مأساة إمبراطور الصين الأخير

نهاية الثمانينات أو بداية التسعينات من القرن الماضي , كنت قد شاهدت الفلم السينمائي ( الإمبراطور الأخير ) الذي يتحدث عن الإمبراطور الصيني الأخير ( بو. يي ) , أسمه الأوربي ( هنري ) :

ومنذ ذلك اليوم يرعبني تصور مصائر البشر في هذه الحياة . نعم بعض الناس تولد وتعيش وتموت في حياة معتدلة , ليس فيها صعود غير متوقع , أو هبوط حاد , لكن بعض البشر حياتهم هي ليست أكثر من حانة أقدار , تطوحهم صعودا ونزولا , لا ترحمهم في الصعود , ولا ترحمهم في النزول , حيث الموت ليس أكثر من أمنية بعيدة المنال .

الحياة العجيبة لهذا الإمبراطور لا يمكن وصفها إلا ببيتين من قصيدة للشاعر طاهر أبو فاشا غنتهما أم كلثوم ولحنهما

مذكرات إمبراطور الصين الأخير

الموسيقار محمد الموجي , يقولان :

حانة الأقدار عربدت فيها سواقيها ونام النور والهوى صاحي

هذه الأقدار كيف تسقيها وساقيها بها مخمور كيف يا صاحي ؟

هذه السطور عن حياة هذا الإمبراطور مأخوذة من كتاب مذكراته المنشور باللغتين الصينية والإنكليزية .

يوم السابع من شباط عام 1906 ولد طفل في الصين لعائلة غنية ومميزة , أطلق عليه أسم ( بو . يي ) وكان موعودا منذ ذلك اليوم أن يصير إمبراطورا على الصين ورمزا تاريخيا من رموزها .

منذ ألفي سنة تقريبا كانت قد حكمت الصين سلالات عديدة , كل واحدة منها حكمت عدة قرون ثم أغارت عليها قبائل من المغول أو التتار فأسقطتها , والى أن يقوى عود سلالة غيرها فتسيطر على مقاليد الأمور من جديد .

سلالة ( مان جو ) كانت تحكم الصين منذ 250 سنة حين قررت تسمية ( بو . يي ) إمبراطورا مقبلا . أفراد المان جو يعتبرون أنفسهم أكثر تحضرا من بقية أهل الصين , ويتكلمون لغة صينية خاصة , ولهم أزياؤهم الخاصة بهم , ولهذا فالأسرة الحاكمة من هذه السلالة لا يحبها الشعب .

نساء الطبقات الغنية في هذه الدولة يطولن أظافرهن كما يحلو لهن , ويلبسن في نهايات أصابعهن لحماية الأظافر واقيات من ذهب مرصعة بالجواهر , في حين أن فقراء الناس كانوا يكدحون من الفجر حتى المغرب . وحيث أن الضواحي كانت مخصصة لقصور الأثرياء , فإن الفقراء كانوا مجبرين على العيش في مدن قذرة وملوثة , وعوائل عديدة كانت تعيش في بيت واحد صغير , يكون على الأغلب غرفة واحدة وكأنهم سمك معلب . وفي بعض الأحيان كان عليهم مشاركة هذه الغرفة مع حيواناتهم , خصوصا في الأحوال الجوية السيئة .

عائلة ( بو . يي ) كانت تعيش مرتاحة ويخدمها جيش من الخدم , وكأعضاء في الأسرة الحاكمة فقد كان قصرهم يقع في الضاحية , وكان القصر قد بني بإتجاه يتعاكس مع الشيطان والأرواح الشريرة ورياح المرض . وكانوا ينفقون الكثير من المال على ثيابهم الفاخرة ومجوهراتهم , ويعملون بأقل ما يقدرون .

على الرغم من أن والد ( بو . يي ) الأمير جن , هو إبن أخ حاكمة الصين ( الإمبراطورة سيزي ) إلا أنه كان ضعيفا في السياسة ويقضي معظم وقته في الحفلات , لكن عمته الإمبراطورة المسنة التي لم يكن لها أولاد وعدته أنه إذا أنجب ولدا فسيكون ذلك الولد هو الإمبراطور الذي سيعقبها على حكم الصين .

حين صار عمر ( بو . يي ) سنتين , أخذ من عائلته وأدخل الى المدينة المحرمة , عمته العظمى سيزي كانت على فراش الموت , لكنها كانت إمراة قوية مخيفة وكان الناس يلقبونها بإسم ( السيدة دراغون ) . المدينة المحرمة تقع في بكين , وفيها العديد من القصور والمعابد والحدائق الجميلة ومسيجة بسياج عالي جدا ولا يسمح لغير العائلة الإمبراطورية بدخولها , مع خدمهم ومستشاريهم .

العربات التي يحملها العبيد كانت مرغوبة للتنقل داخل المدينة المحرمة , الإمبراطورة كانت تتنقل في عربة مصنوعة من الذهب يحملها 16 عبد قوي . وفي السنوات اللاحقة كان الصينيون قد إبتدعوا سباقات حمل العربات .

في الصين لم يكن مسموحا للنساء بالحكم , ولذلك فالفتاة التي ترث الحكم تتزوج من رجل ضعيف , لتواصل الحكم بأمرها من خلال وجوده , لهذا حين أنجبت الإمبراطورة سيزي ولدا عام 1862 فقد عينته مباشرة إمبراطورا وحكمت بإسمه , لكنه مات عام 1874 , عندها إختارت أخاها المريض ( يانغ زو) ليكون الإمبراطور الواجهة الذي تحكم من خلاله , لكنهما إختلفا عام 1908 فخلعته عن الحكم ورمته في السجن , وعينت بعده الطفل ( بو . يي ) إمبراطورا . وكان عمره عندها سنتان فقط .

حين وصل الإمبراطور الصغير الى المدينة المحرمة أخذوه الى عمته العظمى , كانت جالسة على العرش وترتدي تاجا به 4000 لؤلؤة , عدا عن حجر اليشم الأخضر الذي طعمت به أساورها وخواتمها , أما حذاؤها الصيني الصغير فقد كان مرصعا باللؤلؤ واليشم .

حجر اليشم كان معتبرا لدى الصينيين بسبب لونه الأخضر الدافيء ونعومته الفائقة , كما أنه من أكثر الأحجار الكريمة متانة , من الممكن أن يتكسر , لكنه يتشكل بسهولة , عده الصينيون رمزا للشرف والنبل والإستقامة , وإستخدموه لصناعة الحلي والتماثيل , وتقلده رسميا الأباطرة في المدينة المحرمة ليبرهنوا على مقدار رفعتهم .

وقد كانت صورة هذه المرأة المريضة الشاحبة بكل هذه المجوهرات , مدهشة ومقلقة بالنسبة للإمبراطور الصغير الذي أخبرته انه سيكون الإمبراطور الذي سيحكم من بعدها وانها منحته منذ الآن إسما إمبراطوريا هو : الإمبراطور ( زان تونغ ) , الذي يعني ( نشيد الثناء ) . ومنذ هذا اليوم لم تعد حياة ( بو . يي ) كما كانت , ففي اليوم التالي ماتت الإمبراطورة سيزي , وحين وضعت في قبرها , دفنت بالأحجار الكريمة والمجوهرات .

والد ( بو . يي ) عاش في المدينة المحرمة ليكون وصيا على العرش حتى يبلغ إبنه سن تولي الحكم , أما بقية العائلة وبضمنهم الأخوة والأخوات , فلم يسمح لهم بدخول المدينة المحرمة , أو بزيارة أخيهم . لكن زوجات الإمبراطور السابق يانغ زو , صرن له بمثابة أمهات بالتبني , وفريق مكون من 9000 راهبة ومخصي يقومون على تنفيذ كل رغباته ليل نهار . كان يتم إخصاء الخدم الذكور للمحافظة على نقاء الإمبراطور ( إبن السماء ) . ولم يكن يسمح له باللعب مع الأطفال أو مغادرة المدينة المحرمة , وقد كان بحق , طفلا سجينا , محاط بالبالغين الذين يعاملونه على أنه ( رب حي ) .

كتب عن كيف كان يقضي وقته في تلك الفترة قائلا :

9 صباحا أنهض مبكرا وأتناول الإفطار .

10 صباحا ألعب الشطرنج وأفوز بسهولة , يبدو لا أحد هنا يريد هزمي .

11 صباحا مطاردة شعرية مع كبيرالمخصيين , أيضا أفوز بها .

12 الظهر أرسم لوحة عن بيتي الجميل .

1 ظهرا الغداء يقدم حالما أطلبه .

2 ظهرا ألعب لعبتي المفضلة ( الختيلة ) .

3 عصرا أصيد من بحيرة القصر الكثير من السمكات الملونة .

4 عصرا ألعب الكريكت , وضربتي جدا قاسية , فعلا أنا بطل .

5 عصرا الأوبرا الصينية , آآه بدأت , إنها مملة , والإعتراض عليها لا يكترث له كثيرا .

9 مساءا مفرقعات نارية , عظيم , الكثير من الضوضاء والألوان والمرح .

كان على الجميع في المدينة المحرمة أن يلبسوا ملابسهم ويسرحوا شعرهم بنفس الطريقة , الرجال يطولون شعورهم ويرسلونها على ظهورهم على شكل ظفيرة تشبه ذيل الحصان , كان المان جو يقدرون الحصان كحيوان نبيل , ويقلدونه في تسريحاتهم . أما النساء فقد كن يربطن شعرهن بنفس طريقة ذيل الحصان مع فارق أنهن يقمن ببرم الظفيرة حول نفسها حتى تصبح على شكل كرة . ثياب الجميع كانت مصنوعة من الحرير أو القطن ومزينة برسوم حيوانات أسطورية يعتقدون أنها تحمي لابس الثوب من الأذى وتجلب له الحظ الطيب . كان الصينيون يصنعون الحرير منذ 2000 سنة ويصدرونه الى الخارج مما جعلهم أغنياء .

كان للإمبراطور الصغير ( بو . يي ) إمتياز خاص , كانت الرسمة التي على حرير ثيابه لحيوان دراغون بخمسة رؤوس تتعارك مع بعضها وتقذف من أفواهها نارا , وكان يلبس حذاءا بكعب عالي ليبدوا أكبر من عمره , ولكن الإمتياز الأهم من كل هذا , أنه لم يكن يسمح لأي شخص غيره في المدينة المحرمة بإرتداء اللون الأصفر . كل الأشياء الخاصة به كان لونها أصفر , عربته الإمبراطورية التي يحملها العبيد , وسرج حصانه , والصحون التي يأكل فيها , بل وحتى كيس مخدته كان أصفر اللون .

يتذكر الإمبراطور حادثة يسردها لنا في هذا المجال فيقول : ذات يوم جاءت أمي وأخي وأختي لزيارتي في المدينة المحرمة وكنا لم نلتق منذ أربع سنوات , وكنت مشتاقا لهم بشدة . لعبنا لعبتي المفضلة ( الختيلة ) داخل القصر , وفي منتصف اللعب , لاحظت فجأة لون أكمام أخي .. وكان أصفرا . غضبت وإستبد بي حنق شديد , فخاف مني أخي , وحاول أن يشرح لي بأن أكمام جاكيته ليست صفراء , وإنما لونها بيج . على أي حال , لم أتقبل ذلك وجعلت أخي يركع أمامي ويطلب مني المغفرة , فلا أحد غير الإمبراطور يحق له إستعمال اللون الأصفر , حتى لو كان أخا الإمبراطور .

الطعام كان مناسبات عظيمة في المدينة المحرمة . في كل يوم كانوا يعدون للإمبراطور 25 صنفا مختلفا , يطبخها جيش من الطهاة , وتكون جاهزة للتقديم في أي لحظة يأمر بها جلالته ليلا أو نهارا . للإفطار كانوا يعدون له عشرة أصناف فقط , أما الغداء فكان عشرين صنفا تقدم له بعد أربع ساعات , أما للحديث عن الكمية , فإن هذه الأطعمة كانت توضع على 6 موائد ضخمة أمام الإمبراطور , الصحن الواحد يتمكن من حمله شخصان , أما أدوات المائدة فلم تكن غير العيدان الخشبية الصينية المعروفة .

الإمبراطورة سيزي السابقة كانت لها شهية أكبر للطعام , وكانت تختار من بين 150 صنف يوميا , وترتشف النبيذ من كؤوس مصنوعة من حجر اليشم الأخضر, وتستعمل أعواد من ذهب عوضا عن الأعواد الخشبية . في هذه الفترة كان السم يستعمل بكثرة للتخلص من الأعداء والأشخاص غير المرغوبين , وهناك حكايات عن حوادث تسميم الكثير من أقارب ( بو . يي ) ولهذا كان الخدم يأكلون من هذه الأطباق قبل الإمبراطور للتأكد من عدم تسميمها .

في العام 1911 وقعت الثورة الصينية وتحولت الصين الى جمهورية , وفي العام 1912 تم إجبار ( بو . يي ) على التنازل عن العرش مع السماح له بالبقاء في المدينة المحرمة ( كان عمره وقتها 6 سنوات ) .

كل الثورات التي وقعت في العالم وحولت الأنظمة الملكية الى جمهورية , كانت بمساعدة ومد من الولايات المتحدة الأمريكية التي بدأت قوتها تتعاظم بعد الثورة الأمريكية وصارت خطرا على الأحلاف الإمبراطورية القديمة , خصوصا على العلاقة المتينة التي تربط البريطانيين بكل من ممالك الصين واليابان . كان هناك صراع بريطاني أمريكي على ممالك الشرق ومناطق المحيط الهادي النائية . وقد ساعد الأمريكان تحول الصين الى جمهورية ليقلبوا شكل نظامها ويخربوا على البريطانيين كل العهود والمواثيق والتحالفات التي وقعتها الصين مع البريطانيين منذ مئات السنين .

سنة 1919 تمكن البريطانيون من الوصول الى الإمبراطور الطفل المخلوع ( بو . يي ) داخل المدينة المحرمة بوساطة ضابط من الكولينالية البريطانية يدعى ريجنالد جونستون , تم تعيينه رسميا كمعلم للغة الإنكليزية لهذا الصبي ( 13 سنة ) , لكنه كان في نفس الوقت ضابط إتصال بينه وبين الحكومة البريطانية .

عرف جونستون الإمبراطور الطفل على العادات الغربية والتكنولوجيا الحديثة , ومنحه إسما إنكليزيا هو ( هنري ) وقد إستعمل الطفل هذا الأسم طول حياته . كذلك قلق المعلم على حياة الطفل في المدينة المحرمة ولاحظ انه بحاجة ماسة الى الخروج من بين الجدران والترويح عن نفسه . وذات يوم وكانا في الدرس حين لاحظ المعلم أن تلميذه لا يتمكن من الرؤية بشكل جيد وأنه بحاجة الى نظارات , فإستدعى شخصا ليصنعها له . رسميا كان الموقف في المدينة المحرمة من هذه النظارة متشككا , أعتقد البعض أن النظارة ستجعل الإمبراطور يبدو أوربيا , لكن الإمبراطور لم يهتم لذلك وبقي يضع النظارات طيلة حياته .

يكتب الإمبراطور في مذكراته عن مدرسته قائلا :

9 صباحا يسجل المستر جنستون الحضور ولم يستغرق ذلك كثيرا لأني الطالب الوحيد في الصف .

9 وخمس دقائق . درس الشعر . أنا أحب الشعر وكتبت بعض منه , ولي بعض القصائد المنشورة . قلمي إسمه ( وحيد القرن المتألق ) .

10 صباحا درس التاريخ . أدرس فيه تاريخ أجدادي .

11 صباحا درس الخط والرسم , وهو درسي المفضل , المستر جونستون وضع لي نجمة ذهبية على إنجازي .

12 ظهرا إستراحة غداء قصيرة , ثم أعود للرسم

2 ظهرا درس اللغة الإنكليزية مع المستر جونستون . متعة كبيرة . أحب السفر مع معلمي الى أوربا ذات يوم .

بسبب رغبة المستشارين القانونيين بعودة الإمبراطور المخلوع الى الحكم , نصحوه بالزواج في سن مبكرة وكان لم يزل مراهقا , قالوا إن جلوس إمبراطورة الى جانبه على العرش سيجعله مقبولا بين الناس . جلبت له صور فوتوغرافية لبنات السلالة الإمبراطورية مان جو ليختار واحدة منهن , لكن مستوى التصوير لم يكن جيدا لذلك إختار واحدة إسمها ( وين زو ) تبين فيما بعد أنها قبيحة الى الحد الذي لا يمكنها من حمل لقب إمبراطورة . ثم كان خياره الثاني للجميلة ( وان رنج ) التي أصبحت زوجة رسمية له وإتخذت لها إسما بريطانيا هو ( اليزابيث ) , بينما المرأة الأخرى بقيت زوجة ثانية , لكنها لا تظهر معه في المراسيم العامة .

الزواج في الصين قضية معقدة حتى بالنسبة الى إمبراطور . للعثور على الفتاة المناسبة عليك أن تجد ( الخاطبة ) التي تدبر لك الأمور بشكل جيد , وبعد العثور على الفتاة يجب قراءة الطالع والتأكد من تناسب البرجين للعريس والعروس , بعدها يكتب العقد ويتم تبادل الهدايا , لتحديد موعد الزفاف يؤخذ الطالع مرة أخرى , وأخيرا يقام حفل الزفاف . صباح يوم الزفاف تستحم العروس بعصير العنب وتلبس فستان الزفاف الأحمر وتصعد في عربة يحملها العبيد أو الخدم بعد أن تتسلم من أهل العريس رسالة تأكيد أنهم يقبلونها في عائلتهم .

ذات مرة وحين كان الإمبراطور مراهقا حاول الهرب من المدينة المحرمة عن طريق رشوة الحرس , فأخذ الحرس نقوده ووشوا به , ولم يفعلها مرة أخرى فيحاول تخطى بوابة المدينة التي كانت الأوضاع خارجها ليست على ما يرام . فقد كان هناك من يرغبون بعودة الإمبراطور , وهناك من يدعمون الجمهورية , ثم أدخلت الشيوعية الى الصين .

عام 1924 واحد من زعماء الحرب الشيوعيين الذين يكرهون أسرة مان جو هاجم المدينة المحرمة , فأجبر الأمبراطور المخلوع على مغادرتها الى مكان آمن حاملا معه حقيبة سفر مليئة بأنفس المجوهرات . خارج أسوار مدينته المحرمة لم يكن إلا رجلا من عامة الناس إصطحب عائلته الى السفارة اليابانية في بكين , ومن هناك الى المدينة اليابانية المحمية ( تاينجن ) التي كان فيها للإمبراطور العديد من المناصرين . والحياة مختلفة تماما في هذه المدينة المفتوحة حيث الإمبراطور وزوجتاه يتمتعون بالحياة الإجتماعية الصاخبة ويلتقون بالشعراء والأدباء والفنانين , ويدفع الإمبراطور الكثير من الهدايا والأموال لمن يظن انهم قد يستطيعون إعادته الى العرش .

الكثير من الصينيين مدمنون على الأفيون , الذي يستخرج من بذور نبات الخشخاش , وكان يستعمل منذ مئات السنين في الصين كمخدر ( بنج ) ولكن حين تعود الناس خلطه مع التبغ وتدخينه فقد صار إدمانه مشكلة كبيرة في الصين . الإمبراطورة إليزابيث كانت مدمنة افيون إعتادت عليه منذ تلك الحياة المملة داخل المدينة المحرمة , وأدمنت عليه في حياتهم المفتوحة الجديدة التي كانت غريبة عليها في كل شيء .

الحياة الخاصة لهذه العائلة لم تعد سعيدة , الزوجة الإمبراطورة مدمنة والزوجة الأخرى تتعامل بغيرة شديدة وتطالب بالطلاق , والزوج مشغول بمطالب العودة الى العرش , وحين قام الثوريون الصينيون بتسليب المجوهرات من أضرحة أجداده , ضاعت الكثير من أحلامه وتنامى من جديد كرهه الشديد للصينيين .

من الحكايات التي كانت تدور في مدينة تاينجن حول هذه العائلة قولهم مثلا : شوهد الإمبراطور السابق بصحبة زوجته الجميلة إليزابيث يتسوقان ,إشترت هي ثلاثة ثياب من الحرير الفاخر , بينما أصر هنري على شراء دبوس ربطة عنق وعصاة مشي مطعمين بالماس .

أو يقولون : سمعنا فضيحة تقول إن هنري حجز فرقة موسيقية لتعزف في عيد ميلاد زوجته , بعدها فجأة ألغى الحجز , ويقال أن هناك تحذير رسمي وجه الى هنري بأن إستعراضه للثروة بهذا الأسلوب الغربي لا يتناسب مع وضع إمبراطور سابق للصين يريد العودة الى عرشه .

الثورة في الصين الآن ستأخذ منحى شيوعيا , بإيعاز من الولايات المتحدة , ليضمن الأمريكان الدعم الروسي للصين من ناحية , وضمان إستحالة تنسيق العلاقات ما بين ( الصينيين كشيوعيين ) مع الإمبراطوريتين القديمتين إنكلترا واليابان , لكن إنكلترا واليابان لم تقفا مكتوفتي الأيدي , فقد غزت اليابان منشوريا الصينية وإحتلها عام 1931 وأسست فيها إمبراطورية ( مانجوكو ) , ثم عرضوا الحكم على هنري فقبله بسرعة , وسرعان ما خاب أمله بشدة , فقد تبين أنه ليس أكثر من إمبراطور ( صوري ) لحكم هذه الدولة , فكل القرارات المهمة كانت تتخذ في اليابان بمشاورة بريطانيا . كانوا يقرأون مراسلاته كلها , ولم يكن يسمح له بالحديث إلا الى أقرب المعارف .

عدد من الأديان أو الفلسفات كانت قد إتبعت في الصين . تعاليم كونفيشيوس كانت تقول إن البشر يجب أن يعاملوا بقانون عادل , وأن كل إنسان لو عرف مكانه ومقامه الصحيح فالحياة ستصبح رائعة . أما الطاوية فقد كانت تتوخى التناسق في كل شيء وتؤمن بالثنائية كالسالب والموجب , والأرض والسماء . سأل اليابانيون هنري أن يغير ديانته ويعتنق الديانة الشنتوية التي يؤمن بها اليابان , لذلك ففي العلن كان يعلن الشنتوية , لكنه يعترض عليها في السر ويصر على البوذية .

شجعه اليابانيون على الزواج من جديد من فتاة يابانية لتكون لهم عينا عليه داخل بيته , إعترض في البداية لكنه وافق في النهاية فتم إختيار ( يوكين ) وهي بنت عائلة يابانية ثرية لتكون عروسا له .

إستمر الإمبراطور في حياته المحمية والخالية من أي هدف , لأن موقعه كإمبراطور هو موقع ( شرفي ) قليل الواجبات , أما الحكم الحقيقي فهو بيد مجلس الوزراء . أثناء الحرب العالمية الثانية إستعملت اليابان إمبراطورية ( مانجوكو ) كقاعدة لها . عام 1945 كان السوفيت يحتلون الإمبراطورية بأجمعها , ويعتقلون الإمبراطور ويأخذونه أسيرا الى الإتحاد السوفيتي , زوجاته بقين في الخلف ولم يشاهدهن مرة ثانية أبدا .

عده السوفييت شاهدا مهما على ما قام به اليابانيون ضد السوفيت وحلفائهم الغربيين . جعلوه يقر بكل جرائم الحرب التي قام بها اليابانيون ضد الحلفاء .

وكانت تلك أيام عسيرة لا يعرف مصيره فيها , لكن السوفييت بعد خمس سنوات من الأسر قرروا أخيرا إعادته الى الصين عام 1950 . وبسبب علاقته السابقة مع اليابان عده الصينيون خائنا وتم إلقاؤه في معسكر إعتقال حتى عام 1959 .

يكتب عن يومه في المعتقل قائلا :

7 صباحا الفطور : عصيدة مع خضر مخللة و بيض مملح ورز .

8 صباحا تنظيف المكان وغسل الثياب .

12 ظهرا الفلاحة , أقوم بحفر مروز للخضراوات .

2 ظهرا الغداء , كنت أنا الذي أغرف لبقية المساجين طعامهم .

3 عصرا صناعة صناديق تعبأ فيها أقلام الرصاص .

4 عصرا وقت القراءة _ جلبوا لنا كتاب لينين الأحمر .

6 مغربا العشاء , رز مع الدجاج يوميا .

7 مساءا الإعتراف الى السلطات , وعدتهم أن أصير شبيها بالرئيس ماو وقرأت لهم مما حفظت من أقواله من كتابه الأحمر .

8 مساء البدء بكتابة مذكراتي هذه .

11 ليلا تطفأ أضواء المعسكر .

في معسكر الإعتقال الصيني كانوا قد سخروا من ( بو . يي ) وضحكوا عليه , وضد رغبته وعقيدته البوذية التي تحرم قتل الروح أجبروه على قتل الفئران والحشرات , وجعلوه ينام مع غيره من المساجين في نفس الزنزانة , كما تم إجبار ( الإمبراطور مرتين سابقا ) , الروحاني , على تعلم خبرات لم يكن يعلم عن وجودها من قبل , أشياء بسيطة مثل صبغ حذائه أو خياطة زر قميصه .

أرسل للعمل في مزارع السجن كفلاح , فصار حبه الحقيقي للطبيعة يتنامى , العمل بين الخضرة منحه نوعا من الحرية حرم منها تماما في المدينة المحرمة أثناء طفولته , كما حرم منها خلال الخمس عشرة سنة التي قضاها في سجون السوفييت والصينيين .

عام 1959 أطلق سراحه , قرر الحزب الشيوعي الصيني أنه قد تم تأهيل هذا الرجل للحياة في مجتمع شيوعي ولن يحسب خائنا بعد اليوم . ومنح عفوا خاصا من الرئيس ماو .

كان عليه أن يبدأ الآن شوطا جديدا من حياته كمواطن صيني عادي جدا . عينته الحكومة في الحدائق البوتانية في العاصمة بكين ليعمل بحرف متعددة ( فلاح , كناس , منظف , جامع أزبال ) . كما عثر على بيت مهدم ولا يبعد سوى خطوات عن ( المدينة المحرمة ) فإستأجره وسكن فيه .

بعد خروجه من السجن تعرف على ممرضة تدعى ( شوكسين ) وتزوجها عام 1962 , كان مغرما بها , إذ لم يعد له أي شيء في الحياة سواها .

( بيته السابق _ المدينة المحرمة ) صارت مفتوحة الان لعامة الناس , وبصفته مواطنا عاديا كان عليه ان يقف في الصف ليقطع تذكرة لزيارة المكان الذي ملكه وتربى فيه صغيرا … حتى هو لم يكتب عما كان يجول في خاطره تلك اللحظات , غير أني أظن أنه في تلك اللحظات بالذات , كان يستطيع رؤية المعنى الحقيقي للحياة , أفضل منا جميعا .. فهو لم يخسر ملكه فقط , ولكن تخلى عنه الكل أيضا , الصينيون والبريطانيون واليابان والأمريكيون , لم يتخلوا عنه كإمبراطور فقط … ولكن كإنسان أيضا .

عام 1966 بدأ ماوتسي تونغ برنامجا يدعى ( الثورة الثقافية ) ضد كل الموروث الصيني القديم : الأفار القديمة , العادات القديمة , والتقاليد والأخلاق القديمة .

الحرس الأحمر هاجم ودمر المعابد وأحرق الكتب والأعمال الفنية , هاجموا أي شخص يشتبه أنه لا يتفق مع هذه الثورة . غصت السجون بالمعتقلين , وبعضهم مات من الضرب , أو من نقص العناية الصحية والتغذية داخل السجن . إستمرت الثورة الثقافية حوالي ثلاث سنوات , كانت قد جعلت الصين شعبا بلا ذاكرة .

في معمعة هذه الحرب الثقافية مات ( بو . يي ) عام 1967 بسبب السرطان كما أعلن … أما حقيقة موته فلن يعرفها أحد قط … في بلد أحرقت حماقات ماوتسي تونغ تاريخه … وهو يعيش اليوم شعباً بلا ذاكره . ميسون البياتي – مفكر حر؟

About ميسون البياتي

الدكتورة ميسون البياتي إعلامية عراقية معروفة عملت في تلفزيون العراق من بغداد 1973 _ 1997 شاركت في إعداد وتقديم العشرات من البرامج الثقافية الأدبية والفنية عملت في إذاعة صوت الجماهير عملت في إذاعة بغداد نشرت بعض المواضيع المكتوبة في الصحافة العراقية ساهمت في الكتابة في مطبوعات الأطفال مجلتي والمزمار التي تصدر عن دار ثقافة الأطفال بعد الحصول على الدكتوراه عملت تدريسية في جامعة بغداد شاركت في بطولة الفلم السينمائي ( الملك غازي ) إخراج محمد شكري جميل بتمثيل دور الملكة عالية آخر ملكات العراق حضرت المئات من المؤتمرات والندوات والمهرجانات , بصفتها الشخصية , أو صفتها الوظيفية كإعلامية أو تدريسة في الجامعة غادرت العراق عام 1997 عملت في عدد من الجامعات العربية كتدريسية , كما حصلت على عدة عقود كأستاذ زائر ساهمت بإعداد العديد من البرامج الإذاعية والتلفزيونية في الدول العربية التي أقامت فيها لها العديد من البحوث والدراسات المكتوبة والمطبوعة والمنشورة تعمل حالياً : نائب الرئيس - مدير عام المركز العربي للعلاقات الدوليه
This entry was posted in الأدب والفن, دراسات علمية, فلسفية, تاريخية. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.