كوابح العقل البشري

كامل النجار

من المعروف أن عقل الإنسان لا تحده حدود إذا كان الإنسان يعيش في مجتمع متفتح وحر يسمح له بالتفكير غير المقيد بقوانين وحدود. فمثلاً في القرن الثالث قبل الميلاد، قبل أن يخترع الإنسان التكنولوجيا الحديثة التي مكنتنا من الغوص في أعماق المجرات، توصل عقل العالم الرياضي اليوناني أريستاركوس إلى أن الكواكب تدور حول الشمس، وأن الكرة الأرضية تدور حول محورها. وقد توصل فيلولوس، تلميذ فيثاغورس، إلى أن الكواكب والأرض والشمس، كلها تدور حول نقطة محورية .

توصل العقل البشري لكل هذه الاستنتاجات باستعمال الرياضيات التي قال عنها فيثاغورس إنها مفتاح أسرار الكون.
ولكنا نعرف أن العقل البشري تقيده كوابح عديدة، منها الجهل الذي يحرم العقل من التفكير خارج نطاق المألوف، ومنها البيئة التي يولد فيها الإنسان وعليه أن يلتزم بقوانينها الموروثة وعاداتها وتقاليدها التي ربما تمنع الإنسان من التفكير في أشياء غيبية كثيرة تحت الخوف من العقاب، ومنها الأمراض الوراثية التي تمنع دماغ الجنين من النمو الطبيعي فيولد الطفل وهو مصاب بقصور وتخلف عقلي. ولكن أكبر الكوابح للعقل هو الدين، وخاصةً الدين الإسلامي.
كل الأديان، حتى غير “السماوية” منها مثل البوذية قد حرّمت السؤال الذي هو أساس المعرفة. فالدين الإسلامي منع السؤال بأمر رباني في القرآن (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تُبد لكم تسؤكم). وعندما تجرأ بعضهم وسأل محمد، جاءت الإجابات الإلهية بعيدة كل البعد عن جواب السؤال ولم تشحذ العقل للتفكير. فمثلاً عندما سُئل عن الروح، قال هي من أمر ربي. وعندما سُئل عن الهلال وكيف يصير قمراً مكتملاً، قال لهم (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس). وحتى بوذا العظيم الذي لم يقل إن إلهاً قد أرسله، منع أتباعه من السؤال. يُحكى أن أحد تلاميذه كان مغرماً بالفلسفة وأمطر بوذا بوابل من الأسئلة عن الميتافيزيقيا وعن وجود خالق لهذا الكون، فقال له بوذا “أنت كرجلٍ أصابه سهم مسموم، وبدلاً من الذهاب إلى الطبيب لإخراج السهم المسموم أصر المصاب على معرفة اسم وقرية الشخص الذي رماه بالسهم قبل أن يذهب إلى الطبيب. فسوف يموت هذا الشخص قبل أن يحصل على هذه المعلومات غير المفيدة. وما فائدة أن نعرف إذا كان هناك إله قد خلق هذا الكون، فالألم والحرمان والموت سوف يظل يلاحقنا إن كان هناك إله أم لا.” وهذا يعني بصريح العبارة الامتناع عن الأسئلة التي تحرج رسول أو نبي ذلك الدين، وبدون السؤال لا يمكن للعقل أن يتفتح.
حتى الأديان القديمة ذات الآلهة المتعددة مثل الديانة اليونانية القديمة، منعت السؤال بطريقة غير مباشرة عندما أخبرت الناس بأن البرق هو عبارة عن غضب وزمجرة كبير الآلهة زيوس. فلا داعي إذاً للبحث عن ماهية البرق والتفكير في كيفية الوقاية منه. وحتى إفلاطون، ذلك الفيلسوف العظيم، قد أصدر في آخر حياته كتاباً اسمه “القوانين”
The Laws
قال فيه (إن أول مهمة الدولة هي أن تزرع الأفكار الصحيحة عن الآلهة في عقول المواطنين، وعليها أن تنشيء مجلس أمناء يعمل ليلاً لمراقبة تفكير المواطنين الذين يجب أن يلتزموا بثلاث بنود من الإيمان: أن الآلهة موجودون، وأنهم يهتمون بالناس، وأن الآلهة لا يتأثرون بالأضحية والدعاء. أما الذين لا يلتزمون بهذه القوانين يمنحهم المجلس خمس سنوات ليرجعوا إلى الجادة ويعترفوا بالقوانين الثلاثة، أو يُعدموا كملحدين.) فلا مجال للسؤال عن الآلهة وقوانينهم.
قبضة الأديان على عقول الناس قبضة خانقة لم ينجُ منها حتى المصلحين من أمثال مارتن لوثر (1483-1546)، وتوما الأكويني (1225-1274)، وكالفن (1509-1564) وغيرهم الكثير. فمارتن لوثر مثلاً أرغى وأزبد في خطبه ضد المرأة واليهود والأتراك لأن تعاليم الكنيسة الكاثوليكية التي ثار ضدها كانت مليئة بلوم النساء واليهود، وقال إن كل الكتب التي تحتوي على هرطقة يجب أن تُحرق. وأما كالفن فقد كان من المتحمسين لمحاكم التفتيش وأمعن في قتل وحرق كل من شك في إيمانه. وقد قال كالفن (إن الإنجيل لا يقول شيئاً عن علم الفلك، فمن أراد أن يدرس علم الفلك أو الفنون، عليه أن يرحل إلى مكان آخر).. ربما يكون رجل الدين الوحيد الذي احترم عقله هو سانت أغسطين الذي قال (إذا تصادم الكتاب المقدس مع العلوم الطبيعية يجب أن يُعاد تفسير الكتاب المقدس).
مشكلتنا مع غير المسلمين أنهم لا يعرفون شيئاً عن الإسلام وتنطلي عليهم دعاية الإسلاميين التي تقول إن الإسلام دين سلام ومحبة ودين يدعو للتفكير والتأمل. من هؤلاء الذين انطلت عليهم خدعة الإسلاميين الرجل المثقف صاحب المكانة المرموقة في صفوف البوذيين، ألا وهو الدلاي لاما. فقد كتب هذا الرجل الذي هو غني عن التعريف، كتاباً سماه

Beyond Religion
يقول فيه إننا لا نحتاج إلى الأديان لنتعلم المثُل العليا والأخلاق، فقد تعلمها الإنسان من إنسانيته. ولكنه يقول في هذا الكتاب

Of course, all the world’s major religions, with their emphasis on love, compassion, patience, tolerance and forgiveness, can and do promote inner values
وترجمة هذه الفقرة هي “بالطبع فإن كل ديانات العالم الرئيسية تشدد على الحب، والشفقة على الآخرين، والصبر، والحلم وغفران خطايا الآخرين، وبهذا تروج للقيم الداخلية لدى أتباعها.” فهل الأديان فعلاً تروج لهذه القيم الحميدة؟ لا شك أن الأديان الوضعية، مثل الهندوسية والبوذية، تحث أتباعها على احترام المخلوقات الأخرى وعلى ممارسة اللاعنف في تعاملهم مع بعضهم البعض ومع المختلفين عنهم. والعهد الجديد يحث أتباعه على حب أعدائهم، ولكن نظرة خاطفة على العهد القديم أو القرآن أو كتب السيرة والفقه الإسلامي تقنعنا أن الدالاي لاما فإذا نظرنا مثلاً في العهد القديم نجد ( 3 فَالآنَ اذْهَبْ وَاضْرِبْ عَمَالِيقَ وَحَرِّمُوا كُلَّ مَا لَهُ وَلاَ تَعْفُ عَنْهُمْ بَلِ اقْتُلْ رَجُلاً وَامْرَأَةً, طِفْلاً وَرَضِيعاً, بَقَراً وَغَنَماً, جَمَلاً وَحِمَاراً) (صموئيل، الإصحاح 15). فإله العهد القديم لا يترك للعقل أي مجال للتفكير أو السؤال: لماذا أقتل الأطفال الرضعاء والغنم والنساء، وهم لم يشتركوا في القتال ولم يصيبوا العبرانيين بأي أذى؟ وحتى الجمال والحمير التي يمكن أن يستفيد منها العبرانيون في نقل أمتعتهم أمرهم ربهم أن يقتلوها. وكل من يحاول استعمال عقله ويسأل الحاخامات عن الهدف من كل هذا القتل والدمار، يُعتبر كافراً ويُعاقب.
أما الدين الإسلامي فلا ينتمي إلى القيم الإنسانية النبيلة التي ذكرها الدلاي لاما. القرآن يدعو إلى نبذ الآخر وإثارة العداوة بين الناس عندما يقول (لقد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا براء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنو بالله وحده) (الممتحنة 4). فليس هناك أي فرصة للتفكير ومحاولة فهم لماذا لم يتبع قوم إبراهيم رسالته. وهل لابد من أن نكن العداوة والبغضاء لمن يختلف معنا في المعتقد، أو كما قال أغبى رئيس للولايات المتحدة “من ليس معنا فهو ضدنا.” في الوقت الذي يقول القرآن (من يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه) وفي الوقت الذي يشن فيه أئمة المساجد هجومهم العنيف على اليهودية والمسيحية، نجد أن الإمبراطور الهندي أشوكا
Ashoka
في القرن الثالث قبل الميلاد كتب على أحد أعمدة قصره:
Honour another’s religion, for doing so strengthens both one’s own and that of the other
وترجمة ذلك “احترم وعظم ديانة الآخر لأن احترامك لها يقوي ديانتك أنت كما يقوي ديانة الآخر.” قارن هذا مع “لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام وإذا لقيتم أحدهم في الطريق فاضطروه إلى أضيقها.”

وهناك بالطبع تناقضات فاضحة في القرآن لا يجوز للمسلم التحدث عنها أو التفكير فيها كي لا يضله الشيطان، وليذهب العقل إلى الجحيم. يقول القرآن (قالت اليهود يد الله مغلولة غُلت أيديهم ولُعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء …. وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة) (المائدة 64). فإذا كانت يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء، لماذا طلب أن يقترض مالاً من المسلمين (من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافا كثيرة) (البقرة 245).
الأديان “السماوية” استعملت العنف والخوف لتكمم أفواه وعقول المخالفين، واستعانت بالحكام لسجن وقتل المخالف. ففي القرن السادس أو السابع الميلادي كان هناك كاتب إغريقي يحب الفلسفة ولم يرَ تعارضاً بينها وبين المسيحية، ولكن لخوفه من السلطات الدينية التي منعت تدريس الفلسفة اضطر لكتابة آرائه تحت اسم مستعار، هو “دينيس”
Denys the Areopagite
. وفي نفس الوقت الذي كتب فيه دينيس كتابه، أمر الإمبراطور جستينيان أن تُغلق الأكاديمية في القسطنطينية مما اضطر الفلاسفة إلى الهروب إلى بلاد فارس أو العمل تحت الأرض. وعندما قبضت الكنيسة في سويسرا على الطبيب سيرفيتيوس واتهموه بالزندقة، لم يدافع عنه إلا جوريس البازلي الذي اضطر لكتابة دفاعه تحت اسم مستعار خوفاً من أن يلقى نفس مصير سيرفيتيوس. وعندما توفي جوريس واكتشفت الكنيسة أنه هو الذي دافع عن سيرفيتيوس، نبشوا قبره وأخرجوا عظامه وأحرقوها.
أما موقف الإسلام من الفلسفة والعلم فلا يحتاج إلى شرح وتقديم الأمثلة. فما كتبه “حجة الإسلام” الغزالي عن الفلاسفة وعلمهم قتل الفلسفة في العالم الإسلامي حتى يومنا هذا. أما مقولة “أطلبوا العلم ولو في الصين” فالمقصود بها العلوم الشرعية التي جعلت شيوخ الإسلام يتحكمون في رقاب المسلمين طوال هذه القرون. ففي الحديث (من أراد العلم فليثور القرآن). قال شمر: تثوير القرآن قراءته ومفاتشة العلماء به.‏ والقرآن يقول لمحمد (ولئن تتبع أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير) (البقرة 120). فأي علم جاء لمحمد؟ هل هو علم تأبير النخل أم علم نزول البَرد من جبال في السماء؟ أم علم الشمس التي تسجد تحت العرش كل ليلة؟ فإذا كان نبي الإسلام أمياً، وشيوخه جهلاء لا يعرفون غير الحيض والنفاس وأحاديث أبي هريرة وعائشة التي تتحدث عن مص النبي لسانها وهو صائم، فأي علم نتوقعه منهم؟

كان طلاب اللاهوت في أوربا في القرن الثالث عشر يُفرض عليهم دراسة المنطق والرياضيات وفلسفة أرسطوطاليس قبل أن يبدأوا دراسة الثيولوجي. ومع ذلك كانت الكنيسة تصادر الكتب وتكمم الأفواه والعقول. ففي العام 1559 أصدر بابا الفاتيكان بولوس الرابع
Paul IV
أول قائمة بأسماء الكتب الممنوع الاطلاع عليها في العالم الكاثوليكي وقتها.
التعاليم الدينية تجعل المؤمن بذلك الدين يتفوه بعبارات محفوظة لا معنى لها. فمثلاً الدالاي لاما يقول، كما تقول الكنائس:
And since God is infinite love or infinite compassion, loving others is part of loving and serving God
“وبما أن الله حب لا نهائي وعاطفة لا حدود لها، يصبح حب الآخرين جزءاً من حب الله وطاعته.”
فهل حقيقة أن الله حب لا متناهي وعاطفة بلا حدود؟ أليس الله هو إله موسى الذي أمره بقتل الأطفال والنساء والبقر والغنم التي يجدونها في ديار العماليق؟ أليس الله هو إله القرآن الذي يقول (كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها) (النساء 56). وكذلك (فالذين كفروا قُطّعت لهم ثيابٌ من نارٍ يُصب من فوق رؤوسهم الحميم. يُصهر به مافي بطونهم والجلود. ولهم مقامع من حديد. كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غمٍ أُعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق) (الحج 19-22).
وبسبب التعتيم على العقل المؤمن اشتعلت الحروب الدينية في أوربا والشرق الأوسط، كل فريق يدافع عن دينه ويقتل ويحرق لنصرة إلهه الذي هو حب لا متناهي. هذا الحب اللامتناهي نرى ثماره التي يحصدها الحرس الثوري في إيران، وتحصدها المليشيات الإسلامية في السودان. إذا لم ننجح في فصل الدين عن الدولة فسوف تظل عقولنا مليئة بفقه الحيض والنفاس وتكفير الآخر.

المصادر
Karen Armstrong, The Case for God, Vintage Books, 2009, p 174
نفس المصدر، ص 31
نفس المصدر ص 73
نفس المصدر ص 171
Dalai Lama, Beyond Religion, Rider Books2012, p xv
Karen Armstrong, The Case for God, p 123
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، ج1، سورة البقرة، الآية 67
Karen Armstrong, The Case for God, p 148
نفس المصدر ص 178

كامل النجار (مفكر حر)؟

About كامل النجار

طبيب عربي يعملل استشاري جراحة بإنكلترا. من هواة البحث في الأديان ومقارنتها بعضها البعض وعرضها على العقل لمعرفة مدى فائدتها أو ضررها على البشرية كان في صباه من جماعة الإخوان المسلمين حتى نهاية المرحلة الجامعية ثم هاجر إلى إنكلترا وعاشر "أهل الكتاب" وزالت الغشاوة عن عينيه وتبين له الخيط الأبيض من الخيط الأسود من حقيقة الميثالوجيا الدينية الهدف الوحيد من كتاباتي هو تبيان الحقيقة لغيري من مغسولي الدماغ الذين ما زالوا في المرحلة التي مررت بها وتخطيتها عندما كنت شاباً يافعاً
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, فكر حر. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.