لغة واحدة ، أم لغتان ؟ ( ج2 )

اللهجات الآرامية
ان التغييرات التي حصلت في نشأة اللغة العربية ، هي نفسها التي حصلت أيضا على اللغة الآرامية ، فهي أيضاً تفرعت الى لهجات متباينة . لا لكثرة القبائل الناطقة بها ، بل لاختلاط ناطقيها بالمجتمعات المجاورة أكثر من اختلاط الأقوام العربية ، وهو ما أضفى على اللغة الآرامية ألوانا جديدة لم تألفها في بزوغها، ومما هو معروف ان للآراميين لهجتين منذ القدم :
الاولى ــ اللهجة الشرقية : وتشمل لهجات بلاد الرافدين عامة .
الثانية ــ الآرامية الغربية : وتشمل لهجات سورية وفلسطين وطور سينا .
والفرق بين اللهجتين يعود الى كيفية النطق والى نوع الأعجمي من الألفاظ الدخيلة ، واتجاه الصيغ الأدبية وغيرها . وكل لهجة منهما تركت آثاراً خطيّة منذ أقدم العصور ، وقد درسها خبراء اللغات السامية الا أنهم لم يستطيعوا الى الآن وضع كتاب في قواعدها وأصولها .
ولكن اذا قارنّا النصوص الأثرية الكثيرة المكتشفة بما هي عليه في اللغة الآرامية الآن ، نجد أن هذه اللغة لم يطرأ عليها تغيير كبير ، وهو ما يمكن التوصل الى أصول اللهجات الاولى .
وهذا ما سار عليه خبراء اللغة الآرامية ابتداءا من القرن الرابع الميلادي الى العصور المتأخرة ، فتركوا مجلدات هامة في قواعدها وأصولها ، ووضعوا المعاجم الهامة في تحري ألفاظها ومفرداتها .
أما أسباب نشوء اللهجات الكثيرة لهذه اللغة . فهي سعة انتشارها ، وكثرة الشعوب التي امتزج بها أهلها ، فقد شملت بلاد الشام والجزيرة الشمالية وبلاد الرافدين الى حدود بلاد فارس شرقاً ، ومن ثم الى بلدان أرمينيا واليونان وآسيا الصغرى شمالاً ، وحدود بلاد العرب جنوباً .
ولم يكن من الممكن حفظ هذه اللغة من التشضي الى لهجات شتى بحسب كل شعب من الشعوب المختلفة المتكلمة بها ، وعليه نرى فروقاً جمّة بين لهجاتها حتى لا يكاد المتكلم بلهجة نينوى مثلاً ان يفهم المتكلم بلهجة الشام ، ولا هذان يستطيعان ان يفهما المتكلم بلسان فلسطين ، وهذا ما أثبتته أبحاث خبراء اللغات السامية .
وتتفرع اللغة الآرامية الى لهجتين رئيسيتين ، وهما بشكل مختصر:
1- اللهجة الشرقية :
ان اللهجة الآرامية الشرقية هي اللهجة الفصحى النقية التي انتشرت يوماً ما في بلاد بابل ، وما جاورها من الأمصار . وهي التي تعلّمها اليهود في السبي أيام نبوخذ نصر بسبعة قرون قبل الميلاد، واخذوها معهم بعد رجوعهم من الجلاء .
الا أن هذه اللهجة عينها تفرعت الى لهجتين متباينتين ، الأولى : وهي الفصحى وكانت لغة الخاصة ، والثانية لغة العامة: وتمازجها ألفاظ واصطلاحات غريبة كثيرة .
ويسمي الكتاب المقدس هذه اللهجة عامة ( آرامية ) . وسماها ربانيوا اليهود (سريانية) ودعاها العهد الجديد العبرانية .
وأهم هذه اللهجات المتفرعة عن اللهجة الشرقية في بلاد بابل هي اللهجة المندائية (وهي لهجة الصابئة المندائيين في بلاد سومر وبابل ، وكذلك في بلاد فارس ، والتي كتب بها التلمود البابلي) ، واللهجة المانوية المندثرة ، ويلحق خبراء الساميات بها اللهجة النبطية ايضاً .
ومن فروع اللهجة الشرقية أيضاً اللهجة العبرية بشقييها ، الجليلي ، واللهجة السامرية واختص بها سكان مدينة السامرة وما جاورها .

2- اللهجة الغربية :
كانت هذه اللهجة منتشرة في سوريا ابتداءا من مدينة الرها ، و نهر الفرات شرقاً الى البحرالأبيض المتوسط غرباً ، ولتشتمل ربوع لبنان كلها. وكانت لغة الآداب منذ أول نشوء اللهجات قبل بزوغ المسيحية بقرون عدة ، ونقلت عن الهياكل الوثنية والتماثيل والصخور والاسطوانات وغيرها .

ويحدثنا ” ابن العبري” عن تشعب اللغة الآرامية على أثر انتشار أبنائها في الأصقاع ، واختلاطهم بالأمم المجاورة لهم ، وابتعاد اللهجات الآرامية بعضها عن بعض ابتعاداً كبيرا، ويقول :
” يجب ان نعلم أن اللغة الآرامية انتشرت في بلاد قاصية أكثر من جميع اللغات ، وهو الذي سبب تشعبها حتى أن الذين كانوا يتكلمونها كانوا لا يتفاهمون الا بترجمان . وكأنهم يسمعون بعضهم من بعض لغة غريبة ، فإن سكان سورية يتكلمون لهجة غريبة عن لهجة فلسطين ، وكذلك المشارقة الذين ابتعدوا كثيراً عن الأصل أكثر من هؤلاء واتبعوا اللهجة الكلدانية وانتسبوا اليها ” .

واذا اعتبرنا هذه الناحية حسبما يرويها ابن العبري ، لنجد أن الفروقات التي نشات بين اللهجات الآرامية اكثر تأثيراً من الفروقات الناشئة بين اللهجات العربية ، وأن هذه اللهجات ابتعدت بعضها عن بعض كثيرا، الا أن هذه الاختلافات التي نشأت بين اللهجات المحكيّة فقط دون لغة الكتابة والادب ، لأن الآثار الآرامية المكتشفة تدلّ على أن تلك الفروق لم تكن فاصلة بين اللهجات الآرامية المختلفة بالشكل الذي ذكره ابن العبري. . ومهما يكن فإنا نجد أن جميع اللهجات تلاشت ولم يبق الا اللهجتان المعروفتان ، وهاتان أيضاً لا تختلفان الا باللفظ فقط ، وهما تتّفقان في كل شيء سواه .
ومن مراكز الثقافة الآرامية التي أفاد منها أكثر ما يكون الفكر العربي مدينة حرّان الآرامية التي ازدهرت في كثير من نواحي المعرفة الانسانية من علم وأدب ودين واتصلت بالفلسفة اليونانية القديمة ، واستخدمها علماؤها ومفكريها في البلاط العباسي في نقل القسم الكبير من الفلسفة والعلوم الأغريقية من اللغتين اليونانية والآرامية الى العربية .
وكما ذكرنا سابقاً بان اللغتين العربية والآرامية نشأتا نحو مطلع الألف الثاني قبل الميلاد ، ولا يمكن تقديم احداهما على الأخرى تاريخياً ، وان كانت الآرامية تركت آثاراً قيّمة سبقت فيها الآثار العربية بعهد طويل ، وذلك لأسباب اجتماعية تخص الامتين العربية والآرامية .
فان العربية بقيت وقتاً طويلاً منعزلة في فلواتها الواسعة بعيدة عن أعين التاريخ ، ويظهر أن العرب في تلك الأيام لم يميلوا الى تدوين أخبارهم لأسباب محتملة ، وربما كان ذلك لعدم انتشار الكتابة عندهم الى حين ظهور مدنيات عربية في أعماق الجزيرة العربية ، حيث تركت آثاراً وان كانت قليلة الا أنها تدل على مستوى هام في الحضارة والمدنية .
وأما اللغة الآرامية فقد تبعت أهلها الآراميين ، فاحتكّت بالأمم المجاورة ، ونشأت فيها حضارات كبيرة وعظيمة في وادي الرافدين وسهول سوريا ، واصبحت لغة عالمية بالمعنى الصحيح منذ منتصف الألف الثاني قبل الميلاد ، وهذا هو السبب في ظهور آثارها سابقة للآثار العربية بزمن طويل .

شمال الجزيرة العربية
لما كانت العربية والآرامية تنحدران من أصل سامي واحد كان لا بد لهما من التعاون التاريخي في مختلف عصورهما .
وفعلاً تمّ الاتصال بين القبائل العربية الشمالية وبين شعوب بلاد الرافدين الناطقين بالآرامية ( العراق وسوريا ) منذ أقدم العصور التاريخية ، لأسباب كثيرة قد تكون عسكرية أو اقتصادية ولربما اجتماعية ايضا .
وبهذه الاسباب تبادلت اللغتان القوة والحيوية من الناحييتين العلمية والأدبية ، وتوثقت بينهما العلاقات اللغوية ، وهو ما أكسب اللغة العربية على الأخص مادة أدبية غزيرة لا نستطيع حصرها الآن لتقادم العهد عليها .
وعدا ذلك ، نجد ان قبائل آرامية كثيرة تتوغل في الجزيرة العربية ، وتمتزج بالعرب أنفسهم حاملةً معها لغتها وحضارتها لتصبّها في جدول اللغة العربية .
وقد وجد خبراء الساميات في اللهجات العربية المنتشرة آنذاك مادة لغوية غزيرة جزموا أنها ليست عربية لأنها تدل على معان دينية وعلمية وعمرانية لم تكن مألوفة عند العرب ، بل هي خاصة بالاقوام العبرية والآرامية ، وقد أفادت العربية من ذلك قوة جديدة .
على أن أقدم ذكر لبدء العلاقات بين القبائل العربية القديمة والقبائل السورية الآرامية والعبرية ، ورد في النصوص الآشورية ، وتسميهم هذه النصوص باسم ” قدري ” كما يسميهم العهد القديم باسم ” قيدر او بني قيدار” ، وهم حسب ماورد في العهد القديم على انهم من ذرية اسماعيل بن ابراهيم الخليل ، وكانوا رعاة يربون قطعان الضأن والابل ويبيعونها لأهالي ” صور” خصوصاً ، ويسكنون الخيام السوداء ، ولايعرف السبب لسواد خيمهم .

About عضيد جواد الخميسي

كاتب عراقي
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.