لا تدوس على قدمي أو تحاول أن تتسلق كتفي

في اللحظة التي تتشكل فيها ككيان في رحم أمك، ككيان لا يُرى إلا بأدق المجاهر الالكترونية، أو ربّما قبل أن تصبح مرئيا بأدقها،
في تلك اللحظة يتشكل معك حبل يشدك إلى جدار، ولن تُكتب لك الحياة لو انقطع هذا الحبل، وستظل مربوطا به حتى تهبط في قاع قبرك…..
……………..
عندما تبصر النور يتحول هذا الحبل ليصبح حلمة الثدي عند أمك، ثم طرف ثوبها، ثم من يسكن بيتك، ثم لاحقا من يشاطرك معالم وملامح هويتك التي تبنيتها في هذا البيت وسعيد جدا جدا من يمتد حبله ليسمح له بتجاوز حدود تلك الهوية!
….
عندما افكر في ذلك الحبل وفي نقطة الربط، وخلال أنقى تجلياتي يتجسد أمامي سرّ الحياة، وتنكشف لعبتها وغايتها…. لقد قادتني معرفة دقيقة وساعات طويلة من الاستغراق في التأمل إلى اكتشاف هذه اللعبة وتلك الغاية، وهي لعبة شد الحبل بين نقطة الربط وآخر نقطة تستطيع أن تصل إليها….
…..
لقد اخترق الإنسان الغلاف الجوي وراح يسبح حرا في فضاء لا يرتبط بشيء إلاّ بكونه ككل لا يتجزأ، لكنه لم يمكث هناك طويلا وعاد أدراجه إلى نقطة الربط… كما هي الأرض نقطة الربط، كذلك هي الأم وكل (ما ومن ) يمثلها!
….
قالوا الطيور على أشكالها تقع، والبعد الفلسفي لهذا القول ممتع لو فكرت فيه. لا يوجد أحد في تاريخ أمريكا استطاع أن يجمع في أصدقائه التنوع الاثني والفكري والديني أكثر مما استطعت، ولكن عند المحك تجدني أستمتع أكثر عندما أجتمع بأشخاص يشاطرونني خلفيتي سواء اللغوية أو الثقافية أو التاريخية. حضرت مرات عديدة مؤتمرات للملحدين يؤمها بشر من كل أنحاء العالم، وخلال فترات الاستراحة كنت نجتمع ـ باللاشعور ـ نحن الذين ننحدر من خلفية اسلامية أو عربية معا على طاولة القهوة. إنها نقطة الربط، أي كان نوعها تشدك دوما إليها….

……
هناك مثل فرنسي يقول: لو نظف كل أمام بيته لبدت المدينة نظيفة نعم هو معني بتنظيف بيته أولا وفقط! مهما كنت انسانيا لو قال لك أحدهم هناك مدينة وسخة جدا في أقاصي الصين ماذا تستطيع أن تفعل؟؟ بينما لو قال لكم أحد بيتك وسخ لأسرعت في تنظيفه.
من خلال نقطة الربط الأولى نستطيع أن نبدأ، ولا يوجد رحلة على سطح الأرض أنت معني بها إلا وعليك أن تبدأ من تلك نقطة
إنها فعلا نقطة الانطلاق لأي رحلة باتجاه انسانيتك….
….
الانعتاق من تلك النقطة ـ نقطة الربط ـ والانطلاق بعيدا عنها يحتاج إلى معرفة دقيقة بتفاصيل الرحلة. معرفة أدق، بل واصعب الماما، من أدق الخرائط الطبوغرافية, هذا الانعتاق والانطلاق يحتاجان ليس إلى معرفة وحسب، بل إلى قدرة شخصية رهيبة لتطبيق تلك المعرفة ما أصعبها وأشقها من مهمة، وما أقل من استطاع أن ينجزها!

ليس صحيحا أننا ولدنا أحرارا… لم نكن في أرحام أمهاتنا أحرارا، فكيف سنولد أحرارا؟ جئنا إلى الكون مشرذمين أشخاصا، اُسرا، أعراقا، ألوانا، بلدانا أديانا، وطوائفا، ومربوطين بحبل سري يشدنا إلى كل من هذه الاعتبارات! في ذلك التنوع، (وفي تلك الشرذمة إن صح التعبير)، تكمن الغاية الأسمى من وجودنا، الا وهي أن نتحرر من نقطة الربط ونسير باتجاه نقطة أبعد تخفف من حدة تشرذمنا، إلى أن توحدنا في كوننا ـ هذا اذا استطعنا وأشك في ذلك ـ  مدى المسار الذي قطعته بعيدا عن نقطة الربط يحدد نبلك وانسانيتك، وكل منا يختلف مساره باختلاف درجة معرفته بتفاصيل الرحلة وباختلاف قدرته على تطبيق تلك المعرفة.
………………
نظرا لقناعاتي من أن أغلب البشر يجهلون أو ـ في أفضل الأحوال ـ يتفاوتون في معرفتهم لتفاصيل الرحلة التي تأخذهم بعيدا عن نقطة الربط وتنتهي بهم انسانين وكونين، نظرا لقناعتي تلك، لا أرى غضاضة في أن يتشبثوا بنقطة الربط ومن هذا المنطلق أيضا، لا أرى غضاضة في أن ينتمي الانسان إلى طائفة، ويسعى جاهدا لتحسين وضع طائفته ، فهو بذلك يسعى بشكل أو بآخر
لتحسين الكون، عملا بالمثل الفرنسي السابق الذكر. أين الغضاضة طالما هذه هي قدرته وحدود معرفته، إذ لا يستطيع كل منا أن يكون جلال الدين الرومي في فهمه لكونه وللغاية من وجوده!

يتحدث الطبيب والمفكر الأمريكي
David Hawkins
في كتابه “القدرة مقابل القوة”
Power VS Force
عن هؤلاء الذين وصلوا إلى آخر نقطة في مسارهم الانساني وتوحدوا في كونهم، بقوله:
ِAt this level, there is no longer the experience of personal self separate form others; rather, there is an identification of self with consciousness and divinity
(عند هذا المستوى لم يعد الانسان قادرا على أن يميز بين نفسه والآخرين، بل بالعكس تصبح هويته جزءا من الوعي الكوني، ومن القدرة الكونية العليا والكلية)
ولكن المفكر نفسه يعترف بأنهم قليلون جدا هؤلاء الذين وصلوا إلى هذا المستوى، ويعجز أن يذكر منهم أكثر من ثلاثة ـ كمثال عبر التاريخ البشري كله ـ وهم المسيح وبوذا وكرينشا!
……………..
أذكر حادثة لا أنساها ولو عشت مليون عاما… كنت يومها في سوريا، وراكبة باص من بانياس إلى اللاذقية. تسلقت الباص امرأة مسنة تحمل صرة، يدل شكلها وصرتها على أنها فلاحة من قرى العلويين النائية…. كان يومها عيد الأم، فالتفت اليها جابي الباص وقال: (كل عام وأنت بخير يا خالة، اليوم عيدكون)
فردت: (وأنت بخير يا عين خالتك، نحنا علوية هادا مو عيدنا عيد المسيحيين)!
فتشقلب الركاب على قفاهم من شدة الضحك. هي لم تسمع بحياتها بعيد الأم، وطالما ليس عيد الأضحى أو عيد الفطر، فحكما إذ كان هناك عيد لا بد أن يكون عيدا للمسيحين ـ احتمال معقول ـ هل نستطيع أن نطالب تلك السيدة بأن تكون جلال الدين الرومي أو المسيح في “نرفانيتهم”؟؟ طبعا لا…. يكفي أنها ردت بعفوية: (وأنت بخير ياعين خالتك)، دون أن تستوقفها قناعة مطلقة من أن معايدة المسيحيين في عيدهم حرام!!!
….
الناس عموما والبسطاء تحديدا يميلون ـ غريزيا ـ إلى الانتماء إلى اعتبار ما، ويشعرون بالأمان من خلال هذا الانتماء الغريب في الأمر أنه كلما ضاقت دائرة الاعتبار كلما قوي انتماؤك وزاد احساسك بالامان! والمفارقة الأكثر غرابة أنه وكلما قويت علاقة الانسان بنقطة الربط وكلما أشبعته تلك العلاقة حبا واحتراما، كلما استطاع أن يتفهم حاجة غيره لها أكثر، وكلما استطاع أن يتقبل هذا الغير أكثر…. أي خلل في تلك العلاقة يؤدي إلى خلل في علاقة الانسان مع نفسه ومن ثم مع محيطه الأضيق ولاحقا مع محيطه الأوسع، حتى تضطرب علاقته مع الكون كله….
…….
المثل الأمريكي يقول
Charity starts at home
(الأعمال الخيرية تبدأ من البيت)
أيا كان تعريفك لمفهوم “البيت” نعم تبدأ من البيت، لكنها يجب أن لا تنتهي في البيت… وعندما تكون علاقتك ببيتك مضطربة لن تكون مؤهلا لأن تتجاوز حدوده… إذا كانت علاقتك بنقطة الربط ضعيفة ومكهربة لن تملك من الثقة بالنفس ما يساعدك على أن تبحر بعيدا عنها باتجاه انسانيتك… فالمركب يبحر بعيدا باتجاه الافق اللانهائي لأنه يعرف أن هناك مرساة تنتظره وتشده إلى الشاطئ…. لم أصادف في حياتي شخصا مضطربا نفسيا أو عاطفيا أو فكريا أو روحانيا ووجدت علاقته بأمه ـ أو بنقطة الربط ـ طبيعية. والعكس صحيح، كل شخص أصادفه في حياتي أعرف طبيعة وقوة علاقته بنقطة الربط من خلال مدى المسار الذي قطعة باتجاه انسانيته…..
…….
لا يزعجني أن أدخل كنيسة أو جامع أو أي معبد آخر وأرى رواده يوزعون المساعدات على فقراء طوائفهم… لكن مالا أقبله أن يغنموا من غيرهم كي يعطوا فقرائهم، ويسموا ذلك صدقة وزكاة. لا يزعجني أن يتفانى أحدهم في الدفاع عن بيته، بشرط أن لا يقيم أساس هذا البيت على حطام بيوت الآخرين. لا أتوقع من أي انسان أن يكون المسيح، لكن لا أقبل من أحد أن يرميني بحجر كي يثبت نزاهته. مهما كنتَ ضيق الرؤية عندما يتعلق الأمر بفعلك للخير، لا ضير في ذلك، طالما لا تفعله على حساب الآخرين، فالغاية من أي فعل خير (صغر كان أم كبر) هو تجميل الكون. وكيف تساهم في تجميل الكون حتى ولو طهرت بيتك من كل أوساخه، طالما ترمي تلك الأوساخ في حديقة غيرك؟!
……..
لذلك، ليس الخلل في أن تنتمي إلى طائفة، وليس الخلل في أن تدافع عن وجود وتحسين تلك الطائفة، وإنما الخلل أن ترى في فناء كل الطوائف الأخرى الضمان الوحيد لاستمرارية وأمن طائفتك. فعل الخير حتى في أبسط أشكاله وأخفض درجاته، كالدفاع عن طائفة، لاشك أنه يساهم في تحسين الكون لكن عندما تفعله على حساب طائفة أخرى تكون قد أسأت إلى الكون كله ولم تحسن لأحد.
لذلك، كن من شئت أن تكون…. مسيحيا….مسلما…..يهوديا….سنيا….علويا…ابليسيا… لن يزيدني الأمر إلا احتراما لك! قف شامخا معتزا بهويتك مهما كنتَ ضيق الرؤية عندما حددتَ ملامح تلك الهوية، لا يهمني! ولكن بشرط واحد،
بشرط واحد….
بشرط واحد: أن لا تدوس على قدمي، أو تحاول أن تتسلق كتفي!
************************************************
أعزائي القرّاء: بناءا على المعلومات التي وردت في هذا البوست سيكون بوستي اللاحق، وسيجيب على سؤال: لماذا الإرهاب بشكله الأقبح يكاد يكون محصورا بين أبناء الطائفة السنية؟ شكرا لكم وإلى لقاء….

About وفاء سلطان

طبيبة نفس وكاتبة سورية
This entry was posted in دراسات سياسية وإقتصادية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.