“فرانكوفونيه” .. فيلم حول انقاذ الثقافة من الهمجية الظلامية

عبدالله حبه – موسكو
تناول المخرج الروسي الكسندر سوكوروف في فيلمه الاخير” فرانكوفونيه ” الحائز على جائزة النقاد في مهرجان البندقية موضوع كيف تم انقاذ نفائس اللوفر في ايام الاحتلال النازي لفرنسا. لقد انهارت فرنسا امام زحف القوات الالمانية في عام 1941، وقسمت الى دولتين الشمالية المحتلة والجنوبية المتحررة. وأصدرت القيادة الالمانية أمرا بنقل محتويات اللوفر الى المانيا، وكلفت بهذه المهمة الجنرال الالماني الكونت وولف – مترنيخ. لكن الجنرال الألماني عندما يقابل جاك جوجار مدير اللوفر الفرنسي يغيّر رأيه ولم يسارع الى شحن التحف الفنية الى المانيا. علماً بأنه فُقدت ودُمرت نفائس فنية كثيرة لدى محاولة نقلها من فرنسا. ولا يوجد موضوع محدد في الفيلم ولو ان الموضوع شكليا هو تاريخ اللوفر في زمن الاحتلال الالماني لفرنسا.

مشهد من فيلم ” الفرانكوفونية”
ان سوكوروف الذي يعتبر من ابرز المخرجين السينمائيين المجددين في روسيا بعد رحيل اندريه تاركوفسكي، قد اخرج في الاعوام الاخيرة افلاما تطرح قضايا فلسفية فكرية عديدة منها حول مصير حضارة روسيا في فترة الهزات والانقلابات السياسية كما عبر عنه في فيلم ” سفينة نوح روسيا “، وافلام “مولوخ” و “الشمس ” و” فاوست” حول معاناة الحكام المتسلطين من الوحدة حين يصبحون بعيداً عن شعوبهم. لقد أخرج سوكوروف فيلمه الاخير “فرانكوفونيه” في فرنسا بمشاركة فريق من 43 بلدا. وهذا الفيلم ينتمي الى الافلام الوثائقية – الروائية، حيث يعمد المخرج الى اشراك ممثلين في بعض المشاهد واظهار اللقطات الوثائقية في آن واحد. ويعكس الفيلم تأملات المخرج حول الحرب والقيم الثقافية للشعوب، فهو يدين الاعتداء على المتاحف والآثار الحضارية في اثناء الحروب وتعرضها الى النهب والدمار في كل مكان. لذا فهو يدين بذلك ايضا نهب متحف بغداد وتدمير نمرود والآثار الاشورية وآثار تدمر في ايامنا هذه. ويؤكد على ان المتاحف تصبح في اوقات الحروب بلا حماية من أحد. وبرأيه ان الحل الوحيد هو تربية الانسان منذ الطفولة على حب الجمال الفني ووجوب صيانته في كافة الاحوال.

daiishdestroyninawa

تدمير متحف الموصل من قبل “داعش”

ويقول سوكوروف ان التاريخ لا يعلمنا شيئاً، فرجال السينما الاوروبيون يكرهون الثقافة ويرتبطون جدا بتقلبات الاوضاع السياسية. ولا يفكر أحد في انقاذ ثقافتنا. وما حدث في نمرود وتدمر لم يتجاسر عليه حتى النازيون. وبهذا فان سوكوروف حين يطرح في فيلمه موضوع اللوفر والنازية في الاربعينيات من القرن الماضي، انما يذكرنا بهمجية افعال الظلاميين في القرن 21. ويجب ان يعرف العالم أجمع من قصة “اعدام ” النفائس الفنية في العهد النازي ولاسيما في روسيا ما يحدث في ايامنا ايضا في بلدان الشرق الاوسط. ان ما حدث في عام 1939 حين عمد جوجار مدير اللوفر قبيل الاحتلال الى نقل أكثر من 3500 من لوائح وتماثيل المتحف وإخفائها في قصور الاقاليم، لم يجد لاحقا معارضة في ذلك من قبل الجنرال الالماني المتنور وولف – ميترنيخ ، الذي تعاطف عندئذ مع التراث الثقافي للشعب الفرنسي، ولم يعجل في نقل النفائس الى بلاده.

تدمير تمثال أبو جعفر المنصور من قبل الميليشيات المتعصبة في بغداد
ان سوكوروف مثل غيره من كبار الفنانين يتألم لمصائر الانسانية المعذبة اينما كانت مع تغير تحديات الزمن. وبرأيه انه يجب على رجال الفن والادب وغيرهم ان يطرحوا في اعمالهم افكارهم واحاسيسهم بشأن ما يجري من احداث ، ولو انهم لا يستطيعون تغيير مسارها.
ونجده في الفيلم يعلق بنفسه على الاحداث لدى اظهار مقاطع الارشيف والصور والمعارض والمشاهد التمثيلية، ويطرح تأملاته وتنبؤاته ويتحدث مع ابطال الفيلم مثل نابليون والجنرال الالماني. وتتراءى أمامه صور اشباح مثل المرأة من عصر الثورة الفرنسية الكبرى التي تردد بإستمرار ” حرية ومساواة وأخوة ” وتقف مع نابليون أمام لوحة ” مونا ليزا ” . والاخير يكرر ان جميع النفائس الفنية، انما جمعها هو بنفسه في حروبه وجلبها من ايطاليا وهولندا ومصر وغيرها. ويؤكد قائلا :” هذا أنا ” مشيرا الى اللوحات التي رسمها الفنانون في زمانه. وهكذا تزول الحدود بين الفيلم الوثائقي والفيلم الروائي.

Palmyra,_Syria

تدمير آثار تدمر في سوريا من قبل داعش

والطريف ان المخرج يلجأ الى تولستوي وتشيخوف النائمين، ويحاول ايقاظهما لكي يقولا كلمتهما فيما يجري من احداث. كما يخاطف الاشخاص في الصور الفوتوغرافية لزمن الحرب . وفجأة ينتقل الى لينيغراد في زمن الحصار ومتحف الارميتاج الذي افرغ في زمن الحرب من محتوياته، وتحولت قاعاته الى ورش لصنع التوابيت وعنابر لعلاج الجرحى. وتبدو معلقة فقط أطر اللوحات الموجودة هناك سابقا. وأمام هذه الخلفية تبدو صورة ستالين مبتسما. ويطرح المخرج تأملاته حول الفن او يتحدث عن معماريه المحبوب الذي شيد اللوفر وعن تاريخ القصر، ويؤكد ان متحف اللوفر هو آخر صرعة للحضارة الاوروبية.
ان الاحداث في فيلم ” فرانكوفونيه ” تجري في الماضي ، لكن المأساة تدور في ايامنا هذه. ويخاطب المخرج صديقه في البحر العاصف والذي ينقل النفائس الفنية

تدمير نصب بوذا في أفغانستان من قبل “الطالبان”
قائلا ان حياة الانسان اثمن من هذه النفائس فأرمها في البحر. ويظهر ذلك كله على الشاشة التي تتحول الى الاحمر والازرق والاخضر ثم الاسود بمرافقة موسيقى شوبان.
26/3/2016

About عبدالله حبه

ولد عبدالله محمد حسن حبه في بغداد وفي محلة صبابيغ الآل عام 1936. انهى الدراسة الابتدائية في المدرسة الجعفرية والمتوسطة في مدرسة الرصافة المتوسطة في السنك والثانوية في الاعدادية المركزية. وانهى الدراسة الجامعية في كلية الآداب فرع اللغة الانجليزية. أنهى معهد الفنون الجميلة فرع التمثيل. وحصل على بعثة لدراسة الدكتوراه في الاتحاد السوفييتي ونال الشهادة من معهد غيتيس للتمثيل في منتصف الستينيات. في بداية مشواره الفني مارس الرسم لعدة سنوات، إلى جانب كتابته للقصة. وأصدر مع صديقه القاص منير عبد الأمير مجموعة قصصية تحت عنوان "الحصان الأخضر" في بداية الخمسينيات من القرن الماضي. عمل في الصحافة الفنية وتحديداً في مجلة السينما التي كان يصدرها الفنان كاميران حسني في الخمسينيات من القرن الماضي. ثم انتقل للعمل في المجال المسرحي، وفي البداية مع الفنان جعفر السعدي ثم الفنان جاسم العبودي ثم انتسب الى فرقة المسرح الحديث قبل سفره الى الاتحاد السوفييتي عام 1960. شارك في التمثيل في الجامعة وفي اخراج عدد من المسرحيات في كليان بغداد، كما شارك في التمثيل في عدد من المسرحيات وفي تصميم الديكورات والمكياج للفرق التي عمل معها في تلك الفترة. ومنذ منتصف الستينيات توجه للترجمة من اللغة الروسية في موسكو،وترجم للعديد من فطاحل الأدب الروسي الكلاسيكيين والمعاصرين. عمل في وكالة تاس في موسكو وفي عدد من الصحف الصادرة ياللغة العربية في موسكو وفي عدد من البلدان العربية، ثم عمل لفترة في تلفزيو روسيا باللغة العربية، وعاد الآن للعمل في وكالة تاس.
This entry was posted in الأدب والفن. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.