لدغة الاستلاكوما

وقفت أعد طعام الغداء كالمعتاد كل يوم بعد عودتى من العمل وكانت حالتى مزرية ، عينى تدمع بشدة ومتورمة يتصور من يراها أن هناك من ضربنى بقبضته فيها .. اليوم لم يكن ككل الأيام ، فمنذ مدة ليست طويلة ونحن نسمع عن حشرات بدأت تظهر فى الأحياء التى تكونت عشوائيا حول مدينة القاهرة وفى الريف والأحياء الفقيرة الشعبية .. وزاد اللغط حولها فى بعض البرامج التليفزيونية والفضائيات وتلاحظ زيادة نشاط هذه الحشرات فى مواسم بعينها ، ومن شدة غموض أسباب هذه الظاهرة ، كان البعض يلجأ للمشايخ الذين بدورهم يفسرونها بأنها ظاهرة صحية وان المرأة التى تلدغها مثل هذه الحشرات تكون قد بوركت ورضى الله عنها ، ويسوقون الحكايات عن نساء لـُدِغنَ وحدثت لهن معجزات .. أما الرجال فكانوا يسعون للدغات ويلتقون فى جماعات بجوار المستنقعات التى سببها طفح المجارى لتلدغهم تلك الحشرات فيتبركون باللدغات واللسعات ، وكان كل منهم حين يلدغ يصيح فى نشوى .. الله أكبر.. الله أكبر وسط هذا الجمع يدور رجل او إثنين بالمباخر يزعقون بعد كل لدغة يعلن عنها .. صلى عالنبييييييييى.

هذه الظاهرة بعد أن كنا نسمع عنها فقط فوجئنا بأنها لم تعد مجرد حكايات يتداولها الناس إنما زادت لدرجة بدأنا نراها فى أغلب مناطق القاهرة بما فى ذلك الأحياء الراقية والغنية منها ، وحتى على بعض شواطئ الساحل الشمالى ومدن البحر الأحمر .

مؤخرا أصبحنا نراها داخل مبنى الشركة التى أعمل بها ، كانت متفاوتة الأحجام والأشكال والألوان ، تنتشر فى الممرات والمخازن ولا تقترب من النور بل كنا نحس انها تتجنبه ، ترف بأجنحتها القذرة وتصدر صوتا لا يشبه أى صوت آخر عرفناه ، ثم بدأت تتجرأ اكثر وتدخل حجرات الموظفين الذين كانوا يتذمرون بدورهم من القذارة التى أصابت المكان وعدم إهتمام الادراة العليا بشئون الشركة ونظافتها .

البعض كان يرجح ان هذه الظاهرة بسبب طفح مواسير المجارى المستمر كما قيل أنه بسبب عدم وجود صرف صحى أصلا أو إمداد بمياه الشرب النظيفة. أعلن الخبراء فى خبر عاجل أن هذه النوعية من الحشرات تنمو فى الصحارى القفر ثم مع تطور أجيال منها بدأت تنتقل بحياتها الى أطراف المدن حيث البيئة خصبة وتسمح بنموهم وتكاثرهم ، وقال احد الخبراء فى حديث تليفزيونى أنهم أطلقوا عليها اسم (استلاكوما) وانها تستهدف الدماغ حين تنقض لتلسع وعند بعض الحالات لا تكتفى بالدماغ بل تنقض على العين أيضا، تعددت التفسيرات العلمية والنفسية والتحليلات الاجتماعية والفلسفية التى تبثها الفضائيات ليل نهار لكن لم يتم الوصول الى أى حل .

الغريبة أن الأعراض التى تسببها اللدغات للنساء غير تلك التى تسببها للرجال، فالتشوهات التى تحدثها وتصيب النساء، تختلف عن تلك التى تصيب الرجال والأغرب أن تلك الأعراض كانت تظهر على الموظفين العائدين من الخارج بشكل خاص وبالذات العائدين من دول الخليج والسعودية . وقد كانت تلك الأعراض تغير لون جلودهم وتعابير وجوههم ـ وخاصة الرجال ـ فتصبح عابسة والعيون مسدلة للأسفل كما أنهم يعزفون عن التعامل مع الزميلات ويحدثونهن بصيغة الأمر وبكلمات مقتضبة ، يتواصلون معهن فى أضيق الحدود كأن أصابهم شيطان يجعلهم يكرهون النساء ويتلافوهن .

أما انا وزميلاتى .. فبصراحة أصابنا الرعب لكننا كنا نخفيه وراء السخرية وإطلاق النكات والتكذيب ، وخاصة حين كان البعض يصرخ من خلال المقابلات التليفزيونية مستجيرا ومتسائلا عن علاج او حل لظاهرة الاستلاكوما تلك ، كان يخرج علينا المشايخ ومقدمى البرامج ليؤكدوا ان ظهور هذه الحشرات نعمة ولكن الغالبية يجهلون الفوائد التى تنتظرهم ، فكنت أمزح مع زميلاتى عن البركة التى يمكن ان تحل بهن من اللدغات ونضحك ..وان كان ضحكا لا يخفى القلق الذى يتسرب للقلوب .

بعد فترة من ظهور الاستلاكوما فى الشركة وانتشارها واستفحال الظاهرة ، أخذ الموضوع منحىً جدياً فقد كنت أثناء اليوم أسمع صرخات الزميلات بين فينة وأخرى وكن تأتين الى غرفتى باكيات من أثر اللدغات والتى كانت عادة ما تترك أثرا غائرا فى المكان الذى حدثت فيه ، كن بعد ذلك يطلبن منى ان اعفيهن من بعض الأعمال ويتذرعن بأسباب واهية ، وأحيانا كن يأتين الى وعلى وجوههن علامات إعتذار لم أكن أفهم عم يعتذرن ..!! كانت بعضهن تموت من أثر اللدغة بعد فترة رقاد قصيرة أو طويلة ، لكن الغالبية كانت تظهر على جلودهن بقع تشوه جلودهن فكانت الواحدة منهن تتسربل بغطاء أسود من رأسها الى اخمص قدميها تفاجئنا به لفترة ثم بعدها تختفي ، بعد ذلك ورغم شعورى بالخطر إلا انى لم أعر هذه الظاهرة اى اهتمام ، فقد كانت الاستلاكوما ولسبب لا أعرفه لا تدخل غرفتى رغم أنها كانت تنتشر فى باقى الغرف ، كان الكل فى حالة ترقب حين تدخل حشرة الى المكتب ويبدأ الحديث بين الموظفات بالتساؤل كيف أن الشركة لم تحاول أن تجد حلا جادا أو مبيدا مناسبا لهذه القذارات.

استمرت هذه الظاهرة مدة ليست قصيرة وفى يوم سمعنا شائعة قوية تقول أن رئيس الشركة نفسه أصبح حاملا للمرض وأن كل من يجالسه تنتقل اليه العدوى بطريقة ما لا يعرفون كيف .

واليوم لاحظت أن بعض الحشرات كان متلطعا بكثرة على الحائط امام غرفة مكتبى ، لكن حين كانت تسمع صراخي فى أحدهم فى مكالمة تليفونية اوغيره كانت تهرب كما لو كانت تخاف الصوت العالى .. تجرأت حشرة من هذه النوعية داكنة السواد .. ولطعت جسدها المقرف على باب الغرفة .. شعرت ببعض القلق ولكنى أهملتها واندمجت فى عمل أمامى لوهلة سمعت بعدها صوتا غريبا رفعت عينى عن الورق فإذا بها داخل الغرفة ملتصقه بالحائط المواجه لمكتبى ترف بجناحيها فى حركات تبدو كما لو كانت تتحدانى وتهددنى … نظرت حولى حتى أجد مجموعة من الورق أطويها كما كان أبى يفعل ليضرب بها اى ذبابة لحوح تقترب منه ، ولكن حجمها انتفش وأصبحت أكبر من كف اليد ، إنتابنى شعور بالتقزز والخوف وفى الوقت نفسه الغيظ ان تجرأت تلك الاستلاكوما الدنيئة على الدخول الى غرفتى ، رفعت سماعة الهاتف ليرسلوا لى الساعى ليخلصنى منها ، لكن وفى سرعة لم أكن اتوقعها إنقضت على شكتنى فى قمة رأسى وبحركة أسرع فى عينى ، وانا أطوح يدى فى الهواء كالغريق لأبعدها لكن لم يكن هناك فائدة انتهى الأمر ولدغتنى ..لم أشعر بألم كبير وقتها ، لكن شعرت بإهانة شديدة أن تقهرنى تلك الحشرة الدنيئة الضعيفة .. شعرت بالاهانة لأنها لدغتنى واستطاعت ان تهرب بفعلتها وطارت خارج الغرفة.

أفقت على صوت تأوهات آتية من الغرفة المجاورة .. ورغم أنى كنت قد توقفت عن سماع مثل هذه النداءات والأنات منذ مدة طويلة تصل الى سنوات ، استمريت فى تقطيع الخضروات رغم استمرار التأوه.

تسببت آهاتها فى توترى وارتباكى إضافة الى الألم الذى بدأ يتفاقم فى رأسى وعينى من أثر اللدغة ، ولم أفهم كيف جاءت بعد اربعين سنة لتنام فى غرفتى وتنادينى وبنفس الطريقة ، لم أستطع أن أكمل ما بدأت ، فتوقفت ، غسلت يدى ، جففتها وتحركت على أطراف أصابعى فى اتجاه الغرفة مصدرالأنين … قلبى يدق بعنف .. وأشك فيما اسمع فمن غير الممكن ان تكون هى التى تتأوه.

لقد اختفت من حياتى منذ مدة طويلة ، بعد صراع مع مرض إلتهم جسدها بضراوة .

كلما اقتربت من الغرفة كان صوت التأوهات يعلو ويبدو انه صادر من أكثر من مصدر… يبدو انها ليست وحدها ولكنها أصوات أعرفها جيدا .. ليست غريبة علي ، حين وقفت بباب الغرفة وجدتها ترقد على الفراش وبجوارها كل أخواتها وزميلاتها فى العمل ، ملفوفات في أكفان بيضاء ، أصوات التأوهات تعلو وتعلو لتقترب من أصوات الصراخ .. قلت : نعم ياماما هل تنادينى ؟ فساد صمت ، أومأت بوهن وأشارت بحركة خفيفة جدا بوجهها تكاد تكون غير ملحوظة ان أقترب ، ملأت الغرفة همهماتهن كما لو كن جميعا يردن مني أن أستمع ، ها هى خالتى الكبيرة التى كنا جميعا نهابها ونتردد ألف مرة قبل ان نرد على سؤال من أسئلتها ، فلقد كانت ناظرة مدرسة ولا تقبل الاستهتار او المزاح ، وكنت أنا وبنات خالاتى نكتم ضحكاتنا حين تنهر خالتى الصغرى بطلة الجمباز بكلمات حازمة عندما تجدها مرتدية كنزة قصيرة ونشعر أنها قاسية ولا تساير الموضة .. وعلي العكس كانت مع والدتي استاذة اللغات الشرقيه بكلية الاداب طيبة القلب مفعمة بالحنان والأمومة ، أما لاعبة الجمباز تلك فقد كانت أكثرهن نشاطا وتعلقا بالحياة تتحدى كل الصعاب ولها إرادة حديدية وحين رأست معهد التربية الرياضية لسنوات كان العاملون الذين ترأسهم يعملون لها ألف حساب .. وهاهى خالتى الطبيبة وقد كنا نسميها الباحثة عن المتاعب بسبب مواقفها الصلبة فى نقابة الأطباء .

كان جسدى يرتجف وعيناى مفتوحتان غير مصدقة ، وحين تقدمت بضعة خطوات نظرت خلفى لأطمئن أنه لازال بإمكانى أن اهرب لكن ملأت فراغ مدخل الغرفة سحابات ضباب منعتنى أن أرى خارج الغرفة .. كنت أرى بعض الضوء من خلف السحابات الضبابية لكن يبدو أنى قد انحبست فى الداخل … نظرت لأمى أستعطفها وقد إزدادت الرجفة فى جسدى كله وكأن حمى أصابتنى و رغم خوفى كانت تنتابنى رغبة شديدة فى أن أرتمى بين ذراعيها لكنها كانت ملفوفة بالكفن ولا تستطيع أن تحتضننى حتى لو أرادت .. تزداد الرجفة فى جسدى ولم أكن أعرف هل هذا بسبب خوفى من جثث أمى وخالاتى الأموات اللائى يرقدن علي سريرى أم لشعورى بالاهانة و التوتر الشديد بسبب لدغات الاستلاكوما ..!!

قرأت سؤالا فى عينيها ولوما فى عيون خالاتى وعرفت أنها تسأل عن عينى المتورمة والحالة السيئة التى انا عليها .. فتمتمت .. حشرة لدغتنى .. وأجهشت بالبكاء .. نطقت إحدى خالاتى بكلمات لوم لم أفهمها .. نظرت لها وأنا أقول مدافعة لم أهتز خوفا منهم أبدا بل كنت في مثل قوتك ، ولكنى هُزمت أمام خوف الناس وضعفهم ، كانوا يرددون عنهم كلاما طيبا ويكررون أن لدغاتهم ما هى الا بركة وان من هم مثلى يجب على المجتمع نبذهم .. كانت باقى خالاتى وأمى ينظرن الى مشفقات على .. نظرت أمى وقالت بحنان بالغ .. أنا أعرف ابنتى .. إنها قوية لقد ربيتها ، لا تقبل الظلم أوالاهانة ، لا تلين فى حقوقها كامرأة ، وتعرف قدر عقلها وثقافتها..

ابتسمت براحة وكأن كلماتها اعادت جزء من ثقتى بنفسى ولو بشكل جزئى .. نظرت لهن أسألهن ألم يكن فى زمنكن إستلاكوما ..!! ألم تنتشر تلك الأوبئة ؟

أومأن بالايجاب ثم أردفت أمى بحزن .. نعم .

ملأ الضباب الغرفة بكثافة ، لم أعد اعرف أين باب الخروج ، إختفين تدريجيا بفعل الضباب .. انتشر أكثر وأكثر فلم أعد أتبين معالم الغرفة .. رقدت مكان أمى .. مستسلمة .‎فاتن واصل – مفكر حر

About فاتن واصل

كاتبة ليبرالية مصرية
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, فكر حر. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.