قراءة في -مانيفستو المسلم المعاصر- لجمال البنا

يقول المفكر الإسلامي الكبير جمال البنا في هذا البيان: ((إن كرامة الإنسان يجب أن تكون في أصل كل النظم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ويجب أن تحرّم تحريما باتا كل ما يهدر كرامة الإنسان جسدًا ونفسًا)). كما يقول: ((إن الإنسان هو الغاية، والأديان هي الوسيلة)). كما يقول أشياء جميلة أخرى لها المعنى ذاته، ولا داعي لذكرها تحاشيا للتكرار الممل.

وهذا كلام جميل لولا أن الكاتب ظل يلتف عليه ويتنكر له في على طول المقال وعرضه تطغى ضمن مواقف تصطبغ بصبغة دينية إسلامية منغلقة. ولهذا فأنا أعتبر هذا المانفستو بعيدا جدا عن التسامح والتنوير والتفتح التي قد ينخدع بها القارئ لمثل الفقرات السالفة الذكر.

يستهل الكاتب بيانه بالقول: ((نؤمن بالله. إنه محور الوجود ورمز الكمال والعقل والغائية، وما ينبثق عنها من قيم، وبدونه يصبح الوجود عبثا، والكون تحت رحمة الصدفة الشرود والإنسان حيوانا متطورا أو “سوبر حيوان”)).

طبعا لا اعتراض على من يؤمن بالله وأنه محور الوجود ورمز الكمال والعقل والغائية.. الخ. إذا كان الإيمان بهذا رياضة ذاتية يلتزم بها العبد تجاه معبوده في علاقة حميمية خاصة، لكن عندما يقدم هذا الإيمان في مانفستو، أي في بيان ديني سياسي أيديولوجي الهدف منه، شأن كل البيانات، دعوة الناس أو بالأحرى دعوة مواطني البلد الواحد مثل مصر، بلد الكاتب، إلى الأخذ ببديل وحلول لمشاكلهم الدنيوية السياسية والاجتماعية والاقتصادية فهذا هو الخطر، خاصة عندما يتقدم للناس باسم قوى مطلقة مقدسة معصومة، فيوهمهم أن هذا البديل هو وحده الكفيل بإخراجهم مما هم فيه من مآزق ودفعهم إلى تبني مواقف تتعارض مع التسامح والتفتح والحرية والديمقراطية.

أليس هذا ما نفهمه من قوله: (( وبدونه (أي بدون الله) يصبح الوجود عبثا، والكون تحت رحمة الصدفة الشرود والإنسان حيوانا متطورا أو “سوبر حيوان”))؟ فلا معنى لهذا الكلام إلا أن غير المؤمن بهذا الله، سواء أكان ملحدا أم كان من أتباع الديانات التي تعتبرها الديانة الإسلامية وثنية مثلما هو شأن الهندوسية والبوذية، هو إنسان (الوجود (عنده) عبثا)). وهذا غير صحيح لأن غير المؤمنين على الطريقة الشرق أوسطية لا يعتبرون الوجود عبثا فلهم في فلسفاتهم وفي معتقداتها ما يجعلهم يعيشون في وفاق مع الطبيعة أو مع آلهتهم ومعتقداتهم، بالإضافة إلى أنه شتيمة في حق بشر آخرين لا يتقاسم معهم الكاتب دينه ولأن الدولة الحديثة مطالبة بالتفتح على الجميع والتعامل معهم بدون تمييز ولنا عبرة في البلاد العلمانية التي تمكنت من استيعاب الجميع كمواطنين لهم نفس الحقوق والواجبات بغض النظر عما يدينون به، بل تمكنت من ذلك بعد إبعاد المعتقدات الدينية كمعايير للمفاصلة وللتمييز بين الناس. أما القول ((والكون تحت رحمة الصدفة الشرود والإنسان حيوانا متطورا أو “سوبر حيوان”))، فهو قول غير علمي ومنغلق يضرب عرض الحائط كل الحقائق العلمية الأخرى حول الكون غير تلك التي لها صلة بنظرية الخلق الدينية الشرق أوسطية التي تعتبر هي الأضعف والأكثر تهافتا مقارنة مع نظرية النشوء والارتقاء، التي يتبناها حاليا أغلب علماء العالم ومثقفيه وأي تمييز ضدها هو العودة بالناس قرونا إلى الوراء. فالكون فعلا كان ومازال وسيستمر ((تحت رحمة الصدفة الشرود))، بالإضافة إلى دور الضرورة طبعا التي تجاهلها الكاتب (نظرية المصادفة والضرورة). وعليه فورود موقف مثل هذا في بيان ينشد الإصلاح والتقارب بين الناس مهما اختلفت قناعاتهم الدينية والعلمية هو موقف غير موفق بتاتا.

أما قوله: ((والإيمان بالله الذي يكون قوة ملهمة هو ما يغرسه في النفس تصوير القرآن الكريم لله تعالى)). فهو قول لا يستقيم مع مطلب المواطنة التامة في الوطن الواحد حيث تتعدد التصورات الإيمانية بتعدد المذاهب والأديان. وعليه فهذا المانفستو مضر بالتصور العصري للمواطنة في بلد متعدد الأديان كمصر مثلا، وفي أغلب البلاد الإسلامية، بوصفها أوطانا ذات تعددية دينية ومذهبية وفلسفية يهيمن عليها الإسلام السني ويتسبب في تشجيع تجاوزات كثيرة في حق الآخرين ويجب العمل على رفع كل أنواع الحيف والغبن التي تسبب فيها لملايين الناس بينما لا يعكس مقال الكاتب هذا المطلب الحضاري. وعليه فحصر الكاتب الإيمان بالله في القرآن هو بالأحرى مانفستو للإقصاء لا مكان فيه لمواطنة عصرية لم تعد ترضى بمجرد تسامح تحقيري هو أقرب إلى المن والتفضل التصدق من طرف المسلمين.

ويقول: ((الأنبياء هم القادة الحقيقيون للبشرية، ويجب جعلهم المـُثل في القيادة)). فعن أية بشرية يتحدث جمال البنا؟ هل يجب أن نخرج أتباع الديانات الأخرى من البشرية وغيرهم من الوثنيين والملحدين واللادينيين واللاأدريين وكل من لا يشارك الكاتب في تصوره؟ ما هو وضع إنسان لا ينتمي لبشرية البنا في دولة البنا هذه؟ ألا يكفي قرونا من التيه والحروب والمآسي نتيجة جعل هؤلاء الأنبياء قادة ومثل في القيادة؟

وعندما يقول جمال البنا: ((ونحن نؤمن أن الإسلام قد قدم الصورة المثلى لله والرسول. على أننا نتفهم الصور التي قدمتها الأديان الأخرى، لأن الدين أصلا واحد، ولكن الشرائع متعددة، ونحن نؤمن بالرسل جميعا، وأن الله تعالى أراد التعدد والتنوع “وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً”، وأن الفصل في هذا التعدد هو إلى الله تعالى يوم القيامة)).

فهو هنا أيضا يمارس تمييزا وإقصاء غير خافيين ضد الأديان الأخرى في بيان يفترض أنه موجه لإدارة شؤون دولة حديثة أهم خصائصها المواطنة الكاملة. ولا أرى في كلام الكاتب ما يطمئنني حول هذا المطلب الرئيسي لأي دولة حديثة حقيقية. عبارة مثل ((ونحن نؤمن أن الإسلام قد قدم الصورة المثلى لله والرسول. على أننا نتفهم الصور التي قدمتها الأديان الأخرى))، لا تكاد تخفي انحياز الكاتب للإسلام الذي “قدم الصورة المثلى لله والرسول” على حساب المسيحية مثلا دين ملايين المواطنين المصريين، ولو أنه تنازل وتَفَهَّمَ “الصور التي قدمتها الأديان الأخرى” التي هي غير مثلى أو أقل مثالية كما يجب أن نفهم إذا قرأنا بين السطور.

وفي قوله: “ونؤمن أن الدين هو المقوم الأعظم للمجتمع العربي، وأنه يمثل التاريخ والحضارة والضمير، وأن تجاهله يقطع التواصل مع الشعب، ولا ينفي هذه الحقيقة أن تكون الفلسفة والآداب والفنون قد حلت محل الدين في المجتمع الأوربي فلكل مجتمع طبيعته الخاصة وقدره الذي لا يمكن التمرد عليه أو التنكر له، وفي الوقت نفسه ـ فإنه لا يحول دون تلاقح الأفكار وتحاور الحضارات، وتقارب الديانات لأن الحكمة ضالة المؤمن”.

فماذا يعني الكاتب بتجاهل الدين؟ هل المطالبة بالعلمانية هو تجاهل للدين سيفضي حتما إلى القطيعة مع الشعب؟ أليس هذا كلاما أقرب إلى التكفير؟ هل تَعَلْمُنُ المجتمعات الأوربية أدى إلى ذلك وهل هذا هو قدرها بينما قدرنا هو استمرار الهيمنة الدينية على مجتمعاتنا ولا مهرب لنا منه؟ ما هو المصير الذي يخصصه الكاتب لمن لا يشاركه هذه القناعة لو “قدر الله” وأمكن لهذا المانفسو أن يوضع موضع التنفيذ؟ ثم ما هو الدين الذي يعتبره الكاتب مقوما أعظم للمجتمع العربي؟

هل نصدقه عندما يقول: “نؤمن بكرامة الإنسان، وأن الله تعالى هو الذي أضفاها على بني آدم جميعا، فلا تملك قوة أن تحرمهم منها، وهي تعم الجنس البشري من رجال ونساء، بيض وسود، أغنياء، وفقراء.. الخ، وقد رمز القرآن لهذه الكرامة بسجود الملائكة لآدم، وتسخير قوى الطبيعة له. إن كرامة الإنسان يجب أن تكون في أصل كل النظم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ويجب أن تحرم تحريما باتا كل ما يهدر كرامة الإنسان جسدًا ونفسًا”؟

ما سبق يجعلني لا أفهم هذه الكرامة إلا ضمن الحدود التي رسمها الإسلام للناس. ونحن نعرف هذه الحدود في الميدان عندما كان للإسلام اليد الطولى على أتباعه وعلى المختلفين معه في القرون الطويلة التي تحكم فيها على رقاب الناس. النصوص التي تحط من شأن المرأة والذمي والوثني لا مجال لنكرانها. فإذا كان يستطيع أن يغض الطرف عنها اليوم فلماذا لا يذهب حتى النهاية فيطالب بالعلمانية ورفض تدخل الدين أصلا في السياسة حتى يبقى الدين لله والوطن للجميع؟

لا أعتقد أن الكاتب على استعداد لذلك وهو القائل مباشرة بعد هذا الكلام: “ولما كان الإسلام قد جاوز ـ كمًّا ونوعا ـ الاتفاقيات الدولية عن حقوق الإنسان، فإن أقل ما يجب أن يتم هو التطبيق الفوري لهذه الاتفاقيات”. فهل يوجد أغرب من هذا الكلام عندما يدعو الكاتب إلى “التطبيق الفوري لهذه الاتفاقيات الدولية عن حقوق الإنسان” ولا يدعو إلى تطبيق الإسلام مادام قد “جاوز ـ كمًّا ونوعا ـ الاتفاقيات الدولية عن حقوق الإنسان”؟

هذا الكلام أعتبره بمثابة الشعرة التي قصمت ظهر البعير. هل يعقل أن نصدق أن “الإسلام قد جاوز ـ كمًّا ونوعا ـ الاتفاقيات الدولية عن حقوق الإنسان”؟ هل لـ”جاوز” معنى آخر غير ما فهمته أنا؟

هلا حدثنا الكاتب الإسلامي عما جاوز فيه الإسلام “الاتفاقيات الدولية عن حقوق الإنسان”؟ أهي في إباحته للعبودية، أم في جعل المرأة ناقصة عقل ودين أم في تشريعه للغزو والاحتلال وأسواق النخاسة ومصانع الخصيان أم في انتصاره للنقل على العقل أم في تقريره أن لا اجتهاد مع النص أم في التخلف الذي تعاني منه حقوق الإنسان في كل البلاد الإسلامية بسبب احتكام مجتمعاتنا إلى هذا الدين؟

يتبع

عبدالقادر أنيس فيسبوك

About عبدالقادر أنيس

كاتب جزائري
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, فكر حر. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.