على هامش وطن..


لم أكن أتخيل انه سيأتي اليوم الذي سأترك فيه للساني رفاهية الافصاح بما يضج به عقلي.. لساني الذي أصابه الصدء من قلة الاستخدام ، و أردته الرتابة من وباء الروتين ، و أعياه العفن من شدة القيود..
أربع عقود و انا في معسكر تدريبي مغلق للتمرين على كيفية صون أفكاري و ترويضها و حصارها تحت الفصل السابع و برمجتها بما بتناسب مع قيم عائلة داخل منزل، في منزل ضمن حدود حي ، في حي داخل أسوار مدينة محاطة بشتى صنوف التقييد الاجتماعي و التاريخي و السياسي و الأمني..
غادرت منزلي و لم يغادرني، خرجت من حيي فلحق بي ، قفزت فوق اسوار مدينتي فهبطت جدرانها فوق أكتافي ، هاجرت خارج وطني فطاردني ، هربت من نفسي لعلي أجد نفسي ، فاصطدمت بكلام جدّي و من بعده أبي : اياك ان تتكلم فهناك من يتكلم عنك ، اياك أن تفكر فهم من سيقرر عنك ، أياك أن تبحث و الا سيبحثون عنك..
اصطدمت بجدار ثقافتي الطليعية التي لقحتني بالسموم ،ارتطمت بثقافتي الشبيبية التي عمدتني بماء التبعية ، هبطت بثقافتي العليا التي علا عليها الخوف و الجهل و الانغلاق و الانسحاب و الخذلان و الهزيمة و الفقر و قلة الحيلة و السكوت عن كل ما سبق..


وصلت الى بلاد الحرية و باب الطائرة مازال مغلق..حطت على مدرجات عاصمة القرار في يوم رمادي غائم يكسوه ثلجاً لم أكن اراه الا على شاشة التلفزيون السوري في ختام البث و هو يعرض علينا ما تيسر له من صور لجبال الزبداني و بلودان المكسوة صخورها ببياض ضاق به لونه في بلد غلب على حيطانه السواد، و استباح اللون الرمادي قلوب أبناءه..
نظرت من وراء رأس من شاركني مقعد الطائرة الضيق من خلال شباكها الصغير فلمحت علما بخطوط حمراء و زرقاء و بيضاء ، منقطاً بخمسين نجمة أعادت الى أذهاني أحلامي الخمسين التي لم يتح لي الوقت لتوضيبها في حقيبتي المليئة بالخوف الذي حملوني إياه قبل صعودي تلك الطائرة من ضابط المطار الذي سيتفقد جواز سفري السوري المليء بصور حضارتنا التي لا نعرف عن تدمرها الا سجنها ، و لا عن أوغاريتها الا ملاهي الليل المحيطة بها ، و لا عن أمويتها الا أصوات من استباحوا دمشقنا تلبيةً لتارات الحسين و أبناء الحسين و أحفاد الحسين ..
حقيبتي المليئة باللاءات العشرة و انا أدخل حرم المطار..
لا تبتسم سيظنون انك تخفي شيئاً ..
لا تتجهم سيعتقدون انك عدواني..
لا تتكلم فهم لا يحبون الثرثرة ..
لا تتلفت و الا ستفضح خوفك ..
لا تتحدث مع الغريب فالله و حده و سجلاتهم يعلم من يكون هذا الغريب..
لا تسأل ، اكتفي بالاجابة..
لا تنظر بعيونهم فسيكتشفون قلقك..
لا تغضب فربما سيحاولون استفزازك..
لا تفتعل أي ردور أفعال و الا ستقلقهم..
لا تحزن.. ان الله معك..
نزلت أدراج الطائرة و ما زالت فراملي اليدوية عالقة، شددت أقدامي و انا أكرر لاءاتهم في عقلي و اقرأ ما تيسر لي من حفظه من آيات قرآنية قصيرة أعادت الى أذهاني تلك الفترة التي كانت فيها صديقتي الوحيدة و انا كنت رقماً داخل الزنزانة رقم 10 في الفرع رقم 148 ..
حاملاً جواز سفري بيد ، و شنطة صغيرة في يد ، و هموم الكون بينهما..
أمشي في ردهات المطار لاحقاً بباقي المسافرين، متسلحاً بغريزة القطيع التي احترفتها، مراقباً لوجوه من يمشي أمامي و خلفي لعلٌي أجد من يشبهني ليخفف عني..
حملة الباسبورات الزرقاء ، أصحاب العيون الزرقاء في الممر رقم واحد..
حملة باقي الباسبورات في الممرات العشرة الأخرى..
وضعت الشنطة التي أثقلت كتفي أرضاً بانتظار دوري للمثول أمام حضرة الشرطي ببدلته الأنيقة و ذقنه المحلوقة و ياقة قميصة المكوية و كأس القهوة الأميركية التي يتناقلها بين يديه..
مقابل مرور كل واحد من حملة اللاءات في ممر العبور، كان يمر على الأقل عشرة مسافرين من عابري الممر الذهبي ..
– من أين أتيت سيدي؟؟
اجاب لساني من سوريا .. بعد أن رفض الاستماع لنداء عقلي و هو يصرخ: من الموت..
– من ستزور سيدي هنا ؟؟
أختي المقيمة في ماريلاند .. محاولا إخفاء حقيقة قدومي لاجئا هاربا ..
– ما المدة التي ستقضيها هنا سيدي ؟؟
سأقضي شهر واحد و أعود .. متصارعا مع حقيقة أني لن أعود حتى اصبح من عابري الممر الثاني ، و غالباً لن أعود..
صوتان اثنان قطعوا ضجيج معركة العقل مع اللسان ، صوتان أبعدوا همسات لاءاتهم و توصياتهم من ما وراء عقلي, صوتان نقلوني عبر ممر ضيق من ساحة الموت الى ساحة ما بعده..
صوت الختم الممزوج مع صوت الشرطي و هو يقول : أهلاً و سهلاً بك في الولايات المتحدة كان أجمل بكثير من صوت خطابات النصر الوهمية التي انتشينا طويلاً و نحن نسمعها ، و اعذب بألف مرة من صوت أناشيد المقاومة و قصائد الممانعة ، و أجمل ألف ألف مرة من أصوات الديوك اخوان التي احتلت موجات الأثير عبر الأف أم و الأي أم و كل أبجديات الأم في بلدي..
صوتان ذكروني بذلك النقيب الذي تركته خلفي في مطار اللاذقية و هو يتوعدني في حال رؤيتي مجدداً بعد ان كشف على اسمي في جهاز الكومبيوتر و اكتشف أني من الجراثيم المندسة التي أرادت العبث بأمن الوطن و وهن الشعور القومي لدى المواطن..
حملت حقائب سفري التي كان من الممكن لحجمها أن يفضح هدف زيارتي ، و لمحتوياتها بالافصاح أن من يحملني لا ينوي العودة..
من بعيد ..
شاهدت وجه أخي الذي عبر الممر قبلي بشهرين و هو بانتظاري في ردهة الاستقبال ، لم يكن وجهه كما اعتدت عليه أثناء زيارته لي في السجن ، خائفاً غاضباً قلقاً على رؤية أخيه خلف قضبان السجن الصغير ، مستعجلاً لاهثاً لانتهاء موعد الزيارة و الخروج الى السجن الكبير..
اقتربت من الباب الكهربائي الذي فتح و مازال أمامي خطوتين اثنين للعبور من الموت الى المجهول.. نسمة باردة قادمة من الغرب الجميل ضربت رأس هذا العابر من الشرق الحزين حاملة معها الخوف من الجديد ، القلق من المستقبل ، الغضب على ماضٍ ضاع ..
أخرجت سيكارة من بقايا الوطن الذي كنت أراه يبتعد مع اقتراب لهيبها من خط الفلتر الأحمر ، أخذت آخر نفس من الوطن بنكهة النيكوتين و بحثت عن مكان يليق لرمي بقاياه فلم أجد، أطفئته و لففته بورقة محارم و حملته في جيب سترتي..
أخذنا الطريق ساعة كاملة للوصول الى عنوان منزل أختي ، ساعة استعرضت خلالها صوراً لأربعين عاماً من عمر تاه ثلثيه بحثاً عن مكان ليقضي فيه ثلثه الأخير، و على مبدأ طارت السكرة و جاءت الفكرة ، و على صوت أمي و هي تستقبلني بالحمدالله على السلامة ، أيقنت انني كنت بحاجة الى حمد الله على سلامتي ، فالخارج من سوريا نحو العالم ، أي عالم ، هو مولود بحاجة الى المرور من جديد بمرحلة استخدام الفوطة في عقده الرابع مروراً بكل مراحل الفطم و تعلم اللغة و التأقلم و الانسجام مع أناس علمنا الوطن أنهم أعداءنا..
حمدت الله كثيراً..
الحمدالله على السلامة أولاً..
الحمدالله على جمعي بعائلتي ثانياً..
الحمدالله أن العرب لم يصلوا الى الولايات المتحدة فاتحين و الا لما فتحت أبوابها لي..
زياد الصوفي – واشنطن

About زياد الصوفي

كاتب سوري من اللاذقية يحكي قصص المآسي التي جرت في عهد عائلة الأسد باللاذقية وفضائحهم
This entry was posted in الأدب والفن, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.