل لم تواجه دولاً اخرى في اوربا الشرقية كجيكوسوفاكيا على سبيل المثال، الا انها هي الاخرى لم تستطع بناء المجتمع المنشود وفشلت وانهار النظام فيها.
سادساً: ولعل الاخفاق الاهم للانظمة السياسية في الاتحاد السوفييتي ودول اوربا الشرقية هو فشلها في بناء النظام السياسي التقدمي الديمقراطي اللائق بالانسان وحماية حقوقه. لقد تم توجيه النقد الى نمط البناء السوفييتي بشكل مبكر وحتى في فترة تصدر لينين لزمام الامور، حيث نبّه العديد من الاشتراكيين الديمقراطيين والشيوعيين من امثال كاوتسكي ومارتوف وبليخانوف واكسيلرود وروزا لوكسمبورغ وكارل ليبنيخت وغرامشي وروي وسلطانزاده الى خطورة هذا الخيار بإعتباره يؤسس لدولة ديكتاتورية، مما اثار ردود فعل شديدة ضدهم. وهناك من فقد من القادة الشيوعيين السوفييت والاجانب حياتهم في حملات التصفية، ومنهم جمهرة من المهندسين والخبراء المتطوعين من بلدان أوربية والولايات المتحدة للمساعدة على إعادة إعمار الاتحاد السوفييتي وتقديم الخبرة له، بسبب من نقدهم للنظام السياسي السوفييتي الذي قيّد الحريات واشاع نمط الزعامة الفردية وفتح الباب امام المحاكم المريعة ومعسكرات العمل والتصفيات الرهيبة. وتواصل هذا النقد حتى انهيار الدولة السوفييتية بدءاً بمدرسة فرانكفورت الماركسية في الثلاثينيات وانتهاءاً بالشيوعية الاوربية.
لقد كان عقد الثلاثينيات من أكثر العقود إيلاماً بسبب حملات القمع التي تعرض لها شيوعيون وديمقراطيون وعلماء ومثقفون وعسكريون ونقابيون وقادة رأي. فمن بين 28 من أعضاء “القوميسارية الشعبية”(مجلس الوزراء السوفييتي)، تعرض للقمع والتصفيات 20 منهم. وخلال نصف سنة من عامي 1936 و 1937 جرى تصفية ألفين من قادة الجمهوريات الاتحادية. وبعد عام 1937، تم محاكمة وتصفية غالبية قادة الجيش والأسطول البالغ عددهم 36 ضابط، وأعدم ثلاثة من أصل خمسة من مارشالات الاتحاد السوفييتي، مما ألحق دماراً بالجيش والاسطول مما أدى إلى أضعاف الاتحاد السوفييتي أمام هجوم القطعان النازية في عام 1941.
سابعاً: نعم لقد انجزت السلطة السوفييتية إصلاحات كثيرة، فحولت بتحويل الشعب الامي (95% من السكان اميين) الى شعب متعلم. ونسفت السلطة الجديدة كل اركان العلاقات الاجتماعية البالية من المشاعية الى العبودية والاقطاعية التي كانت سائدة في اكثرية بقاع روسيا الشاسعة، دون ارساء البديل الملائم. وقد حققت الثورة الكثير من الانجازات والاصلاحات على صعيد التنمية الصناعية والعناية الصحية والتعليم. كما ان ما طرحته الثورة من شعار حق تقرير المصير وتطبيقاته، كان من العوامل التي أثرت على شعوب العالم المضطهدة وحفزها للمطالبة بتحررها ودك معاقل النظام الاستعماري للأمبريالية. وكانت شعارات الثورة الداعية الى العدالة الاجتماعية عوناً لنضال الطبقة العاملة الاوربية وقوى الاشتراكية لتحقيق خطوات اصلاحية ذات ملامح اشراكية في بلدانها، وخاصة اثناء تسلم الاشتراكيين الديمقراطيين السلطة عبر انتخابات ديمقراطية في بعض بلدان القارة الاوربية. ويعود السبب في ذلك الى وجود قاعدة مادية تؤمن تحقيق هذه العناصر.
الا ان البلاشفة لم يستطيعوا تحقيق بناء البديل الاشتراكي المنشود في بلادهم. ان حسن النية والاحلام النبيلة والدعوات الصادقة لبناء مجتمع عادل خال من الاستغلال والظلم السياسي والاجتماعي، وعلى مر التاريخ، هي غير كافية لوحدها إن لم تقترن بوجود ظروف موضوعية وبنظرة واقعية ودراسة علمية الى الواقع الملموس بعيداً عن ذرائع التمسك بالمُثل والأحلام او التعصب لها كي يتم تغيير المجتمع لصالح كل بني البشر. وكما يشير كارل ماركس في مؤلفه “اطروحات عن فيورباخ” الذي دونه في عام 1985 وعثر عليه بعد وفاته وطبع من قبل رفيق دربه عام 1888:”إن العملية الثورية تعتمد على أوسع الجماهير الشعبية وليس على حلقة ضيقة من الثوار، وهناك ضرورة لنضوج الممهدات المادية والاجتماعية والسياسية والثقافية كي تنتصر الاشتراكية. ويشير المؤرخ وعضو اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي قبل الثورة نيقولا ريجكوف بحق في مقالة له حول “المسألة الزراعية” أن: “هناك ممهدان أساسيان يجب أن يتوفرا في أي نظام اجتماعي من أجل نضجه للاشتراكية وهما: السيادة التامة للمؤسسات الكبيرة في كل فروع الاقتصاد والتعاون الفعال للقوى الرأسمالية لتحقيق انتاج وافر”.
لقد اخفق الكثير من المفكرين والاصلاحيين في إدراك ذلك من أجل تحقيق هذه الاهداف سواء في تاريخنا او في التاريخ الانساني. وينبغي إن تتحول مثل هذه الاخفاقات إلى عبر ودروس للساعين إلى العدالة والمساواة رغم مرارتها، وهي كما يصفها المفكر الروسي الكبير لوناچيرسكي قائلاً: “ان الشخصيات النبيلة في التاريخ، غالباً ما تلقى مصرعها في الاشتباك مع الواقع؛ لا لأنها لا تستوعبه، بل لانها لا تريد ان تتنازل عن مثلها العليا التي تعتبر عصية على التحقيق في الظروف المعطاة”.
اكتوبر 2017

About عادل حبه

عادل محمد حسن عبد الهادي حبه ولد في بغداد في محلة صبابيغ الآل في جانب الرصافة في 12 أيلول عام 1938 ميلادي. في عام 1944 تلقى دراسته الإبتدائية، الصف الأول والثاني، في المدرسة الهاشمية التابعة للمدرسة الجعفرية، والواقعة قرب جامع المصلوب في محلة الصدرية في وسط بغداد. إنتقل الى المدرسة الجعفرية الإبتدائية - الصف الثالث، الواقعة في محلة صبابيغ الآل، وأكمل دراسته في هذه المدرسة حتى حصوله على بكالوريا الصف السادس الإبتدائي إنتقل إلى الدراسة المتوسطة، وأكملها في مدرسة الرصافة المتوسطة في محلة السنك في بغداد نشط ضمن فتيان محلته في منظمة أنصار السلام العراقية السرية، كما ساهم بنشاط في أتحاد الطلبة العراقي العام الذي كان ينشط بصورة سرية في ذلك العهد. أكمل الدراسة المتوسطة وإنتقل إلى الدراسة الثانوية في مدرسة الأعدادية المركزية، التي سرعان ما غادرها ليكمل دراسته الثانوية في الثانوية الشرقية في الكرادة الشرقية جنوب بغداد. في نهاية عام 1955 ترشح إلى عضوية الحزب الشيوعي العراقي وهو لم يبلغ بعد الثامنة عشر من عمره، وهو العمر الذي يحدده النظام الداخلي للحزب كشرط للعضوية فيه إعتقل في موقف السراي في بغداد أثناء مشاركته في الإضراب العام والمظاهرة التي نظمها الحزب الشيوعي العراقي للتضامن مع الشعب الجزائري وقادة جبهة التحرير الجزائرية، الذين أعتقلوا في الأجواء التونسية من قبل السلطات الفرنسية الإستعمارية في صيف عام 1956. دخل كلية الآداب والعلوم الكائنة في الأعظمية آنذاك، وشرع في تلقي دراسته في فرع الجيولوجيا في دورته الثالثة . أصبح مسؤولاً عن التنظيم السري لإتحاد الطلبة العراقي العام في كلية الآداب والعلوم ، إضافة إلى مسؤوليته عن منظمة الحزب الشيوعي العراقي الطلابية في الكلية ذاتها في أواخر عام 1956. كما تدرج في مهمته الحزبية ليصبح لاحقاً مسؤولاً عن تنظيمات الحزب الشيوعي في كليات بغداد آنذاك. شارك بنشاط في المظاهرات العاصفة التي إندلعت في سائر أنحاء العراق للتضامن مع الشعب المصري ضد العدوان الثلاثي الإسرائيلي- الفرنسي البريطاني بعد تأميم قناة السويس في عام 1956. بعد انتصار ثورة تموز عام 1958، ساهم بنشاط في إتحاد الطلبة العراقي العام الذي تحول إلى العمل العلني، وإنتخب رئيساً للإتحاد في كلية العلوم- جامعة بغداد، وعضواً في أول مؤتمر لإتحاد الطلبة العراقي العام في العهد الجمهوري، والذي تحول أسمه إلى إتحاد الطلبة العام في الجمهورية العراقية. وفي نفس الوقت أصبح مسؤول التنظيم الطلابي للحزب الشيوعي العراقي في بغداد والذي شمل التنظيمات الطلابية في ثانويات بغداد وتنظيمات جامعة بغداد، التي أعلن عن تأسيسها بعد إنتصار الثورة مباشرة. أنهى دراسته الجامعية وحصل على شهادة البكالاريوس في الجيولوجيا في العام الدراسي 1959-1960. وعمل بعد التخرج مباشرة في دائرة التنقيب الجيولوجي التي كانت تابعة لوزارة الإقتصاد . حصل على بعثة دراسية لإكمال الدكتوراه في الجيولوجيا على نفقة وزارة التربية والتعليم العراقية في خريف عام 1960. تخلى عن البعثة نظراً لقرار الحزب بإيفاده إلى موسكو-الإتحاد السوفييتي للدراسة الإقتصادية والسياسية في أكاديمية العلوم الإجتماعية-المدرسة الحزبية العليا. وحصل على دبلوم الدولة العالي بدرجة تفوق بعد ثلاث سنوات من الدراسة هناك. بعد نكبة 8 شباط عام 1963، قرر الحزب إرساله إلى طهران – إيران لإدارة المحطة السرية التي أنشأها الحزب هناك لإدارة شؤون العراقيين الهاربين من جحيم إنقلاب شباط المشؤوم، والسعي لإحياء منظمات الحزب في داخل العراق بعد الضربات التي تلقاها الحزب إثر الإنقلاب. إعتقل في حزيران عام 1964 من قبل أجهزة الأمن الإيرانية مع خمسة من رفاقه بعد أن تعقبت أجهزة الأمن عبور المراسلين بخفية عبر الحدود العراقية الإيرانية. وتعرض الجميع إلى التعذيب في أقبية أجهزة الأمن الإيرانية. وأحيل الجميع إلى المحكمة العسكرية في طهران. وحكم عليه بالسجن لمدة سبع سنوات، إضافة إلى أحكام أخرى طالت رفاقه وتراوحت بين خمس سنوات وإلى سنتين، بتهمة العضوية في منظمة تروج للأفكار الإشتراكية. أنهى محكوميته في أيار عام 1971، وتم تحويله إلى السلطات العراقية عن طريق معبر المنذرية- خانقين في العراق. وإنتقل من سجن خانقين إلى سجن بعقوبة ثم موقف الأمن العامة في بغداد مقابل القصر الأبيض. وصادف تلك الفترة هجمة شرسة على الحزب الشيوعي، مما حدى بالحزب إلى الإبتعاد عن التدخل لإطلاق سراحه. وعمل الأهل على التوسط لدى المغدور محمد محجوب عضو القيادة القطرية لحزب البعث آنذاك، والذي صفي في عام 1979 من قبل صدام حسين، وتم خروجه من المعتقل. عادت صلته بالحزب وبشكل سري بعد خروجه من المعتقل. وعمل بعدئذ كجيولوجي في مديرية المياه الجوفية ولمدة سنتين. وشارك في بحوث حول الموازنة المائية في حوض بدره وجصان، إضافة إلى عمله في البحث عن مكامن المياه الجوفية والإشراف على حفر الآبار في مناطق متعددة من العراق . عمل مع رفاق آخرين من قيادة الحزب وفي سرية تامة على إعادة الحياة لمنظمة بغداد بعد الضربات الشديدة التي تلقتها المنظمة في عام 1971. وتراوحت مسؤولياته بين منظمات مدينة الثورة والطلبة وريف بغداد. أختير في نفس العام كمرشح لعضوية اللجنة المركزية للحزب إستقال من عمله في دائرة المياه الجوفية في خريف عام 1973، بعد أن كلفه الحزب بتمثيله في مجلة قضايا السلم والإشتراكية، المجلة الناطقة بإسم الأحزاب الشيوعية والعمالية العالمية، في العاصمة الجيكوسلوفاكية براغ. وأصبح بعد فترة قليلة وفي المؤتمر الدوري للأحزاب الممثلة في المجلة عضواً في هيئة تحريرها. وخلال أربعة سنوات من العمل في هذا المجال ساهم في نشر عدد من المقالات فيها، والمساهمة في عدد من الندوات العلمية في براغ وعواصم أخرى. عاد إلى بغداد في خريف عام 1977، ليصبح أحد إثنين من ممثلي الحزب في الجبهة التي كانت قائمة مع حزب البعث، إلى جانب المرحوم الدكتور رحيم عجينة. وأختير إلى جانب ذلك لينسب عضواً في سكرتارية اللجنة المركزية ويصبح عضواً في لجنة العلاقات الدولية للحزب. في ظل الهجوم الشرس الذي تعرض له الحزب، تم إعتقاله مرتين، الأول بسبب مشاركته في تحرير مسودة التقرير المثير للجنة المركزية في آذار عام 1978 وتحت ذريعة اللقاء بأحد قادة الحزب الديمقراطي الأفغاني وأحد وزرائها( سلطان علي كشتمند) عند زيارته للعراق. أما الإعتقال الثاني فيتعلق بتهمة الصلة بالأحداث الإيرانية والثورة وبالمعارضين لحكم الشاه، هذه الثورة التي إندلعت ضد حكم الشاه بداية من عام 1978 والتي إنتهت بسقوط الشاه في شتاء عام 1979 والتي أثارت القلق لدي حكام العراق. إضطر إلى مغادرة البلاد في نهاية عام 1978 بقرار من الحزب تفادياً للحملة التي أشتدت ضد أعضاء الحزب وكوادره. وإستقر لفترة قصيرة في كل من دمشق واليمن الجنوبية، إلى أن إنتدبه الحزب لإدارة محطته في العاصمة الإيرانية طهران بعد إنتصار الثورة الشعبية الإيرانية في ربيع عام 1979. وخلال تلك الفترة تم تأمين الكثير من إحتياجات اللاجئين العراقيين في طهران أو في مدن إيرانية أخرى، إلى جانب تقديم العون لفصائل الإنصار الشيوعيين الذين شرعوا بالنشاط ضد الديكتاتورية على الأراضي العراقية وفي إقليم كردستان العراق. بعد قرابة السنة، وبعد تدهور الأوضاع الداخلية في إيران بسبب ممارسات المتطرفين الدينيين، تم إعتقاله لمدة سنة ونصف إلى أن تم إطلاق سراحه بفعل تدخل من قبل المرحوم حافظ الأسد والمرحوم ياسر عرفات، وتم تحويله إلى سوريا خلال الفترة من عام 1981 إلى 1991، تولى مسؤلية منظمة الحزب في سوريا واليمن وآخرها الإشراف على الإعلام المركزي للحزب وبضمنها جريدة طريق الشعب ومجلة الثقافة الجديدة. بعد الإنتفاضة الشعبية ضد الحكم الديكتاتوري في عام 1991، إنتقل إلى إقليم كردستان العراق. وفي بداية عام 1992، تسلل مع عدد من قادة الحزب وكوادره سراً إلى بغداد ضمن مسعى لإعادة الحياة إلى المنظمات الحزبية بعد الضربات المهلكة التي تلقتها خلال السنوات السابقة. وتسلم مسؤولية المنطقة الجنوبية حتى نهاية عام 1992، بعد أن تم إستدعائه وكوادر أخرى من قبل قيادة الحزب بعد أن أصبح الخطر يهدد وجود هذه الكوادر في بغداد والمناطق الأخرى. إضطر إلى مغادرة العراق في نهاية عام 1992، ولجأ إلى المملكة المتحدة بعد إصابته بمرض عضال. تفرغ في السنوات الأخيرة إلى العمل الصحفي. ونشر العديد من المقالات والدراسات في جريدة طريق الشعب العراقية والثقافة الجديدة العراقية والحياة اللبنانية والشرق الأوسط والبيان الإماراتية والنور السورية و"كار" الإيرانية ومجلة قضايا السلم والإشتراكية، وتناولت مختلف الشؤون العراقية والإيرانية وبلدان أوربا الشرقية. كتب عدد من المقالات بإسم حميد محمد لإعتبارات إحترازية أثناء فترات العمل السري. يجيد اللغات العربية والإنجليزية والروسية والفارسية. متزوج وله ولد (سلام) وبنت(ياسمين) وحفيدان(هدى وعلي).
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.