عمامة القرضاوي … السُّنة لا تقر ولاية الفقيه!

الإتحاد الاماراتية: رشيد الخيّون

أثار موقف القرضاوي الأخير تجاه إيران و«حزب الله» ردوداً متفاوتة، توزعت على أساس طائفي سياسي مثلما كان قرب القرضاوي وبعده منهما سياسياً لا دينياً. لقد ذم الواقفون مع إيران و«حزب الله» تراجع الشيخ بالقوة التي مدحوه بها وهو يُحشد التأييد للأسد ونصرالله. كان الدافع الظاهر هو العداء لإسرائيل ووحدة المسلمين. ليس في التأييد والتراجع من ضير، لأن السياسة مناخ متغير، لكن الضير أن القرضاوي يعتبر السياسة عبادة، فكيف لنا وصف الدِّين بالمناخ المتغير المرهون بمزاج العِمامة السِّياسية؟!

كان مَن يثور على النظام السوري، في عُرف القرضاوي، خارجاً على الدين، بينما الآن الثائر مجاهد يدخل الجنة! وعندما ظهر مع الأسد في لحظات وئام تام لم يكن حينها نسب بشار غير علوي وغير مرتبط بإيران! ظهر معه في أيام كانت أرتال المفجرين تصل بغداد عبر دمشق، وكان القرضاوي يحسب ذلك جهاداً. وقتها لو خرج السوريون ضد نظامهم لأفتى الشيخ بتحريم الخروج ولتعلل بأحاديث تحرم محاربة السلطان وهي عديدة (أبو يوسف، كتاب الخراج مثلاً)، وبالآية: «… وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ» (النِّساء: 59). بالمقابل عندما يبغض حكومةً تراه يستشهد بحاكمية المودودي الهندي (ت 1979) وما أخذ عنه سيد قطب المصري (أعدم 1966).

لسنا نلوم القرضاوي على الموقفين، لكن لو يعترف أنه يفعل السياسة لا الديانة، فكم من أحزاب خاصمت وعادت متوائمة مع أنظمة بلدانها، هكذا هي السياسة غيم وصحو. نُذكر باليساريين والقوميين ممن أُعجبوا بالخميني (ت 1989) وبعد خذلان توقعاتهم تراجعوا وهم كثر. ولأنهم مارسوا السياسة لا الديانة لا يمدحون ولا يُذمون، فشأن السياسة كالتجارة عرضة للربح والخسارة!

كان القرضاوي أحد المعجبين بالثورة الإيرانية لأنها إسلامية، وانطلاقاً من كونه أحد «الإخوان المسلمين»، أطل هو وإخوانه من شبابيكها لينظروا خيال أنظمة دينية ستشكل تباعاً بالمنطقة، بلا اعتبار لاختلاف المذهب، فالمذاهب نفسها تداولت على البلدان بفعل السياسة، حتى قيل، وما قرأته من زمن طويل: «سبحان من جعل إيران السنية شيعية ومصر الشيعية سُنية» (لم احتفظ بالمصدر)، أي الفاطميين بمصر (567 هـ)، والصفويين بإيران (907 هـ). لم تكن تلك التحولات بعيدة عن تبادل الأدوار بين منتصرين ومهزومين. ولا علاقة للدين بتوزيعها، إنما السياسي يوظف الديني وليس العكس.

نقشت إيران عبارة «الله أكبر» في علمها (المادة 18 من الدستور)، ورد العراق، بعد حين، ونقش العبارة نفسها على علمه. ولسياسة جعلت إيران التعبد بالمذهب مادة دستورية (المادة 12)، فمن قال: إن هذه المادة فرضها همس علماء الحوزة، غير السائرين بركاب الثَّورة، ضد الخميني، فأراد التأكيد فيها أن قيادته إسلامية شيعية، بعد أن أعلن عن دعم الحركات الإسلامية وفي مقدمتها «الإخوان المسلمون»، وربما لم تسمح ظروف القرضاوي آنذاك له بالتحرك والاستفادة من تصدير الثورة. فالخميني وهو في نشوة الانتصار أراد الخروج من دائرة المذهب إلى العالمية الإسلامية.

ما بين الديانة والسياسة قرباً وبعداً في الوقت نفسه، فإذا تعرض بلد ما إلى خطر لا بد أن علماء الدين فيه يقولون كلمتهم، من دون أن تحل الواحدة محل الأخرى أو أن يُجمعا تحت عمامة واحد، فالخطورة عندها تقع على الدين، لأن للسياسة فقهها الخاص لا تتعامل بمنطق الثوابت والحلال والحرام! أما الديانة فتمنع السلطة باسم الله، والآية كافية: «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» (يونس: 99). سيقول لنا مشايخ الإسلام السياسي إنها منسوخة بالآية الخامسة من سورة التَّوبة، فالفقيه صاحب «النَّاسخ والمنسوخ» يقول: «هذه الآية (التوبه: 5) النَّاسخة، أنَّها نَسخت من القرآن مائة آية وأربعاً وعشرين آية» (البغدادي، الناسخ والمنسوخ)! ومعلوم ما يعنيه النسخ معناً واصطلاحاً. تخيلوا أن يُعطل من الكتاب الكريم مائة وأربعاً وعشرين آية، كلهنَّ صالحات للتعايش والحرية بين البشر، وقد سبق أن ذكرنا بفداحة ما يذهب إليه التكفيريون من الجهاديين المسلحين أبناء الإسلام السياسي، الذي لم نرَ حتى الآن منه ميلا إلى المستقبل، بل على العكس الرقاب التفتت إلى الماضي البعيد.

إن الآيات التي يشهرها الإسلام السياسي والقوى التكفيرية، لدعم العنف ويهددون المجتمع بها، يريدونها أبدية الفعل بمعزل عن أسباب نزولها! ينسخون بها كل ما يتعلق بالتعايش الاجتماعي ورفع الإنسان إلى مستوى إنسانيته والتصرف بعقله، وكأن كتاب الله خاص بهم دون غيرهم. فالقرآن جعل تطبيقها بين يدي نبي هادي، لا بأيدي أي إنسان يعبر بها عن نفسيته أو عقيدته السياسية. أما ما يتعلق بالآيات المائة والأربع والعشرين المنسوخات بآية القتال، والداعمة للتعايش الاجتماعي والسلام والحرية، فليس هناك ضرر أن يطبقها أي إنسان، لكن ما نراه عكس ذلك، أخذت العمائم السياسية تتصرف في الآيات على أهوائها الحزبية!

القرضاوي أحد أصحاب تلك العمائم، يعبر عن نفسه بواسطة الدين ككائن سياسي، يصب رأيه السياسي والعقائدي في فتوى. إنه الفقيه عندما كان متراضياً مع النظام السوري إلى حد التوحد، وهو الفقيه الذي أفتى بالجهاد ضد النظام نفسه، بينما في الحالتين هو رجل سياسي. تجده مع التظاهرات والعنف ضد نظام «مبارك»، وضد التظاهرات والعنف في نظام «الإخوان المسلمين»، القتلى برصاص مبارك شهداء والقتلى برصاص «الإخوان» عصاة! لو تخلى عن عمامة الدين واكتفى بعمامة السياسة، وقال: هذه شأن سياسي حزبي وتلك شأن ديني!

لقد حصر القرضاوي الشيعة كافة، في اعتذاره أو تراجعه، بحليفيه السابقين ولاية الفقيه الإيرانية و«حزب الله»؛ وإذا دخل مع الأخيرتين في حلف الإسلام السياسي وأراد الخروج منهما، كعالم دين يُقدم نفسه أبرز وجهاء السُّنَّة، فالعديد من أهل التسنن غير معنيين بقربه وتراجعه السياسيين، فليس الجميع ينحني ويُقبل يده! مثلما أن العديد من أهل التشيع غير معنيين بحليفيه السابقين.

أتاحت تصرفات القرضاوي للناس التمييز بين عمامة السياسة وعمامة الديانة، وإذا كان في الروايات الشيعية ما قد يبرر ولاية الفقيه، فليس في الفقه السني ما يبررها، كي يأمل القرضاوي أن يكون ولي فقيه أنظمة الإسلام السياسي بالمنطقة.

About رشيد الخيّون

رشيد الخيّون دكتوراه في الفلسفة الإسلامية من أهم مؤلفاته "الأديان والمذاهب بالعراق"، و"معتزلة البصرة وبغداد"، و"الإسلام السياسي بالعراق" و"بعد إذن الفقيه".
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.