قاسم سليماني.. قائد الظل “سارق الماعز” يقود حرب الأسد.. في سوريا

نشرت صحيفة “نيويوركر” الأميركية تحقيقاً مطولاً أجراه الصحافي ديكستر qs
فيلكينز عن قائد “فيلق القدس” في حرس الثورة الإيراني الجنرال قاسم سليماني، وصفه بأنه القائد الفعلي في الظل للحرب الدائرة في سوريا، حيث يتخذ مركزاً لقيادة عملياته التي ينفّذها الحرس الثوري بمساعدة “حزب الله” اللبناني وميليشيات شيعية عراقية قام سليماني بتجنيدها شخصياً لخوض القتال في سوريا دفاعاً عن نظام الرئيس بشار الأسد. ويتناول التحقيق سيرة سليماني وبداياته منذ انضمامه إلى الحرس الثوري أثناء الحرب الإيرانية _ العراقية، وصولاً إلى توليه قيادة “فيلق القدس” الذي يقوم وفقاً للكاتب بتنفيذ “سياسة الجمهورية الإسلامية في إيران الخارجية” وبتوجيه مباشر من المرشد الأعلى للثورة السيد علي خامنئي. وقد أطلقت عليه الإذاعة الإيرانية لقب “سارق الماعز” لأنه كان حين “يعود من مهمة استطلاع خلف خطوط العدو العراقي كان يجلب معه عنزة يقوم جنوده بذبحها وشيّها”.

وتنشر “المستقبل” الترجمة الحرفية للتحقيق كما ورد على موقع الصحيفة الإلكتروني على ثلاث حلقات متتالية ابتداء من اليوم:
ترجمة: صلاح تقي الدين

أدار معركة القصير شخصياً واعتبر أن الجيش السوري لا ينفع شيئاً

في الشهر الماضي، عقد أكثر القادة الإيرانيين نفوذاً اجتماعاً في مسجد “أمير المؤمنين” في شمال شرقي طهران، داخل مجمّع مسيّج خاص بكبار ضباط الحرس الثوري الإيراني. لقد كانت المناسبة تقديم التعازي بحسن الشاطري، المخضرم في شؤون الحروب السرية التي خاضتها إيران في الشرق الأوسط وجنوب آسيا، وأحد كبار قادة “فيلق القدس” الذي قتل. وهذا الفيلق هو الأداة “الحادة” التنفيذية للسياسة الإيرانية الخارجية، وتماثل بشكل كبير مزيجاً من وكالة الاستخبارات المركزية (السي آي أيه) والقوات الخاصة الأميركية؛ ويحمل الفيلق اسم مدينة القدس التي وعد عناصره بتحريرها. ومنذ العام 1979، كان هدف الفيلق تدمير أعداء إيران وتوسيع نفوذ الدولة في انحاء الشرق الأوسط. لقد أمضى الشاطري معظم خدمته في الفيلق خارج إيران في أفغانستان أولاً، ومن ثم في العراق، حيث ساعد “فيلق القدس” الميليشيات الشيعية على قتل الجنود الأميركيين.
وكان الشاطري قتل قبل يومين على الطريق الذي يربط العاصمة السورية دمشق بالعاصمة اللبنانية بيروت؟ لقد توجه إلى سوريا إلى جانب آلاف العناصر من الفيلق لإنقاذ الرئيس السوري المحاصر بشار الأسد، الحليف الحيوي لإيران. وفي السنوات القليلة الماضية، عمل الشاطري تحت اسم مستعار كرئيس لفيلق القدس في لبنان حيث ساعد على تعزيز “حزب الله” المسلّح، والذي كان أثناء جنازة الشاطري بدأ بإرسال مقاتليه إلى سوريا للمحاربة إلى جانب النظام. لا تزال ظروف وفاة الشاطري مجهولة، غير أن أحد المسؤولين الإيرانيين قال إن الشاطري تعرّض “لاستهداف مباشر من قبل النظام الصهيوني” وهي الصفة التي يستعملها الإيرانيون عادة في الإشارة إلى إسرائيل.
وأثناء الجنازة، كان بعض المشيعين يبكون، والبعض الآخر يلطم صدره على الطريقة الشيعية. لقد لفّ نعش الشاطري بعلم إيران، والتف حوله قائد الحرس الثوري، وأحد عناصر المؤامرة لاغتيال أربعة من قادة المعارضة الإيرانية في المنفى، في أحد مطاعم العاصمة الألمانية برلين في العام 1992، ووالد عماد مغنية، أحد قادة “حزب الله” الذي يعتقد أنه مسؤول عن التفجيرات التي أدت إلى مقتل أكثر من 250 جندياً أميركياً في بيروت في العام 1983. واغتيل مغنية في العام 2008 كما يزعم على يد عملاء إسرائيليين. وبحسب روح الثورة الإيرانية، أن تموت يعني أنك خدمت. وقبل مأتم الشاطري، أصدر القائد الأعلى للثورة الإيرانية السيد علي خامنئي بيان نعي قال فيه “في النهاية، لقد شرب العصير اللذيذ للاستشهاد”.
وفي الصف الثاني على أرضية المسجد المفروشة بالسجاد، كان الجنرال قاسم سليماني قائد “فيلق القدس” راكعاً: رجل صغير الحجم في السادسة والخمسين من العمر، مع شعر فضي اللون، ولحية مشذّبة قصيرة وصاحب نظرة تنمّ عن ثقة كاملة بالنفس. لقد كان سليماني هو من أرسل الشاطري، صديقه القديم الموثوق، إلى الموت. وبصفتهما قائدان من حرس الثورة، لقد انتمى سليماني والشاطري إلى أخوية صغيرة تم تشكيلها خلال الثورة المقدّسة، وهو الاسم الذي أطلق على الحرب الإيرانية ـ العراقية التي استمرت بين 1980 و 1988 وخلّفت ما يقارب المليون قتيل. لقد كانت معركة كارثية، لكنها بالنسبة لإيران كانت بداية مشروع على ثلاثة عقود لبناء النفوذ الشيعي الممتد من العراق مروراً بسوريا وصولاً إلى البحر الأبيض المتوسط. إلى جانب حلفائها في سوريا ولبنان، تشكّل إيران محور المقاومة المحتشد ضد القوى السنية المسيطرة على المنطقة مع الغرب. وفي سوريا كان المشروع على المحك، وكان سليماني يخوض معركة يائسة حتى لو كان الثمن صراعاً مذهبياً يلفّ المنطقة لسنوات.
وتولّى سليماني قيادة “فيلق القدس” قبل 15 سنة، وسعى خلال هذه الفترة إلى إعادة تشكيل الشرق الأوسط ليكون لصالح إيران، وعمل كصانع قرار سياسي وقوة عسكرية: يغتال الخصوم، يسلّح الحلفاء، ولأكثر من عقد من الزمن، يقود شبكة مجموعات عسكرية قتلت مئات الأميركيين في العراق. ووضعت وزارة الخزانة الأميركية سليماني على لائحتها السوداء بسبب دوره في دعم نظام الأسد لتحريضه الإرهاب. ومع ذلك، بقي معظم الأوقات مخفياً بالنسبة للعالم الخارجي، على الرغم من أنه كان يقود العملاء ويدير العمليات. وقال جون ماغواير، العميل السابق للسي آي أيه في العراق “سليماني هو أكثر فرد نشاطاً في الشرق الأوسط اليوم، وفي الوقت نفسه لم يسمع به أحد”.
وعندما يظهر سليماني علناً ـ غالباً ليخطب في مناسبات لقدامى الحرس أو للقاء الخامنئي ـ يحمل نفسه بصورة غير واضحة ولا يرفع صوته إلا نادراً، ويظهر ما يقول عنه العرب قليلاً من الجاذبية. وقال أحد كبار المسؤولين العراقيين “إنه قصير جداً لكن له حضوره. قد يكون هناك عشرة أشخاص في غرفة وعندما يدخل سليماني لا يأتي ليجلس معك. يجلس في الناحية الأخرى من الغرفة بمفرده وبطريقة صامتة جداً. وهكذا بالطبع يفكّر الجميع به فقط”.
وخلال المأتم، ارتدى سليماني جاكيت سوداء وقميصاً أسود من دون ربطة عنق على الطريقة الإيرانية: لقد بدت على وجهه المثلث الشكل وحاجبيه لمحات الألم. لم يفقد “فيلق القدس” من قبل قائداً رفيعاً من هذا المستوى في الخارج. قبل يوم من المأتم، سافر سليماني إلى منزل الشاطري لتقديم التعازي لعائلته. لديه تعلّق شديد بالجنود الشهداء، وغالباً ما يزور عائلاتهم؛ وفي مقابلة مع وسائل إعلام إيرانية قال “عندما أشاهد أطفال الشهداء، أرغب في أن أشم رائحتهم ولا أعود كما أنا”. وفيما يستمر المأتم تقدّم مع المشيعين الآخرين ليؤدوا الصلاة. وقال إمام المسجد علي رضا باناهيان “لقد رحل أحد الأشخاص النادرين الذين أتوا إليكم بالثورة والعالم بأجمعه”. ووضع سليماني يديه بين كفيّه وراح ينتحب.
وكانت الأشهر الأولى من العام 2013، وقبيل وفاة الشاطري، تشهد الحد الأدنى من التدخل الإيراني في سوريا. لقد كان الأسد يخسر بطريقة مستمرة الأرض لصالح الثوار الذين غالبيتهم من السنة، خصوم إيران. وإذا سقط الأسد، فإن إيران ستفقد رابطها بـ “حزب الله”، قاعدتها المتقدّمة بوجه إسرائيل. وقال أحد الملالي الإيرانيين “إذا خسرنا سوريا، لن يعود بإمكاننا الاحتفاظ بطهران”.
وعلى الرغم من أن الإيرانيين كانوا مرهقين نتيجة العقوبات الأميركية التي فرضت لثني النظام في طهران عن تطوير سلاح نووي، إلا أن جهودهم كانت غير محدودة في محاولة إنقاذ نظام الأسد. ومن بين أمور عديدة، قدّموا قرضاً بقيمة سبعة مليارات دولار لتعزيز الاقتصاد السوري. وقال مسؤول أمني شرق أوسطي “لا أعتقد أن الإيرانيين يحسبون ذلك بالدولار. ينظرون إلى خسارة الأسد كتهديد وجودي لهم”. وبالنسبة لسليماني، تبدو مسألة إنقاذ الأسد عملية كرامة، خاصة إذا كان يعني ذلك تمييزه عن الأميركيين. وقال أحد القادة العراقيين السابقين “سليماني قال لنا إن الإيرانيين سيقومون بما هو ضروري. لسنا مثل الأميركيين. لا نتخلّى عن أصدقائنا”.
وفي العام الماضي، طلب سليماني من القادة الأكراد في العراق السماح له بفتح طريق إمداد عبر شمال العراق إلى سوريا. لقد أمضى سنوات طويلة وهو يغري الأكراد ويرشيهم في محاولة للتعاون مع خططه، لكنهم هذه المرة رفضوا طلبه. والأسوأ من ذلك، أن جنود الأسد لا يقاتلون، أو في حال قاتلوا، فإنهم كانوا يذبحون المدنيين ويدفعون السكان باتجاه الثوار. وقال سليماني لأحد السياسيين العراقين “الجيش السوري لا ينفع!”. وكان يميل إلى “الباسيج”، الميليشيا الإيرانية التي سحق عناصرها التمردات الشعبية في جميع أنحاء إيران. وقال سليماني “أعطني كتيبة من الباسيج يكون باستطاعتي احتلال البلد بكامله”. وفي آب 2012، ألقى الثوار المناهضون للأسد القبض على 48 إيرانياً داخل سوريا. واحتج القادة الإيرانيون زاعمين أنهم حجاج جاءوا ليصلوا في مقام ديني شيعي، لكن الثوار ووكالات الاستخبارات الغربية قالت إنهم إعضاء في “فيلق القدس”. وفي جميع الأحوال، كانوا مهمين لدرجة أن الأسد وافق على إطلاق سراح أكثر من الفين من الثوار المعتقلين مقابل إطلاقهم. وقتل الشاطري بعدها.
وأخيراً، بدأ سليماني بالسفر بشكل مستمر إلى سوريا لكي يتمكن شخصياً من إدارة التدخل الإيراني. وقال مسؤول دفاعي أميركي “إنه يقود الحرب شخصياً”. وفي دمشق، يزعم أن سليماني يعمل انطلاقاً من مركز قيادة محصّن بشكل كبير في أحد المباني غير المعروفة، حيث يعاونه عدد كبير من القادة من جنسيات مختلفة: قادة الجيش السوري، قائد من “حزب الله”، ومنسق عمليات الميليشيات الشيعية العراقية، الذين جنّدهم سليماني وزجهم في المعركة. وإذا لم يتمكن سليماني من الحصول على “الباسيج”، فقد رضي بأفضل شيء ممكن: الجنرال حسين حمداني، نائب القائد السابق للباسيج. وحمداني، رفيقه السابق في الحرب الإيرانية ـ العراقية، خبير في إدارة عمليات الميليشيات غير المنظّمة التي كان الإيرانيون يجمعونها من أجل الاستمرار في القتال إذا سقط الأسد.
وفي العام الماضي، لاحظ مسؤولون غربيون زيادة في رحلات المؤن الإيرانية إلى مطار دمشق. وعوضاً عن بضع طائرات أسبوعياً، كانت الطائرات تحطّ يومياً في مطار دمشق محمّلة بالأسلحة والذخائر “أطنان كثيرة منها” وفقاً لما قاله مسؤول أمني شرق أوسطي، إلى جانب ضباط من “فيلق القدس”. واستناداً لمسؤولين أميركيين، فإن الضباط كانوا ينسّقون الهجمات، ويدربون الميليشيات، وأنشأوا نظاماً متطوراً لمراقبة اتصالات الثوار. كما أجبروا العديد من فروع أجهزة أمن الأسد ـ التي صُممت للتجسس على بعضها البعض ـ على العمل معاً. وقال المسؤول الأمني الشرق أوسطي إن عدد عناصر “فيلق القدس” وعناصر الميليشيات الشيعية العراقية الذين جاؤوا معاً يبلغ عددهم الآلاف. واضاف “إنهم منتشرون في جميع أنحاء البلاد”.
وكانت نقطة التحوّل في نيسان الماضي بعدما تمكن الثوار من الاستيلاء على مدينة القصير السورية بالقرب من الحدود مع لبنان. ولاستعادة المدينة، طلب سليماني من حسن نصرالله، الأمين العام لـ “حزب الله” إرسال أكثر من الفي مقاتل من الحزب. لم يكن إقناعه صعباً. فالقصير تقع على مدخل وادي البقاع، الطريق الرئيسية للصواريخ والمواد الأخرى التي تصل إلى “حزب الله”؛ إذا تم قطع هذه الطريق، سيكون من الصعب على “حزب الله” الصمود. وسليماني ونصرالله اصدقاء منذ فترة طويلة، وقد تعاونا لسنوات في لبنان وأماكن أخرى عديدة من العالم حيث نفّذ عناصر “حزب الله” عمليات إرهابية بناء على أوامر من إيران. واستناداً لويل فيلتون، خبير الشؤون الإيرانية في معهد “أميركان انتربرايز”، فإن مقاتلي “حزب الله” حاصروا القصير، وقطعوا الطرقات إليها قبل أن يهاجموها. قتل له العشرات من مقاتليه كما سقط ما لا يقل عن ثمانية ضباط إيرانيين. وفي 5 حزيران سقطت المدينة. وقال ماغواير الذي لا يزال ناشطاً في المنطقة “العملية بأكملها كانت من تنظيم سليماني. لقد كانت نصراً عظيماً له”.
وعلى الرغم من العمل الصعب لسليماني، فصورته لدى الإيرانيين هي صورة بطل الحرب الذي لا عيب لديه ـ مخضرم حائز على أوسمة عديدة خلال الحرب الإيرانية ـ العراقية، التي رقي خلالها إلى قائد فرقة على الرغم من أنه كان لا يزال في العشرينات من العمر. وعلناً، يبدو متواضعاً بشكل مسرحي. وخلال مقابلة حديثة له، وصف نفسه بأنه “أصغر جندي”، واستناداً للصحافة الإيرانية، رفض إقدام عدد من الحضور على تقبيل يديه. وتأتي سلطته من صداقته المقربة مع خامنئي الذي يقدّم المشورة والرؤية للمجتمع الإيراني بكامله. والقائد الأعلى، الذي يحتفظ عادة بتقدير كبير للجنود القتلى، أشار إلى سليماني على أنه “الشهيد الحي للثورة”. وسليماني من الأنصار المتشددين لنظام إيران الديكتاتوري. وفي تموز 1999، وفي عز التظاهرات الطلابية، وقّع مع غيره من قادة الحرس الثوري، رسالة حذّرت الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي من أنه في حال لم يقمع الثورة، فإن الجيش الإيراني سيفعل ـ وربما أقدم على الإطاحة بخاتمي في طريقه. وجاء في رسالة القادة العسكريين “لقد نفد صبرنا”. وقمعت الشرطة الإيرانية المتظاهرين، كما فعلت مجدداً بعد عقد من الزمن.
وحكومة إيران عنيدة بشكل كبير، وهناك العديد من الوجوه حول خامنئي الذين يساعدون على صياغة السياسة الخارجية، بمن فيهم قادة الحرس الثوري، كبار الملالي، ومسؤولو وزارة الخارجية. غير أنه تم منح سليماني حرية مطلقة في تطبيق رؤية خامنئي. وقال مئير داغان، الرئيس السابق لجهاز الموساد “لديه علاقات مع جميع دوائر النظام. إنه ما أقول عنه البارع سياسياً. لديه علاقات مع الجميع”. ويصفه المسؤولون بأنه مؤمن بالإسلام وبالثورة؛ وفي حين أن العديد من مسؤولي الحرس الثوري كوّنوا ثروات من خلال سيطرة الحرس على الصناعات الإيرانية الرئيسية، إلا أن سليماني ارتضى لنفسه ثروة بسيطة وهبه إياها القائد الأعلى. وقال ماغواير “يهتمون به بشكل جيد”.
ويعيش سليماني في طهران ويبدو أنه يعيش حياة منزلية لائقة ببيروقراطي في منتصف العمر. وقال السياسي العراقي الذي مضى على معرفته بسليماني سنوات عديدة “يصحو في الرابعة صباح كل يوم، ويخلد إلى النوم عند التاسعة والنصف مساء”. ويعاني سليماني من مرض في غدة البروستات وتعاوده آلام في الظهر. وقال عنه المسؤول الشرق أوسطي “يحترم زوجته ويصطحبها في بعض الأحيان إلى رحلات طويلة. لديه ثلاثة أبناء وابنتان، وهو ظاهرياً صارم لكنه أب عطوف”. ويقال إنه قلق بنوع خاص على ابنته نرجس التي تعيش في ماليزيا “وهي تنحرف عن طرق الإسلام” استناداً للمسؤول الشرق أوسطي.
وقال ماغواير “سليماني رجل مصقول أكثر بكثير من غيره. يمكنه أن يتحرّك في الدوائر السياسية، لكنه يملك أيضاً القدرة على التخويف”. وعلى الرغم من أن رأيه محافظ، إلا أن المسؤول الشرق أوسطي يقول “لا أعتقد أنه يستمع إلى الموسيقى الكلاسيكية. الموسيقى الغربية، لا أعتقد أنها من ذوقه أساساً”. وعلى الرغم من من أن سليماني لم يتقدّم كثيراً في العلوم، إلا أن المسؤول العراقي السابق قال “إنه داهية، واستراتيجي ذكي مخيف”. وأدواته التي يستخدمها تتضمن دفع مكافآت إلى السياسيين في جميع أنحاء الشرق الأوسط، وتخويفهم عند الحاجة، والقتل كآخر الوسائل. ومع مرور السنوات، بنى “فيلق القدس” شبكة أصول دولية، بعضها مستند إلى الإيرانيين في الشتات الذين يمكن استدعاؤهم لدعم المهمات. وقال مسؤول شرق أوسطي آخر “إنهم أينما كان”. واستناداً لمسؤولين غربيين، أطلق “حزب الله” و”فيلق القدس” في العام 2010 حملة جديدة ضد أهداف أميركية وإسرائيلية ـ في رد انتقامي على ما يبدو ضد الحملة على البرنامج النووي الإيراني التي تضمنت هجمات قرصنة عبر الانترنت وعمليات اغتيال لعلماء نوويين إيرانيين.
ومنذ ذلك الحين، نظّم سليماني هجمات في أماكن بعيدة مثل تايلاند، نيودلهي، لاغوس ونيروبي ـ على الأقل 30 محاولة خلال السنتين الماضيتين وحدهما. وأكثر هذه المحاولات شهرة كان مؤامرة في العام 2011 لاستئجار خدمات شبكة تهريب مخدرات مكسيكية لاغتيال السفير السعودي لدى الولايات المتحدة وهو يتناول الطعام في أحد المطاعم على بعد كيلومترات قليلة من البيت الأبيض. وتبيّن أن عميل شبكة تهريب المخدرات الذي توّدد إليه عميل سليماني، ليس سوى مخبر لدى وكالة مكافحة المخدرات الأميركية. (ويبدو أن “فيلق القدس” أقوى في الأماكن القريبة من إيران، حيث فشلت خطط عديدة بعيدة”. ومع ذلك، وبعد انفضاح المؤامرة، قال مسؤولان أميركيان سابقان أمام لجنة من الكونغرس إنه يجب اغتيال سليماني. وقال أحدهما “سليماني يسافر كثيراً. إنه سهل المنال. اذهبوا لاعتقاله أو اقتلوه”. وفي إيران، وقّع أكثر من مئتي شخصية مرموقة عريضة دفاعاً عنه؛ ونشر أحد المواقع الاجتماعية على الانترنت بيانأً جاء فيه “كلنا قاسم سليماني”.
وتوقف عدد من المسؤولين الشرق أوسطيين الذين أعرف البعض منهم منذ فترة طويلة عن الكلام عندما ذكرت اسم سليماني. وقال مسؤول كردي في العراق “لا نريد أن نكون طرفاً في ذلك”. ومن بين الجواسيس في الغرب، يبدو أنه ينتمي إلى فئة خاصة، عدو مروّع ومثير للإعجاب في آن: شبيه بكارلا، الجاسوس السوفياتي الصعب المنال في روايات جون لو كاريه. وعندما اتصلت بداغان، الرئيس السابق للموساد، ولدى ذكري اسم سليماني، ساد صمت طويل ثم قال بلهجة ساخرة “آه. إنه صديق عزيز”.
وفي آذار 2009، عشية عيد رأس السنة الفارسية، قاد سليماني مجموعة من قدامى الحرب الإيرانية ـ العراقية إلى مرتفعات با ـ علم الصخرية الجرداء على الحدود العراقية. وفي العام 1986، شهدت با ـ علم واحدة من أسوأ المعارك للسيطرة على شبه جزيرة الفاو، حيث قتل عشرات آلاف الرجال من دون أن يتقدموا خطوة واحدة. وأظهر شريط فيديو عن الزيارة سليماني وهو واقف فوق قمة جبلية يروي ذكرى المعركة لرفاقه القدامى. وبصوت رقيق كان يتحدث فيما صوت الموسيقى والصلوات يصدح.
ويقول سليماني وهو يشير إلى الوادي “هذه هي طريق دشتي عباس. هذه المنطقة كانت حاجزاً بيننا وبين العدو”. ولاحقاً انتقل سليماني والمجموعة ليقفوا على ضفاف نهر صغير، حيث راح يتلو بصوت مرتفع أسماء الجنود الإيرانيين الذين قتلوا، وقد بدا عليه التأثر. وخلال فترة استراحة، تحدّث إلى مذيع ووصف القتال بطريقة صوفية. وقال “ساحة المعركة هي الجنة المفقودة للبشر الجنة التي تصل فيها التصرفات الانسانية والأخلاقية إلى أعلى مستوياتها. أحد أنواع الجنة التي يتخيلها الانسان هي عن الجداول، عن العذارى الجميلات والمناظر الطبيعية الخصبة. لكن هناك نوع آخر من الجنات ـ ارض المعركة”.
وولد سليماني في رابور، القرية الجبلية الفقيرة في شرق إيران. وعندما كان صبياً، طلب والده مثل العديد من المزارعين الآخرين، قرضاً زراعياً من حكومة الشاه. وكان مديناً بحوالي 900 تومان ـ حوالي 100 دولار أميركي بسعر الصرف في حينها ـ ولم يستطع أن يسدد المتوجب عليه. وفي مذكراته الموجزة، كتب سليماني أنه ترك منزله مع أحد أقربائه ويدعى أحمد سليماني، كان يعاني من الوضع نفسه. وقال “في الليل، لم يكن باستطاعتنا النوم بسبب الحزن من أن يأتي عملاء الحكومة لاعتقال والدينا”. وسافرا معاً غلى كرمان، المدينة الأقرب، في محاولة لتخليص عائلتيهما من الدين. ولم تكن المدينة مرحّبة بهما. أضاف “كنا في الثالثة عشرة وأجسامنا ضعيفة، وحينما ذهبنا لم يكن أحد يقبل بتوظيفنا. إلى أن حل يوم تم توظيفنا بصفة عاملين في موقع بناء مدرسة في شارع خاجو، وهو كان في آخر أطراف المدينة. لقد دفعوا لنا تومان يومياً”. وبعد ثمانية أشهر، وفّرا من المال ما يكفي للعودة إلى منزليهما، لكن الثلج كان كثيفاً. قيل لهما أن يفتشا عن سائق محلي يدعى بهلوان ـ البطل ـ والذي كان “رجلاً قوياً قادراً على رفع بقرة أو حمار بأسنانه”. وأثناء الرحلة، ، كان حينما تعلق السيارة “يرفعها ويعيدها إلى المكان المناسب”. ووفقاً لما كتبه سليماني، فإن بهلوان كان من أشد المتحمّسين للشاه. وبعد وصولهما إلى المنزل، كتب سليماني يقول “مع بدء أضواء منازلنا في القرية تلوح أمامنا. بمجرد انتشار الخبر في القرية، ساد هرج ومرج”.
وفي سن الشباب، بدأت تظهر على سليماني بعض ملامح الطموح الكبير. واستناداً لعلي ألفونيه، الخبير في الشؤون الإيرانية لدى مؤسسة “الدفاع عن الديموقراطيات”، وصل سليماني إلى مرحلة الشهادة الثانوية فقط، وعمل في دائرة مياه بلدية كرمان. لكن الزمن كان زمن ثورة، وكانت الفوضى التي تسود البلاد قد وصلت إلى القمة. وبعد انتهائه من العمل، كان سليماني يمضي أوقاته في أحد الأندية المحلية لرفع الأثقال، ومثل العديد من رجال الشرق الأوسط، كان ذلك ضرورياً لتوفير البنية الجسدية والإلهام الضروري لروح المقاتل. وخلال شهر رمضان، كان يستمع إلى المحاضرات الدينية التي يلقيها أحد الواعظين ويدعى حجة كمياب ـ أحد المحظيين لدى خامنئي ـ وخلال هذه المحاضرات، أصبح مؤمناً بإمكانية قيام الثورة الإسلامية.
وفي العام 1979، عندما كان سليماني في الثانية والعشرين من العمر، تمت الإطاحة بنظام الشاه على يد الشعب بقيادة آية الله روح الله الخميني تحت اسم الاسلام. ونتيجة تحيّزه إلى الثورة، انضم سليماني إلى الحرس الثوري، القوة العسكرية التي تم تأسيسها من قبل القيادة الدينية الجديدة في إيران، لمنع الجيش من القيام بانقلاب ـ وترقّى في صفوف الحرس بسرعة. وكحرس شاب، تم إرسال سليماني إلى شرقي غرب إيران حيث ساعد على قمع انتفاضة نظّمها الأكراد.
وبعد 18 شهراً على الثورة، ارسل صدام حسين الجيش العراقي ليخرق الحدود آملاً باستغلال الفوضى الداخلية في إيران, عوضاً عن ذلك، ساهم الغزو العراقي بتعزيز قيادة الخميني ووحّد الدولة في المقاومة، وأدخلها في حرب وحشية راسخة. وأرسل سليماني إلى الجبهة بمهمة بسيطة، تأمين المياه للجنود هناك، ولم يغادر الجبهة مطلقاً. وقال “دخلت إلى الحرب بأمر مهمة لخمسة عشر يوماً، وانتهى الأمر ببقائي حتى نهاية الحرب”. وتظهر صورة التقطت في تلك الفترة سليماني مرتدياً الزي العسكري الأخضر اللون من دون أي إشارة إلى رتبته، وعيناه تحدقان إلى البعيد. وقال لأحد الصحافيين في العام 2005 “كنا جميعنا شباناً، وأردنا خدمة الثورة”.
واكتسب سليماني سمعة الشجاعة والحماسة، خاصة بعد قيامه بمهمات استطلاع خلف خطوط العدو العراقي. وكان يعود من عدد من المهمات حاملاً معه عنزة يقوم جنوده بذبحها وشيّها. وقال مسؤول سابق في الحرس الثوري فرّ إلى الولايات المتحدة “حتى العراقيين، أعداؤنا، كانوا يعجبون به لقيامه بذلك”. وأصبح يعرف سليماني عبر أثير الإذاعة الإيرانية بـ “سارق الماعز”. وقال ألفونيه إنه تقديراً لفعاليته، أوكلت إليه مهمة قيادة كتيبة من كرمان مؤلفة من رجال كان التقى بهم في نادي رفع الأثقال المحلي.

قاسم سليماني.. قائد الظل(2 ـ 3)
احتضن “القاعدة” في إيران وساعد “حزب الله” للسيطرة على لبنان

المستقبل الأربعاء 25 أيلول 2013
في الحلقة الثانية من تحقيق مجلة “ذي نيويوركر”، يتابع ديكستر فيلكينز كشف معلوماته عن سليماني وكيفية ترّقيه في صفوف الحرس الثوري الإيراني وصولاً إلى تبوئه منصب قائد “فيلق القدس” في العام 1998. ويقول الكاتب إنه في تلك الأثناء، كان لبنان يقبع تحت الاحتلال الإسرائيلي منذ أكثر من ستة عشر عاماً، وكان “حزب الله” يتوق إلى السيطرة على البلد، فأرسل سليماني إلى صديقيه نصرالله ومغنية عناصر من الفيلق لمساعدتهما على تحقيق ذلك، كما شجع النظام السوري على تسهيل تحرك المتطرفين السنة من سوريا الى العراق، وسمح لتنظيم “القاعدة” بمساحة من الحرية في ايران.

ترجمة: صلاح تقي الدين
كان ميزان القوى يميل بشدّة ضد الجيش الإيراني الذي كان ضباطه يلجأون إلى تكتيكات بسيطة ومكلفة. وباعتمادهم على الهجمات بواسطة “الأمواج البشرية”، كانوا يرسلون آلاف الجنود إلى خطوط المواجهة مع العراقيين، غالباً لتنظيف حقول الألغام، ما يؤدي إلى وفاة الجنود بمعدل متهوّر. وبدا سليماني مفجوعاً بالخسائر بالأرواح. وقبل إرسال جنوده إلى المعركة، كان يعانق كل واحد منهم ويودعه؛ وفي خطاباته، كان يمجّد الجنود الشهداء ويطلب منهم السماح لأنه لم يكن شهيداً معهم. وعندما أعلن رؤساؤه خططاً للهجوم على شبه جزيرة الفاو، انتقدهم ووصفهم بأنهم مسرفون ومتهورون. ويذكر العضو السابق في الحرس الثوري نفسه، أنه شاهد سليماني في العام 1985، عقب معركة عانت خلالها كتيبته خسائر كبيرة في الأرواح وأصيب سليماني نفسه بجروح، وكان جالساً بمفرده في زاوية خيمته. ويقول “كان غارقاً في صمته، ويفكّر بالجنود الذين خسرهم”.
وقتل احمد، قريب سليماني الذي سافر معه إلى كرمان، في العام 1984. وفي مناسبة واحدة على الأقل، أصيب سليماني نفسه بجروح. ومع ذلك، لم يفقد حماسته للعمل الذي كان يقوم به. وفي ثمانينيات القرن الماضي، كان رويل مارك غيريشت عميلاً مبتدئاً في “السي آي أيه” ومقره اسطنبول، حيث جنّد أشخاصاً من بين آلاف الجنود الإيرانيين الذين أرسلوا إلى تركيا ليتعافوا. وقال غيريشت الذي كتب كثيراً عن الموضوع الإيراني “كان أمامك مجموعة متنوعة من جنود الحرس الثوري. كان بإمكانك اختيار رجال دين، أو جنود عاديين جاءوا ليتنفسوا أو ممارسة الزنى أو الشرب”. وقسّم غيريشت قدامى الحرس الثوري إلى مجموعتين. “كان هناك المصابون بكسور والمصابون بحروق، الرجال الفارغون ـ هؤلاء الذين دمّرت حياتهم. ثم هناك الرجال التواقون إلى العودة إلى الجبهة بفارغ الصبر. سليماني كان من الفئة الأخيرة”.
وكان لدى ريان كروكر السفير الأميركي السابق لدى العراق بين العامين 2007 و2009 الشعور نفسه. وخلال حرب العراق، كان كروكر يتعامل في بعض الأحيان مع سليماني بشكل غير مباشر، من خلال القادة العراقيين الذين كانوا يروحون ويأتون من وإلى طهران بصورة دائمة. ومرة سأل احد العراقيين عما إذا كان سليماني متديّناً بشكل خاص وكان الجواب “ليس حقاً. كان يؤم المسجد بصورة دائمة، لكن الدين ليس دافعه. القومية وحبه للقتال هما الدافع”.
وتعلّم قادة إيران درسين من الحرب الإيرانية ـ العراقية. الدرس الأول هو أن إيران كانت محاطة بالأعداء القريبين والبعيدين. بالنسبة للنظام، لم يكن الغزو مؤامرة عراقية بقدر ما كان مؤامرة غربية. كان المسؤولون الأميركيون على علم بالتحضيرات التي يجريها صدام حسين لغزو إيران في العام 1980، وقاموا لاحقاً بتزويده بمعلومات حول أهداف يمكن مهاجمتها بأسلحة كيميائية؛ هذه الأسلحة تم تصنيعها بمساعدة من مصانع أوروبا الغربية نفسها. وذكرى هذه الهجمات مريرة بشكل خاص. وقال مهدي خالاجي، الخبير في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى “هل تعلم كم شخصاً لا يزال يعاني من آثار الأسلحة الكيميائية؟ آلاف الجنود السابقين. يعتقدون أنها كانت أسلحة زوّدها الغربيون لصدام”. في العام 1987، وخلال معركة مع الجيش العراقي، هوجمت فرقة بقيادة سليماني بواسطة قنابل مدفعية تحتوي على مواد كيميائية. عانى أكثر من مئة من جنوده من آثار هذا الهجوم.
والدرس الثاني الذي تعلمه الإيرانيون هو عدم جدوى خوض المواجهات المباشرة. وفي العام 1982 وبعدما دحرت القوات الإيرانية الجيش العراقي، أمر الخميني رجاله بالاستمرار في القتال حتى “تحرير” العراق والتقدّم نحو القدس. وبعد ست سنوات ومئات آلاف الضحايا، وافق على وقف إطلاق النار. واستناداً لألفونيه، يعتقد العديد من الجنرالات من جيل سليماني أنه كان بالإمكان النجاح لو لم يتراجع الملالي. وقال “يشعر العديدون منهم كما لو أنهم طعنوا في الظهر. لقد غذّوا هذه الأسطورة لما يقارب الثلاثين عاماً”. لكن قادة إيران لا يريدون حمام دم آخر، وعوضاً عن ذلك، عليهم أن يبنوا القدرة على شن هجمات غير متكافئة ـ مهاجمة قوى أكبر بطريقة غير مباشرة خارج إيران.
وكان “فيلق القدس” الوسيلة المثالية. كان الخميني قد أنشأ نسخة أولية من هذه القوة في العام 1979 بهدف حماية إيران وتصدير الثورة الإسلامية. والفرصة الأكبر جاءت في لبنان، عندما تم إرسال مجموعة من ضباط الحرس الثوري في العام 1982 لتنظيم الميليشيات الشيعية خلال الحرب الأهلية اللبنانية التي شاركت فيها أطراف عديدة. وأثمرت هذه الجهود بتأسيس “حزب الله” تحت توجيه إيران. وساعد القائد العسكري لـ “حزب الله” عماد مغنية اللامع والدموي على تأسيس ما عرف لاحقاً باسم “جهاز الأمن الخاص”، وهو أحد أجنحة “حزب الله” الذي يعمل بشكل وثيق مع “فيلق القدس”. وبمساعدة من إيران، ساعد “حزب الله” على تنظيم هجمات على السفارة الأميركية ومقري القوات الفرنسية والأميركية. وقال دافيد كريست، المؤرخ في الجيش الأميركي ومؤلف كتاب “حرب الغسق” “في الأيام الأولى، وعندما كان حزب الله معتمداً بشكل كلي على المساعدات الإيرانية، مغنية وآخرون كانوا برغبتهم الكاملة ودائع إيرانية”.
وعلى الرغم من كل العدائية التي كانت لدى النظام الإيراني، إلا أن بعض تعصبّه الديني بدأ يخفت. في العام 1989 توقف الخميني عن الطلب من الإيرانيين تصدير الثورة، ودعا عوضاً عن ذلك، إلى تسريع خطوات المحافظة على مكاسبها. والمصالح الذاتية الفارسية كانت أمر اليوم، حتى لو أنها كانت متمايزة عن حماسة الثورة. وفي هذه السنوات، عمل سليماني على الجبهة الإيرانية الشرقية في مساعدة الثوار الأفغان الذين كانوا يتصدون للطالبان. وكان الإيرانيون ينظرون إلى الطالبان بعدائية شديدة وذلك يعود في جزء كبير إلى اضطهادهم للأقلية الشيعية الأفغانية. ( في إحدى المراحل، كان البلدان على وشك خوض حرب بينهما حيث جنّدت إيران ما يقارب ربع مليون جندي، وشجب قادتها الطالبان على أنهم إهانة للإسلام). وفي منطقة ينمو فيها الفساد، بنى سليماني لنفسه شهرة على أنه حارب مهربي الأفيون على طول الحدود الأفغانية.
وفي العام 1998، سمّي سليماني على رأس “فيلق القدس” حيث تولى قيادة جهاز كان قد بنى لنفسه تاريخاً دموياً: يعتقد المسؤولون الأميركيون والأرجنتينيون أن النظام الإيراني ساعد “حزب الله” على تنظيم تفجير السفارة الإسرائيلية في بيونس أيرس في العام 1992 والذي أدى إلى مقتل 29 شخصاً، والهجوم على المركز اليهودي في المدينة نفسها والذي أدى لمقتل 85 شخصاً. وحوّل سليماني “فيلق القدس” إلى تنظيم ذات باع طويل وفروع متخصصة بالاستخبارات، التمويل، السياسة، التخريب والعمليات الخاصة. ومع مركز القيادة الذي اتخذه في مبنى السفارة الأميركية السابقة في طهران، يملك “فيلق القدس” ما بين عشرة وعشرين ألف عنصر، ينقسمون بين المقاتلين وأولئك الذين يشرفون على تدريب وإدارة الفروع الخارجية. ويتم اختيار عناصره من بين أصحاب المهارات وولائهم لعقيدة الثورة الإسلامية، (كما في بعض الأحيان بسبب انتماءاتهم العائلية). واستناداً إلى صحيفة “إسرائيل اليوم” يتم تجنيد المقاتلين في جميع أنحاء المنطقة، ويتم تدريبهم في مدينتي شيراز وطهران، وتلقينهم العقيدة في “جامعة عملية القدس” في مدينة قم، ثم يرسلون “لشهور طويلة في مهمات إلى أفغانستان والعراق ليحصلوا على خبرة في العمل الميداني. ويسافرون عادة تحت ستار عمال بناء إيرانيين”.
وبعد توليه القيادة، عزز سليماني علاقاته في لبنان مع مغنية وحسن نصرالله، الأمين العام لـ “حزب الله”. وفي تلك الأثناء، كان الجيش الإسرائيلي قد احتل لبنان لما يزيد عن ستة عشر عاماً، وكان “حزب الله” يتوق إلى السيطرة على البلد، فأرسل سليماني عناصر من “فيلق القدس” لمساعدته على ذلك. وقال كروكر “كان لديه حضور هائل ـ تدريب، نصح وتخطيط”. وفي العام 2000، انسحب الإسرائيليون مرهقين نتيجة هجمات “حزب الله”. كان ذلك إشارة انتصار للشيعة، وأضاف كروكر “كان مثالاً آخر حول كيف يمكن لدول مثل سوريا وإيران أن تخوص لعبة طويلة المدى، بناء على معرفتهم بأنه لا يمكننا فعل ذلك”.
ومنذ ذلك الحين، وفّر النظام الإيراني المساعدات لمجموعات مختلفة من المقاتلين الإسلاميين التي تعارض حلفاء الأميركيين في المنطقة، مثل المملكة السعودية والبحرين. ولم تصل المساعدة إلى الشيعة فقط، بل أيضاً إلى مجموعات سنية مثل “حماس” ـ ما ساهم بتشكيل مجموعة تحالفات تمتد من بغداد حتى بيروت. وقال ديبلوماسي غربي في بغداد “لم ينطلق أحد في طهران قبل وضع خطة شاملة لبناء محور المقاومة، غير أن الفرص كانت مناسبة. في كل حالة، كان سليماني أذكى، أسرع ويملك موارد أكثر من أي جهة أخرى في المنطقة. من خلال اغتنام الفرص حين حدوثها، بنى هذا الشيء ببطء لكن بثبات”.
وخلال الأيام الفوضوية التي تلت اعتداءات 11 أيلول، سافر ريان كروكر الذي كان أصبح أحد كبار مسؤولي وزارة الخارجية الأميركية، إلى جنيف للقاء مجموعة من الديبلوماسيين الإيرانيين. وقال كروكر “سافرت يوم الجمعة وعدت يوم الأحد، وكانت عطلة نهاية الأسبوع، فلم يعلم أحد في الوزارة أين كنت. كنا نسهر طيلة الليل خلال اجتماعاتنا”. وبدا واضحاً لكروكر أن الإيرانيين كانوا يجيبون سليماني الذي كانوا يسمّونه “الحاج قاسم”، وكانوا يتوقون إلى مساعدة الولايات المتحدة الأميركية في القضاء على عدوهم المشترك، الطالبان. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة وإيران كانتا قطعتا العلاقات الديبلوماسية في العام 1980 عقب أزمة الرهائن الديبلوماسيين الأميركيين في طهران، إلا أن كروكر لم يكن متفاجئاً بإحساسه بليونة سليماني. وقال “لا تعيش ثماني سنوات من الحرب الوحشية ولا تخرج منها براغماتياً”. كان سليماني يمرر رسائل في بعض الأحيان لكروكر، لكنه كان يتجنّب في أن تكون خطية. وأضاف كروكر “الحاج قاسم أذكى بكثير من ذلك. لن يترك وراءه آثاراً ورقية للأميركيين”.
وقبل بدء عمليات القصف على أفغانستان، شعر كروكر أن الإيرانيين كانوا يفقدون صبرهم مع إدارة الرئيس الأميركي السابق جورج بوش، ويعتقدون أن المسألة تأخرت كثيراً قبل المباشرة بقصف الطالبان. وفي اجتماع في مطلع تشرين الأول 2001، وقف كبير المفاوضين الإيرانيين ورمى برزمة من الأوراق على الطاولة وقال “إذا لم تتوقفوا عن بناء هذه الحكومات الخرافية في السماء، تبدأوا بالفعل ببعض القصف على الأرض، فلن يحدث أي من هذه الأشياء. عندما تصبحون جاهزين للحديث جدياً عن قتال حقيقي، تعرفون أين تجدوني”. وغادر الغرفة بسرعة. وأضاف كروكر “كانت لحظة عظيمة”.
واستمر التعاون بين البلدين طيلة المرحلة التحضيرية للحرب. وفي مرحلة معينة، سلّم كبير المفاوضين إلى كروكر خريطة تفصيلية عن مواقع قوات الطالبان. وقال “هذه نصيحتنا. اضربوهم هنا أولاً، ثم انتقلوا إلى هنا. هذا هو المنطق”. وتوجه كروكر المندهش بسؤال “هل باستطاعتي تدوين ملاحظات؟” فأجاب المفاوض “يمكنك الاحتفاظ بالخريطة”. وتدفقت المعلومات من الجانبين. وفي لحظة ما، قال كروكر إنه أعطى نظراءه الإيرانيين موقع أحد المخبرين من طالبان يعيش في مدينة مشهد في شرق إيران. اعتقله الإيرانيون وسلّموه إلى قادة أفغانستان الجدد الذين بحسب اعتقاد كروكر قاموا بتسليمه إلى الولايات المتحدة. وقال المفاوض لكروكر “الحاج قاسم سعيد جداً لتعاوننا”.
ولم تستمر الإرادة الطيبة طويلاً. في كانون الثاني 2002، وكان كروكر أصبح في حينها نائب مسؤول السفارة الأميركية في العاصمة الأفغانية كابول، أيقظه مساعدوه ليلاً ليبلغوه أن الرئيس الأميركي جورج بوش سمّى إيران عضواً في “محور الشر”. ومثل العديد من كبار الديبلوماسيين، فوجئ كروكر بهذا الموقف. وشاهد كروكر كبير المفاوضين الإيرانيين في اليوم التالي في مركز الأمم المتحدة في كابول وكان غاضباً. ويقول كروكر إن المفاوض افيراني قال له “لقد أسأت إلي بالكامل. أصيب سليماني بنوبة غضب. يشعر أنه قد فضح”. وأضاف المفاوض لكروكر أن هذه لحظة خطر سياسي حقيقي وأن سليماني يقوم بإعادة تقويم شاملة للعلاقة مع الولايات المتحدة قائلاً “ربما حان الوقت لكي نعيد التفكير بعلاقتنا مع الأميركيين”. لقد أوصل خطاب “محور الشر” الاجتماعات إلى نهايتها. ووجد الإصلاحيون داخل الحكومة الإيرانية الذين كانوا يدافعون عن التقارب مع الولايات المتحدة أنفسهم في موقف دفاعي. وحين يتذكر كروكر تلك الفترة يهز برأسه ويقول “كنا قريبين جداً. كلمة واحدة في خطاب غيّرت التاريخ”.
وقبل انهيار الاجتماعات، تحدّث كروكر مع كبير المفاوضين الإيرانيين حول احتمال الحرب في العراق. وقال كروكر “اسمع، لا أعلم ما الذي سيحدث، لكن لدي بعض المسؤوليات في العراق ـ إنه ملفي _ ولا أستطيع قراءة الإشارات، و أعتقد أننا سنذهب إلى هناك”. لقد شاهد الإيراني فرصة هائلة. الإيرانيون يكرهون صدام، واعتقد كروكر أنهم سيكونون على استعداد للتعامل مع الولايات المتحدة. وقال المفاوض لكروكر “لست مع الغزو. لكني أفكر أنه إذا كنتم ستقومون به، فلنر ما إذا كان بإمكاننا تحويل عدو إلى صديق ـ على الأقل تكتيكياً لهذه الغاية، ثم نرى أين نذهب بعد ذلك”. وأشار المفاوض إلى أن الإيرانيين على استعداد للحديث، وأن العراق مثل أفغانستان، كان جزءاً من خطة سليماني. أضاف كروكر “كان الرجل نفسه يدير المسرحين”.
وبعد بدء الغزو في آذار 2003، كان المسؤولون الإيرانيون مسعورين من جعل الأميركيين يعلمون أنهم يريدون السلام. وشاهد كثيرون منهم أنظمة أفغانستان والعراق كيف يطاح بها، واعتقدوا أن الدور المقبل سيكون عليهم. وقال ماغواير، مسؤول “السي آي أيه” السابق في بغداد “كانوا خائفين. كانوا يرسلون مفاوضين عبر الحدود العراقية إلينا ليقولوا إنهم لا يريدون المشاكل معنا. كنا نملك كل الأوراق الرابحة”. وفي العام نفسه، اقتنع الأميركيون أن إيران أعادت رسم خططتها لتطوير سلاح نووي، والسير في هذه الخطة ببطء وسرية، خشية أن تدعو الغرب لضربها.
وبعد انهيار نظام صدام، أوفد كروكر إلى بغداد ليساعد على تنظيم الحكومة الوليدة التي دعيت باسم “مجلس الحكم العراقي”. وأدرك كروكر أن العديد من السياسيين العراقيين كانوا يتوجهون إلى طهران للتشاور، واستغل مباشرة فرصة التشاور مع سليماني. وأثناء ذلك الصيف، مرّر له كروكر أسماء المرشحين الشيعة المحتملين، وكان الرجلان يدققان في كل اسم منهم. ولم يعترض كروكر على أي اسم، بل كان يستثني مباشرة اسم الشخص الذي كان سليماني يعترض عليه. وقال “كان تشكيل مجلس الحكم بروحيته، مفاوضات بين طهران وواشنطن”.
وكان هذا التبادل قمة التعاون الإيراني ـ الأميركي. وقال كروكر “بعد تشكيل مجلس الحكم، انهار كل شيء”. وفيما تعثّر الاحتلال الأميركي، أطلق سليماني حملة مكثّفة من التخريب. ويعتقد العديد من الأميركيين والعراقيين أن تغيير الإستراتيجية كان نتيجة الانتهازية: أصبح الإيرانيون عدائيين عندما بدأ خوفهم من الغزو الأميركي يتراجع.
وطيلة سنوات، كان سليماني يرسل عملاءه إلى العراق ليغذي الميليشيات الشيعية، فكان حين سقط صدام، يملك قوة مقاتلة لا بأس بها في مكانها: فصائل بدر، الجناح المسلح للحزب الشيعي المعروف باسم “المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق”. وكان زعماء الحزب مرتبطين بالثورة الإيرانية لدرجة أن رجال ميليشيا بدر حاربوا إلى جانب القوات الإيرانية في الحرب الإيرانية ـ العراقية.
وأمضت “فصائل بدر” معظم وقتها وهي تشن هجمات انتقامية ضد البعثيين، ولم تطلق نيرانها كثيراً باتجاه الأميركيين. غير أن ميليشيا أخرى مدعومة من إيران تدعى “جيش المهدي” يقودها رجل الدين الشيعي الشعبي مقتدى الصدر، بدأت بمواجهة الأميركيين في وقت مبكر. في آب 2004، وبعد هجوم أميركي دموي ، شاهدت في مدينة النجف المقدسة إلى الجنوب من بغداد، عشرات المقابر الجوفاء، وضعت عليها كؤوس زجاجية فيها ورقة تحمل اسم المقاتل الشهيد وعنوانه، ومعظمها حمل عنواناً في “طهران”.
ووجد سليماني أنه لا يمكن التنبؤ بتصرفات الصدر ومن الصعوبة إدارته، فبدأ “فيلق القدس” تنظيم ميليشيات أخرى كانت على استعداد لمهاجمة الأميركيين. وبدأ ضباط الفيلق بتدريب المقاتلين في إيران، وفي بعض الأحيان بمساعدة من رفاقهم في “حزب الله”. وبدا في بعض الأحيان أن سلطة سليماني على بعض الميليشيات العراقية كانت مطلقة. وفي إحدى المراحل، ألقى مسؤول عراقي رفيع أثناء رحلة إلى واشنطن، اللوم على القائد الأعلى لتصعيد العنف في العراق. وبعد عودته إلى بغداد قال إنه تلقى رسائل من قائدي اثنيتين من الميليشيات الشيعية العراقية يطرحان عليه السؤال نفسه: هل تريد الموت؟
في العام 2004، باشر “فيلق القدس” بإرسال كميات كبيرة من الألغام والقنابل الموقوتة التي كانت تستهدف الآليات الأميركية، وشكلت لها قلقاً كبيراً. ولا يمكن سوى للخبراء المهرة تصنيع مثل هذه القنابل والتي تنفجر نتيجة أجهزة تحسس فائقة الدقة. وقال الجنرال ستانلي ماكريستال الذي كان في ذلك الوقت قائد العمليات الخاصة المشتركة “لم تكن لدينا أية شكوك حول مصدر هذه القنابل. كنا نعرف تماماً أن جميع مصانعها كانت في إيران. لقد أدت هذه القنابل إلى مقتل مئات الأميركيين”.
وتخطت حملة سليماني ضد الولايات المتحدة الانقسام الشيعي ـ السني، الذي كان دائماً على استعداد لوضعه جانباً في سبيل هدف أسمى. وقال مسؤولون عراقيون وغربيون إنه في بدايات الحرب، شجّع سليماني رئيس استخبارات نظام الرئيس السوري بشار الأسد على تسهيل تحرك المتطرفين السنة من سوريا إلى العراق للقتال ضد الأميركيين. وفي العديد من الحالات، سمح لتنظيم “القاعدة” بمساحة من الحرية في إيران نفسها. وقال كروكر إنه في أيار 2003، حصل الأميركيون على معلومات بأن مقاتلي “القاعدة” يخططون لهجوم ضد أهداف غربية في المملكة العربية السعودية. لفت ذلك انتباه كروكر الذي قال “كانوا هناك، تحت حماية إيرانية يخططون لعمليات”. أضاف أنه سافر إلى جنيف ومرر تحذيراً إلى الإيرانيين من دون جدوى. لقد فجّر المقاتلون ثلاثة مجمعات سكنية في الرياض ما أدى إلى مقتل 35 شخصاً بمن فيهم 9 أميركيين.
وكما تبيّن، فإن الإستراتيجية الإيرانية بتحريض المتطرفين السنة، انقلبت عليهم: بعد فترة قصيرة من الاحتلال الأميركي، بدأ المتطرفون أنفسهم مهاجمة المدنيين الشيعة، والحكومة العراقية ذات الهيمنة الشيعية. كان المشهد مقدمة للحرب الأهلية المقبلة. وقال ديبلوماسي غربي في بغداد “أهلاً بكم في الشرق الأوسط. أراد سليماني إلحاق الأذى بالأميركيين فدعا الجهاديين وخرجت الأمور عن السيطرة بشكل كامل”.
ومع ذلك، لم تكن السياسة الإيرانية تجاه الأميركيين في العراق عدائية تماماً ـ في نهاية الأمر، كانت الدولتان تحاولان تعزيز سلطة الغالبية الشيعية في العراق ـ ولذلك، تناوب سليماني على المقايضة مع الأميركيين وقتلهم. وطيلة الحرب، استدعى سليماني القادة العراقيين إلى طهران لعقد صفقات معهم، كانت في معظمها تهدف إلى تعزيز السلطة الشيعية. وفي مرة واحدة على الأقل، سافر سليماني إلى قلب السلطة الأميركية في بغداد. وقال سياسي عراقي “سليماني جاء إلى المنطقة الخضراء للاجتماع إلى عراقيين. أعتقد أن الأميركيين ارادوا اعتقاله، لكنهم تصوروا أنه لن يكون بإمكانهم ذلك”.
وفيما كان الطرفان يحاولان الحصول على افضلية، أدى تغيّر الولاءات في بعض الأحيان إلى مقابلات مثيرة. كان قائدا الحزبين الكرديين الأقوى مسعود برازاني وجلال طالباني يلتقيان بشكل مستمر مع سليماني والأميركيين. وفي حين أن العلاقات الكردية ـ الأميركية اتسمت عادة بالحرارة، إلا أن علاقة برزاني وطالباني بالقادة الإيرانيين مثل سليماني، كانت أعمق وأكثر تعقيداً؛ لقد وفّر النظام الإيراني الملجأ الآمن لأكراد العراق خلال حربهم مع صدام. لكنها لم تكن علاقات متساوية يوماً. يقول القادة الأكراد إن هدف سليماني كان دائماً إبقاء الأحزاب العراقية منقسمة وغير مستقرة، وضمان بقاء العراق دولة ضعيفة: الحرب الإيرانية ـ العراقية لم تغب يوماً عن باله. وقال مسؤول كردي رفيع “من الصعب جداً بالنسبة لنا أن نقول لا لسليماني. عندما نقول لا، يتسبب لنا بالمشاكل. تفجيرات. قتل. الإيرانيون جيراننا. كانوا هنا منذ زمن طويل، وسوف يبقون كذلك. علينا التعامل معهم”.

قاسم سليماني.. قائد الظل(3 ـ 3)
صاحب الدور المركزي في اغتيال الحريري.. وصانع حكومة المالكي

المستقبل -الثلاثاء 24 أيلول 2013
في الحلقة الثالثة الأخيرة من تحقيق ديكستر فيلكينز في مجلة “ذي نيويوركر” يكشف الكاتب عن أنه “في حال ثبت تورّط إيران في قضية اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية رفيق الحريري، فإن لسليماني الدور المركزي فيها”، مشيراً إلى أن “كبار المحققين في المحكمة الخاصة بلبنان قالوا إن أجهزة الاستخبارات الغربية رفضت مساعدتهم في توفير المعلومات اللازمة حول الجهة التي تلقت في إيران أكثر من عشرة اتصالات من الهاتف الخليوي لأحد منفّذي جريمة الاغتيال”. ويختم الكاتب التحقيق بإثارة مسألة انفتاح الرئيس الإيراني الجديد حسن روحاني على الغرب في محاولة لرفع العقوبات الاقتصادية عن بلاده، غير أن عليه بداية “خوض حرب ضد سليماني ورفاقه” المتشدّدين الذين قالوا إنهم سيدافعون عن نظام الأسد “حتى النهاية”.
ترجمة: صلاح تقي الدين

أذكى الصراع السنّي ـ الشيعي لحماية الامبراطورية الإيرانية في سوريا ولبنان
أقنع عملاءه في حكومة المالكي باستخدام أجواء العراق لنقل الرجال والعتاد إلى سوريا

يروي أحد كبار المسؤولين الاستخباريين في بغداد كيف أنه زار طالباني في منزله خلال رحلة إلى شمال العراق. وعندما دخل عليه، كان قاسم سليماني موجوداً في المنزل مرتدياً قميصاً وجاكيت سوداوين. وتفحص الرجلان بعضهما. وقال “كان يعرف من أنا وكنت أعرف من هو. تصافحنا من دون أن نقول شيئاً. لم أشاهد بحياتي طالباني مرتبكاً إلى هذا الحد. كان مرعوباً”.
وفي السنوات التي تلت الغزو، ركّز الجنرال ماكريستال على إلحاق الهزيمة بالمتمردين السنة، ومثل باقي قادة الجيش الأميركي في العراق، تجنّب بشكل كبير ملاحقة عناصر “فيلق القدس”. استفزاز إيران سيفاقم النزاع، وفي أي حال، كان معظم عملائها يعملون تحت حماية ديبلوماسية. لكن مع استمرار الحرب، سيطرت الميليشيات المدعومة من إيران على الساحة بشكل أكبر. وفي أواخر العام 2006، قال ماكريستال إنه شكّل قوة ضاربة مهمتها قتل واعتقال المتمردين المدعومين من إيران، وعناصر “فيلق القدس”.
وفي كانون الأول من ذلك العام، شن مغاوير الجيش الأميركي هجوماً على مجمّع عبد العزيز الحكيم، السياسي الشيعي النافذ، ووجدوا فيه الجنرال محسن شيرازي، قائد عمليات “فيلق القدس”. واستناداً لكتاب “نهاية اللعبة” لمايكل غوردون وبرنارد تراينور، اعتقل المغاوير شيرازي ما أثار موجة من الذهول في بغداد. وقال مسؤول عسكري أميركي رفيع سابق “كان الجميع مذهولين. الإيرانيون صعقوا. لقد كسرنا القاعدة غير المكتوبة”. وطلب نوري المالكي رئيس الوزراء العراقي من الأميركيين تسليم شيرازي. وعندما فعلوا ذلك ـ متردّدين ـ أطلق المالكي سراحه. وبعد هذه الحادثة، أبلغ السفير الأميركي في بغداد المالكي بأنهم في المرة المقبلة حين يعتقلون ناشطاً إيرانياً، سوف يحتفظون به.
وبعد شهر تقريباً، تلقى الجنرال ماكريستال معلومات تفيد عن احتمال وجود الجنرال محمد علي جعفري، قائد الحرس الثوري، في موكب يعبر الحدود العراقية. واستناداً لمصادر استخبارية أخرى، كان سليماني في عداد الموكب. وانتظرت مجموعة من المقاتلين الأكراد للترحيب بهما عند عبورهما الحدود. وقرّر ماكريستال السماح للإيرانيين بعبور الحدود وقال “لم نرغب الدخول في معركة حربية مع الأكراد”.
وظل رجال ماكريستال يرصدون الموكب وقد توغّل أكثر من 150 كيلومتراً داخل العراق إلى مدينةأربيل الكردية حيث توقف أمام مبنى غير موصوف عليه لافتة صغيرة كتب عليها “قنصلية”. لم يكن أحد يعرف أن هذه القنصلية موجودة، لكن الواقع يعني أن الرجال الموجودين داخلها كانوا يعملون تحت ستار ديبلوماسي. ومع ذلك، تحرّك الأميركيون، واعتقلوا خمسة إيرانيين. جميعهم كانوا يحملون جوازات سفر ديبلوماسية، وجميعهم، استناداً لماكريستال، كانوا عناصر من “فيلق القدس”.لم يكن جعفري أو سليماني في المبنى، لقد انفصلا على ما يبدو عن الموكب في الدقيقة الأخيرة ولجآ إلى منزل آمن يخضع لحماية مسعود برزاني. وقال داغان، الرئيس السابق للموساد “كان سليماني محظوظاً. من المهم جداً أن تكون محظوظاً”.
وبعد تسعة أيام، وصلت خمس سيارات رباعية الدفع إلى حواجز على مدخل مجمّع محافظة كربلاء في جنوب العراق. كان الرجال داخل السيارات يتحدثون الإنكليزية ويرتدون ملابس عسكرية أميركية النمط ومزوّدين ببطاقات تعريف سمحت لهم عبور الحواجز. وفي داخل المجمّع نزل ركاب السيارات وسارعوا بالدخول إلى مبنى يعمل فيه جنود أميركيون. قتلوا أحدهم واعتقلوا أربعة آخرين متجاهلين الباقين. وخلال ساعات قليلة، قتل المعتقلون الأربعة برصاصات من مسافة قريبة.
نفَّذ الهجوم رجال “عصائب أهل الحق”، إحدى الميليشيات المدعومة من إيران. وحسب تكهّنات المسؤولين الأميركيين، فإن سليماني هو من أمر بتنفيذ الهجوم، رداً على اعتقال عناصر “فيلق القدس” في أربيل. وبعد شهرين، كانت القوات الأميركية قد قتلت القائد المزعوم للهجوم واعتقلت عدداً آخر من المشاركين فيه. أحدهم كان يدعى علي موسى دقدوق، أحد قادة “حزب الله” الذي تلقى تدريباته في إيران. في البداية، زعم دقدوق أنه غير قادر على التحدث بالإنكليزية، وأطلق عليه الأميركيون لقب “حميد الأخرس””. لكن بعد فترة، قالوا إنه بدأ يتحدث، وأبلغهم أن العملية تم تنفيذها بأوامر من مسؤولين إيرانيين. وللمرة الأولى، أشار القادة الأميركيون إلى سليماني علناً. وفي مؤتمر صحافي عقده الجنرال كيفن بيرغنر، قال “علم فيلق القدس ودعم التخطيط للهجوم في كربلاء الذي أوقع خمسة قتلى من جنود التحالف”.
وفيما عنفت الحرب السرية مع إيران، درس المسؤولون الأميركيون احتمال عبور الحدود إلى إيران للهجوم على مخيمات تدريب ومصانع القنابل. وقال ضابط أميركي رفيع خدم في العراق “بعضنا أراد الاقتصاص منهم بشدة”. واستمرت هذه النقاشات حتى العام 2011، إلى حين مغادرة آخر جندي أميركي العراق. وفي كل مرة، كان الأميركيون يقررون عدم عبور الحدود، على اعتبار أنه سيكون سهلاً على الإيرانيين تصعيد العمليات القتالية ضدهم.
وفي الوقت نفسه تقريباً، أجرى سليماني عدة مراسلات مع كبار المسؤولين الأميركيين، باعثاً إليهم برسائل من خلال وسطاء ـ يسعى خلالها أحياناً إلى تطمين الأميركيين، وفي بعض المرات لاستخراج معلومات. والمرة الأولى كانت في مطلع العام 2008، عندما سلّم الرئيس العراقي جلال طالباني إلى قائد القوات الأميركية في العراق الجنرال دايفيد بترايوس الذي تسلّم مهماته منذ عام تقريباًً، هاتفاً خليوياً مع رسالة نصية إلى قائد القوات الأميركية في العراق. وجاء في الرسالة “عزيزي الجنرال بترايوس، يجب أن تعلم إني أنا، قاسم سليماني، يدير سياسة إيران في العراق، لبنان ،قطاع غزة وأفغانستان, وبالفعل، فإن السفير الإيراني في بغداد هو عنصر من فيلق القدس، والرجل الذي سيحل مكانه هو من الفيلق ايضاً”. وبعد مقتل خمسة أميركيين في كربلاء، بعث سليماني برسالة إلى السفير الأميركي قال فيها “أقسم بقبر الخميني، إني لم أعط الأمر بإطلاق رصاصة ضد الولايات المتحدة”. غير أن أحداً من الأميركيين لم يصدّقه.
وفي تقرير إلى البيت الأبيض، كتب بترايوس أن “سليماني شيطان بالفعل”. غير أنه في بعض الأحيان، كان الرجلان يتفاوضان. واستناداً الى البرقيات الديبلوماسية التي نشرها موقع “ويكيليكس”، فإن بترايوس بعث إلى سليماني برسائل عبر مسؤولين عراقيين، طالباً منه الأمر بوقف الاعتداءات الصاروخية على السفارة الأميركية والقواعد العسكرية الأميركية في العراق. وفي العام 2008، كانت القوات الأميركية والجيش العراقي يشنون هجوماً ضد “جيش المهدي” ـ الميليشيا الشيعية لمقتدى الصدر ـ وكعقاب، كانت الميليشيا تقصف المنطقة الخضراء بصورة مستمرة. وأرسل سليماني الذي، شعر بوجود فرصة سياسية، برسالة إلى بترايوس يدين فيها الوضع ويخبره أنه فرز رجالاً ليقوموا بمهمة القبض على المعتدين. وأجاب بترايوس “لقد ولدت يوم أحد، لكن ذلك لم يكن الأحد الماضي”. ولاحقاً، توصل سليماني إلى وقف لإطلاق النار بين الصدر والحكومة العراقية.
وفي بعض الأحيان، بدا أن سليماني سعيد بالاستهزاء من نظرائه الأميركيين والترويج لإنجازاته. في صيف العام 2006، وخلال حرب الأيام الـ33 يوماً بين إسرائيل و”حزب الله” في لبنان، بدا أن عمليات العنف في بغداد قد انحسرت. وقال السياسي العراقي إنه بعد انتهاء الحرب، يُزعم أن سليماني بعث برسالة إلى القيادة الأميركية يقول فيها “أرجو أن تكونوا قد استمتعتم بالسلام والهدوء في بغداد. لقد كنت منشغلا في بيروت”.
وفي خطاب في العام 1990، قال الخميني إن مهمة “فيلق القدس” هي “إنشاء خلايا شعبية لحزب الله في جميع أنحاء العالم”. وعلى الرغم من أن هذا الهدف لم يتحقق، إلا أن “حزب الله” أصبح أكثر قوة نافذة في لبنان ـ قوة عسكرية وحزب سياسي يتفوق على الدولة. ويعتقد بعض الخبراء في المنطقة أن “حزب الله” نما لدرجة أصبح فيها أقل اعتماداً على إيران. غير أنه خلال عشاء في بيروت في العام الماضي، اشتكى وليد جنبلاط، أحد السياسيين اللبنانيين، بأن قادة “حزب الله” لا يزالون عبيدا لطهران. وقال جنبلاط “عليك أن تجلس وتتحدث معهم، لكن ماذا تقول؟ ليس هم من يقرر. إنه خامنئي وقاسم سليماني من يقرران”.
وكان حسن نصرالله، زعيم “حزب الله” قد اعتنق مبدأ “ولاية الفقيه” التي تعترف بالسلطة المطلقة للقائد الأعلى للثورة الإسلامية في إيران، كما اعترف بوجود عملاء لـ “فيلق القدس” في لبنان. وبين العامين 2000 و2006، ساهمت إيران بما يعادل 100 مليون دولار سنوياً إلى “حزب الله”. ومقاتلو الحزب أفضل وكلاء لإيران، فخلافاً لهم يتحدثون العربية ما يجعلهم أفضل للعمل في سوريا وغيرها من دول العالم العربي. وخلال عملهم مع الإيرانيين، إما نفّذوا عمليات أو خططوا لتنفيذها في قبرص، أذربيجان وتركيا.
ولا يعمل عناصر “حزب الله” و”فيلق القدس” سوية. فبعدما هاجم أحد عناصر الحزب باصاً للرحلات السياحية مليئاً بالسياح الإسرائيليين في بلغاريا في تموز الماضي، علمت السلطات الأميركية أن سليماني سأل مرؤوسيه “هل كان أحدكم يعلم بهذه العملية؟”. لم يكن أحد على علم. وقال مسؤول دفاعي أميركي “تصرّف حزب الله بمفرده في هذه العملية”. لكن مع ذلك، يبدو أن “فيلق القدس” تورط في عدد من أهم اللحظات بتاريخ لبنان الحديث. في العام 2006، أمر نصرالله مجموعة من مقاتليه بخطف جنود إسرائيليين ـ العملية التي قال مسؤول أمني شرق أوسطي أنه تم تنفيذها من دون مساعدة سليماني. نتج عن ذلك حرب قصيرة لكن شرسة، قامت خلالها القوات الإسرائيلية بتدمير معظم لبنان. وقال المسؤول “لا أعتقد أن سليماني توقع ردة الفعل هذه”.
وعادت قصة النفوذ الإيراني في لبنان للظهور في العام 2011 عندما وجهت المحكمة الخاصة بلبنان إلى أربعة من كبار المسؤولين في “حزب الله” تهمة اغتيال رئيس وزراء لبنان السابق رفيق الحريري في العام 2005. والحريري، المنتمي إلى الطائفة السنية، كان يحاول سحب لبنان إلى خارج الفلك الإيراني ـ السوري. وفي يوم “عيد العشاق” قتل بهجوم انتحاري بواسطة شاحنة ملغومة تزن أكثر من 2500 كيلوغرام من المواد المتفجرة.
وتمكّن المحققون من تحديد هوية عناصر “حزب الله” المزعومين من خلال تقنية “تحليل المكان” حيث قارنوا الاتصالات التي أجريت بواسطة هواتف خليوية مع هواتف أخرى مملوكة من المتهمين. وامتنع المحققون عن اتهام مسؤولين سوريين، لكنهم قالوا، إن لديهم أدلة مقنعة تشير إلى تورّط حكومة الأسد في اغتيال الحريري. وقال محقق كبير في المحكمة الخاصة بلبنان إن هناك أسباباً ايضاً تدعو للاشتباه بالإيرانيين. وقال “نظريتنا هي أن حزب الله ضغط على الزناد، لكنه لم يكن ليفعل لولا مباركة من إيران والدعم اللوجستي منها ومن سوريا”. وأجريت من أحد أجهزة الهاتف المزعومة ما لا يقل عن عشرة اتصالات إلى إيران قبل الاغتيال وبعده. غير أن المحققين قالوا إنهم لا يعرفون الجهة التي تم الاتصال بها في إيران، وأنهم لم يتمكنوا من إقناع أجهزة الاستخبارات الغربية بمساعدتهم. وقال المسؤول الاستخباري الرفيع إنه تم رصد حديث بين عملاء إيران قبل دقائق من الاغتيال “لقد كان الإيرانيون يوجهون العملية عبر الهاتف”. وقال روبرت باير، مسؤول سابق رفيع في السي آي أيه “إذا كانت إيران متورطة بالفعل، فسليماني كان من دون شك في قلب هذا التورط”.
وفي هذه الأثناء، اختفى المتهمون من “حزب الله”. ورصد الثوار السوريون أحد المشتبه بهم، مصطفى بدر الدين ـ صهر عماد مغنية وصانع قنابل مخضرم في “حزب الله” ـ في سوريا، ويقولون إنه يقاتل إلى جانب نظام الأسد.
وفي 22 كانون الأول 2010، أصدر جيمس جيفري، السفير الأميركي في العراق، والجنرال لويد أوستن، قائد القوات الأميركية هناك، بيان تهنئة إلى الشعب العراقي بمناسبة تشكيل حكومة جديدة برئاسة نوري المالكي. كان قد مضى على البلاد تسعة أشهر من دون حكومة، بعد أن انتهت الانتخابات التشريعية من دون فوز حاسم لأي من الفرقاء. وتشكيل الحكومة كان حاسماً: أثناء الانتخابات كان لا يزال هناك ما يقارب 100 ألف جندي أميركي في البلاد، فيما كان القادة العسكريون الأميركيون لا يزالون يأملون بإبقاء قوة بسيطة بعد مغادرتهم. وقال المسؤولان الأميركيان “نتطلع إلى العمل مع الحكومة الائتلافية الجديدة في تعزيز رؤيتنا المشتركة لعراق ديموقراطي”.
وما لم يقله جيفري وأوستن هو أن الاتفاق الذي عقد لتشكيل الحكومة لم يكن من صنعهما بل من صنع سليماني. خلال الأشهر السابقة، واستناداً للعديد من المسؤولين العراقيين والغربيين، دعا سليماني قادة شيعة وأكراداً للقائه في طهران وقم، وانتزع منهم وعداً بدعم المالكي، مرشحه المفضل. وكان العرض يحمل جملة من العقد التحريضية. المالكي والأسد يكرهان بعضهما؛ لقد جمعهما سليماني من خلال الموافقة على بناء خط نقل للنفط من العراق إلى الحدود السورية. ومن أجل اجتذاب مقتدى الصدر إلى الاتفاق، وافق سليماني على توظيف رجال الصدر في وزارات الخدمات العراقية.
واستناداً للمسؤولين العراقيين والغربيين، فإن اللافت كان الشرطان اللذان فرضهما سليماني على العراقيين. الأول هو أن يصبح جلال طالباني، الصديق القديم للنظام الإيراني، رئيساً للعراق. والثاني، هو أن يصر المالكي وشركائه في الائتلاف الحكومي على انسحاب كامل القوات الأميركية من العراق. وقال الزعيم العراقي السابق “قال سليماني: لا للأميركيين. لقد ذهبت هباء علاقة عمرها عشر سنوات”.
وقال المسؤولون العراقيون إن في وقت إعلان جيفري، علم الأميركيون أن سليماني كان قد طردهم من البلاد لكنهم كانوا محرجين جداً للاعتراف بذلك علناً. وقال المسؤول العراقي الرفيع السابق “كنا نضحك على الأميركيين. تباً. تباً. لقد تفوّق عليهم سليماني بالكامل، وكانوا يهنئون بعضهم علناً لتمكنهم من تشكيل الحكومة”.
وكان الاتفاق ضربة قوية بوجه أياد علاوي، السياسي العراقي العلماني المؤيد للأميركيين، والذي تمكن حزبه من الفوز بأكبر عدد من المقاعد البرلمانية في الانتخابات التشريعية الأخيرة، لكنه فشل في تشكيل ائتلاف حكومي. وفي مقابلة في الأردن، قال علاوي إنه كان بإمكانه بمساعدة الأميركيين تشكيل حكومة ائتلافية، لكن عوضاً عن ذلك، تخلى عنه الأميركيون لصالح المالكي. وقال إن نائب الرئيس الأميركي جو بايدن اتصل به ليبلغه ضرورة أن يتخلّى عن ترشحه لرئاسة الحكومة قائلاً “لن تستطيع تشكيل حكومة”.
وقال علاوي إنه يشتبه أن الأميركيين لم يكونوا راغبين في مواجهة المشاكل التي كان سيثيرها الإيرانيون لو أنه شكّل حكومة، مشيراً إلى أنهم كانوا يريدون البقاء في العراق، لكن فقط في حال كانت المهمة التي سينفذّونها هي في الحد الأدنى من التدخل. وقال “كنت أحتاج للدعم الأميركي. لكنهم كانوا يريدون المغادرة، وسلّموا البلد للإيرانيين. أصبح العراق دولة فاشلة اليوم، مستعمرة إيرانية”.
واستناداً لمسؤولين عراقيين وأميركيين سابقين، فإن سليماني يمارس نفوذه على السياسة العراقية من خلال دفع رشاوى للمسؤولين، دعم الصحف ومحطات التلفزة، وفي حال الضرورة من خلال الترهيب. وقليلة هي الجهات المحصّنة ضد نفوذه. وقال المسؤول العراقي الرفيع السابق “أرغب في أن أتعرف إلى حزب سياسي شيعي واحد لا يأخذ مالاً من سليماني. إنه أقوى رجل في العراق من دون أدنى شك”.
وحتى المالكي يبدو أسيراً لدى الإيرانيين. فبعد أن نفاه صدام، عاش المالكي لفترة قصيرة في إيران، لكنه انتقل إلى سوريا واستناداً لمسؤولين عراقيين يعرفونه، للهروب من النفوذ الإيراني. وقال كروكر إن المالكي أبلغه مرة “لا يمكنك أن تعرف ما هي الغطرسة إلا إذا كنت عربياً عراقياً أجبرت على اللجوء إلى الإيرانيين”. والسياسي العراقي الذي هو قريب من المالكي وسليماني قال إن المالكي يكره قائد “فيلق القدس” وأن الشعور متبادل. أضاف “المالكي يقول إن سليماني لا يستمع، فيما سليماني يقول إن المالكي يكذب ببساطة”.
ومع ذلك، ربما يرد المالكي ما عليه إلى سليماني الذي ساهمت جهوده في جعله رئيساً للحكومة. واستناداً للمسؤول الاستخباري السابق، فإن حكومة المالكي تشرف على مجموعة من البرامج تبلغ قيمتها مئات ملايين الدولارات سنوياً لمساعدة النظام الإيراني على تفادي العقوبات الاقتصادية الأميركية. وقال رجل أعمال عراقي مشهور إن عملاء إيران يستخدمون عادة المصارف العراقية من أجل القيام بعمليات مالية احتيالية، تسمح لهم ببيع النقد العراقي بأرباح خيالية. وقال “إذا رفضت المصارف، يصار إلى إغلاقها من قبل الحكومة”.
والمصدر الآخر الرئيسي للواردات بالنسبة للإيرانيين هو النفط. ويقول مسؤولون عراقيون “تضع حكومة المالكي جانباً ما يعادل 200 ألف برميل من النفط يومياً ـ قيمتها حوالى 20 مليون دولار حسب سعر السوق الحالي ـ وترسل الأموال إلى سليماني. بهذه الطريقة، حصّن “فيلق القدس” نفسه ضد ضغوط العقوبات الاقتصادية الغربية. وقال المسؤول الاستخباري السابق “إنه برنامج تمويل سري ذاتي. لا يحتاج سليماني حتى إلى الميزانية الإيرانية لتمويل عملياته”.
وفي كانون الأول الماضي، وعندما بدا نظام الرئيس الأسد قريباً من الانهيار، رصد مسؤولون أميركيون تقنيين سوريين وهم يستعدون لتحميل قنابل تحمل غاز الأعصاب المعروف باسم “السارين” على متن طائرات حربية. وبدا من جميع المؤشرات أنه كان يتم التحضير لهجوم كيميائي. وأصيب الأميركيون بالرعب واتصلوا بالقادة الروس الذين اتصلوا بنظرائهم في طهران. واستناداً لمسؤول الدفاع الأميركي، فإن دور سليماني بدا محورياً في إقناع الأسد بعدم استخدام هذه الأسلحة.
وشعور سليماني الأخلاقي حول الأسلحة الكيميائية غير معروف. وخلال الحرب الإيرانية ـ العراقية، عانى آلاف الجنود الإيرانيين من آثار الهجمات الكيميائية، ولا يزال الناجون يتحدثون علناً عن هذه المأساة. غير أن بعض المسؤولين الأميركيين يعتقدون أن جهوده لمنع الأسد من استخدام هذه الأسلحة كانت انطلاقاً من إلهام أكثر واقعية: الخوف من استثارة التدخل العسكري الأميركي. وقال المسؤول العسكري الأميركي السابق “قال الإيرانيون والروس للأسد لا نستطيع دعمك في محكمة الرأي العام العالمي إذا استخدمت هذه الأسلحة”.
ويعتقد أن النظام السوري استخدم مثل هذه الأسلحة 14 مرة خلال العام الأخير. لكن حتى بعد الهجوم المروع بواسطة غاز “السارين” في 21 آب الماضي الذي أدى إلى مقتل 1400 شخص، فإن دعم سليماني للأسد لم يتراجع. ولإنقاذ الأسد، وضع كل الموارد التي طوّرها منذ توليه قيادة “فيلق القدس”: مقاتلي “حزب الله”، ميليشيات شيعية من جميع أنحاء العالم العربي، وكل الأموال والمواد التي تمكن من الحصول عليها من حكومة بلاده المحاصرة. وفي بغداد، قال شاب شيعي يدعى أبو حسن إنه تم تجنيده للقتال بواسطة مجموعة من العراقيين. واستقل باصاً إلى مدينة مشهد الإيرانية، حيث تلقّى إلى جانب مجموعة من 30 عراقياً آخرين تعليمات من مدربين إيرانيين. وسافر الرجال إلى مقام “السيدة زينب” بالقرب من دمشق حيث قاتلوا إلى جانب قوات الأسد لمدة ثلاثة أشهر، إلى جانب مقاتلين من “حزب الله” وقناصة من إيران. وقال أبو حسن “لقد فقدنا أشخاصاً كثيرين”.
وأعظم إنجازات سليماني قد يكون إقناعه عملاءه في الحكومة العراقية بالسماح لإيران باستخدام المجال الجوي العراقي لنقل الرجال والذخائر إلى دمشق. وقال الجنرال جيمس ماتيس الذي ظل حتى آذار الماضي قائداً للقوات الأميركية في الشرق الأوسط إنه من دون هذه المساعدة، كان نظام الأسد انهار قبل أشهر كثيرة. ويشرف على الرحلات الجوية العراقية وزير المواصلات العراقي هادي العمري، الحليف القديم لسليماني ـ والرئيس السابق لـ “فصائل بدر” ومقاتل سابق في الجانب الإيراني من الحرب الإيرانية ـ العراقية. وفي مقابلة في بغداد، نفى العمري، أن يكون الإيرانيون يستخدمون المجال الجوي العراقي لإرسال أسلحة. لكنه لم يخف إطلاقاً تعاطفه مع رئيسه السابق، سليماني. وقال “أحب قاسم سليماني. إنه صديقي العزيز”.
ولغاية الآن، تمكن المالكي من مواجهة الضغوط لتزويد الأسد بما يحتاج إليه عن طريق البر عبر العراق. لكنه لم يوقف الرحلات الجوية؛ لقد تفوقّت مخاوفه من وصول نظام سني متطرّف في سوريا على تحفظاته من الانخراط في حرب أهلية. وقال كروكر “المالكي لا يحب الإيرانيين، ويكره الأسد، لكنه يكره النصرة أكثر. لا يريد أن تكون الحكومة في دمشق تابعة لتنظيم القاعدة”.
وهذا النوع من المناخ المذهبي قد يكون التأثير الأكثر وضوحاً لسليماني في الشرق الأوسط. ولحماية إمبراطوريته الإيرانية في سوريا ولبنان، ساعد على تأجيج الصراع السني ـ الشيعي الذي يهدد باجتياح المنطقة بكاملها لسنوات طويلة ـ حرب يبدو أنه سعيد بإثارتها. وقال ماتيس “لديه كل الأسباب للاعتقاد بأن إيران هي القوة التي يسطع نجمها في المنطقة. لم نوجّه له يوماً ضربة موجعة”.
وفي حزيران، انتخب رئيس معتدل في إيران، حسن روحاني، الذي وعد بإنهاء العقوبات التي أرهقت بلاده ودمّرت الطبقة الوسطى فيها. ولاحت في جميع أنحاء العالم الغربي آمال بأن يسمح خامنئي لروحاني بالوصول إلى صفقة. وعلى الرغم من أن روحاني معتدل ـ وفقاً للمعايير الإيرانية فقط ـ فإنه رجل دين شيعي وملتزم منذ فترة طويلة بمبادئ الثورة الإسلامية ـ قدّمت إدارته سلسلة من إشارات حسن النية، بما فيها إطلاق سراح 11 سجيناً سياسياً وتبادل رسائل مع الرئيس باراك أوباما. ويحل روحاني ضيفاً على نيويورك في الأسبوع الحالي ليلقي كلمة أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة، ولاحتمال عقد لقاء مع أوباما. وستتركز المحادثات بالتأكيد على إمكانية كبح جماح إيران عن برنامجها النووي، مقابل تخفيف العقوبات.
ويأمل العديدون في الغرب أن تساعد إيران أيضاً على وضع نهاية للحرب الطاحنة في سوريا. وعرض نائب الأسد مؤخراً احتمال وقف إطلاق نار قائلاً “ليس من داع ليكون لدى أحد مخاوف من أن النظام على شكله الحالي سيستمر”. لكنه لم يقل ما إذا كان الأسد سيتنحّى، وهو ما قال الثوار إنه شرط رئيسي للمفاوضات. لقد صدرت تلميحات من الإيرانيين الأقوياء بأن الأسد لا يستحق التمسّك به. في خطاب حديث، قال الرئيس الإيراني السابق هاشمي رفسنجاني “لقد تعرّض الشعب لهجمات كيميائية من قبل حكومتهم”. (وعقب تسريب الخبر الذي أثار هيجاناً في الشراع الإيراني، تراجع رفسنجاني عنه). غير أن نظاماً غير متعاطف مع إيران في سوريا، سيقسم “محور المقاومة” ويعقّد جذرياً شراكة إيران مع “حزب الله”. وفي جميع الأحوال، فإن النظام الإيراني منقسم لدرجة أنه من الصعب التوصل إلى إجماع حول هذه المسألة. وقال كيفان هاريس، عالم الاجتماع في جامعة برينستون والذي أجرى دراسة مكثّفة حول إيران “في أي مرة تصدر فيها بيانات عن الحكومة الإيرانية، تذكروا فقط أنه يوجد عش فئران يعمل من تحت الطاولة”. وفيما يحاول روحاني جذب الغرب، عليه أن يكافح ضد المتشدّدين، بمن فيهم سليماني ورفاقه، الذين حدّدوا لأكثر من عقد من الزمن سياستهم الخارجية بناء على حرب سرية ضد أميركا وإسرائيل. وقال هاريس “لا يثقون بالجانب الآخر. يشعرون أن أي تنازل يقدمونه، سيعتبره الغرب على أنه إشارة ضعف”.
وبالنسبة لسليماني، التخلّي عن الأسد يعني التخلّي عن مشروع التوسّع الذي شغله طيلة 15 عاماً. وفي خطاب أمام مجلس الخبراء ـ رجال الدين الذين يختارون القائد الأعلى ـ تحدّث عن سوريا بلهجة حادة ومصمّمة. قال سليماني “دعونا لا نبالي بالحملة الدعائية التي يشنّها العدو، لأن سوريا هي الخط الأمامي للمقاومة، وهذه الحقيقة لا يمكن نكرانها. علينا واجب الدفاع عن المسلمين، لأنهم تحت الضغط والاضطهاد”. كان سليماني يخوض الحرب نفسها ضد الأعداء أنفسهم الذين كان يقاتلهم طيلة حياته؛ وبالنسبة له، فالتسويات التي يقوم بها رجال الدولة، لا يمكن مقارنتها مع جنة أرض المعركة. اضاف “سوف ندعم سوريا حتى النهاية”.

 
This entry was posted in دراسات سياسية وإقتصادية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.