مأزق القراءة الحرفية للقرآن والأحاديث (3)

بقلم بابكر فيصل بابكر/
قلت في مقال سابق إن فتح باب الاجتهاد في قراءة النصوص الإسلامية أضحى أمرا حتميا حتى تخرج المجتمعات الإسلامية من حالة الجمود والتخلف وتستطيع مجاراة التغييرات التي طرأت على الكثير من القضايا مثل الرق والعبودية والمرأة والقتال والعلاقة مع غير المسلم.
قبل أن أكمل كتابة سطور ذلك المقال، وبينما كنت أمارس عادتي المحببة في الاستماع للراديو قبل النوم، أدرت المؤشر فوقع على إذاعة سودانية محلية اسمها “طيبة”، وكانت في تلك اللحظة تبث حلقة من برنامج بعنوان “بريق المواعظ” يقدمه الداعية السلفي الراحل “محمد سيد حاج”، وقد أدركت جزءا كبيرا من الحلقة التي يبدو أنها كانت مخصصة لموضوع العلاقة مع غير المسلم.
تناول الداعية محمد سيد حاج الحديث الوارد في صحيح مسلم والذي يقول: “حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا عبد العزيز يعني الدراوردي عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تبدؤوا اليهود ولا النصارى بالسلام فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه”.


إن المواطنة المتساوية وليس عقد الذمة هي التي تنظم العلاقات بين الناس داخل الدولة القومية
وكذلك تطرق في حديثه للآية 29 من سورة التوبة: “قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون فيه”.
قال الداعية إن حديث التضييق على أهل الكتاب من الأحاديث الصحيحة وبالتالي لا مجال لإنكار نسبته للرسول الكريم أو الالتفاف عليه، وكذلك فإنه لا يوجد مجال لنفي حكم آية الجزية، ومضى ليشرح كلامه بالقول إن “عجز المسلمين اليوم عن تطبيق أحكام الآيات والأحاديث التي تحكم علاقة المسلم بغيره من أهل الكتاب أو المشركين لا يعكس قصورا في تلك الأحكام، بل ينبئ عن ضعف المسلمين اليوم”، وعليه فإن تلك الآيات والأحاديث ستظل باقية حتى يأتي “رجال من المسلمين أفضل منا لتطبيقها”.
من الجلي أن الراحل محمد سيد حاج لا يعترف بالتغيرات الزمانية الهائلة التي طرأت على المجتمعات الإنسانية وما أحدثته من تغيير في أرض الواقع يجعل من الضرورة السعي لإيجاد اجتهاد جديد في قراءة النصوص حتى تواكب ذلك التغيير. فهو يرى أن تلك الأحكام يجب أن تظل ثابتة حتى يظهر جيل مؤمن قوي من الرجال يقوم بفرض تطبيقها.
كانت العلاقات المجتمعية والدولية في فترة ظهور تلك النصوص تقوم على الفرز الديني، حيث لم يكن قد ظهر حينها مفهوم “الدولة/الأمة” الذي يساوي بين جميع الناس ويجعل من “المواطنة” أساسا للحقوق والواجبات بغض النظر عن انتمائهم الديني أو العرقي أو غير ذلك، وبالتالي فإن الفقه الذي تم إنتاجه قبل مئات السنين لا يتماشى مع الحقائق الجديدة التي تتطلب اجتهادا مغايرا يجاري حقائق العصر.
إن العلاقة بين المسلمين وأهل الكتاب كان يجري ترتيبها بحسب “عقد الذمة” الذي يجعل من الأخيرين مواطنين من الدرجة الثانية بحسب المفاهيم الحالية؛ فهم مجبورون على دفع الجزية لأنهم يعيشون في “دار الإسلام” وتحت حماية المسلمين. ولذلك ظهرت أبواب عديدة في الفقه القديم تعالج أدق التفاصيل التي تنظم العلاقة معهم، وفيها من الأحكام ما يستحيل تطبيقه في زماننا هذا.
وإليك أيها القارئ الكريم هذا النص المنزوع من كتاب “الروض المربع شرح زاد المستنقع” للشيخ منصور البهوتي (توفي عام 1050 هجري) وهو شرح على متن “زاد المستنقع في اختصار المقنع” لمؤلفه الشيخ شرف الدين أبو النجا موسى الحنبلي (المتوفي عام 960 هجري) وهو من الكتب التي كانت تدرس حتى وقت قريب في معاهد الأزهر الشريف.
فيما يخص بعض الأحكام المتعلقة بأهل الذمة يقول الكتاب: “ويلزمهم (أي أهل الذمة) التمييز عن المسلمين بالقبور بأن لا يدفنوا في مقابرنا والحلق بحذف مقدم رؤوسهم لا كعادة الأشراف ونحو شد زنار ولدخول حمامنا بجلجل أو نحو خاتم رصاص برقابهم، لهم ركوب غير الخيل كالحمير بغير سرج فيركبون بأكاف وهو البرذعة ولا يجوز تصديرهم في المجالس ولا القيام لهم ولا بدأتهم بالسلام أو بكيف أصبحت أو أمسيت أو حالك”.
النص أعلاه يخالف روح العصر ومبادئ الدولة الحديثة، فهو يلزم أهل الذمة بحلق شعر رؤوسهم بطريقة لا تشبه حلاقة الأشراف من المسلمين، وهو كذلك يحرمهم من ركوب الخيل ويسمح لهم فقط بركوب الحمير ولكن من غير “برذعة” (والبرذعة ما يوضع على ظهر الحمار أو البغل ليركب عليه، وهي كالسرج للفرس)، كما ينص الكتاب كذلك على أن الذمي إذا أراد دخول حمام المسلمين فيجب عليه ربط “جلجل” وهو الجرس الصغير على رقبته حتى نستطيع تمييزه عن المسلم!
هذه الأحكام بما فيها من تمييز يقوم على أساس الدين هي مجرد أمثلة بسيطة لما تحتويه كتب الفقه، ومن المؤكد أن تطبيقها مستحيل في عالم اليوم، إذ أنها تحط من قدر الإنسان غير المسلم وتجعله في مرتبة أدنى بكثير من المسلم.
إن الفقه الذي تم إنتاجه قبل مئات السنين لا يتماشى مع الحقائق الجديدة التي تتطلب اجتهادا مغايرا يجاري حقائق العصر
إن المواطنة المتساوية وليس عقد الذمة هي التي تنظم العلاقات بين الناس داخل الدولة القومية، حتى وإن كانت هناك أكثرية تعتنق دينا معينا، وذلك لأن موضوع الأكثرية والأقلية لا ينطبق على فكرة الحقوق في الدولة الحديثة، التي تقتضي المساواة الكاملة بين جميع المواطنين مهما كان عددهم، لأنه من الناحية النظرية فإن الأقلية يمكن أن تنقلب إلى أكثرية.
ومن المفارقات التي تثير الدهشة في هذا السياق هي أن البرنامج الإذاعي الذي نتحدث عنه والذي يدعو لأخذ الجزية من أهل الكتاب والتضييق عليهم في الطريق، يتم بثه برعاية شركة “سوداني” للهاتف السيار (الجوال) وهي الذراع الرئيسي لشركة “سوداتل للاتصالات” التي تمتلك الحكومة السودانية 30 في المئة من قيمة أسهمها.
تقوم الحكومة تقوم بجباية الضرائب من المسلمين والمسيحيين على وجه السواء، وهذا يعني أن الأسهم التي تمتلكها الحكومة في شركة “سوداتل” قد تم تمويلها جزئيا من قبل دافع الضرائب المسيحي أو غير المسلم على وجه العموم، وبالتالي فهل يستقيم عقلا ويصح قانونا أن تقوم تلك الشركة برعاية برامج تدعو للانتقاص من حقوق مموليها من دافعي الضرائب غير المسلمين؟
وكذلك فإن شركة “سوداتل” وذراعها الرئيسي شركة “سوداني” تجنيان أرباحا طائلة من الأموال التي يدفعها المشتركين من غير المسلمين، وهو الأمر الذي كان يجب أن يمنعهما من رعاية مثل هذا البرنامج!
وهكذا فإنه يثبت في كل مرة أن المجتمعات الإسلامية في حاجة ماسة لفتح باب الاجتهاد في قراءة النصوص الدينية حتى تستطيع مواكبة المستجدات العصرية وإحداث الانفتاح العقلي الذي من شأنه أن يفتح آفاقا واسعة للحاق بركب الأمم المتقدمة.

شبكة الشرق الأوسط للإرسال

This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.