بقلم د. عماد بوظو/
خلال سنوات الثورة السورية تكرر كثيرا اسم موظّف لدى النظام، ورغم أنه لم يكن قائدا عسكريا ولا مسؤولا سياسيا لكن ظهوره في الإعلام الحكومي كان يفوق كل هؤلاء، إنه مفتي الجمهورية أحمد حسون الذي كان يزور القادة العسكريين للنظام، المتهمين بعشرات الجرائم ويشكرهم على “إنجازاتهم” كما كان يؤيد عبر وسائل الإعلام قصف المخابز والمساجد والمستشفيات وكان بمشاركة جوقة من أمثاله يلقي الخطب التي تبجّل الدكتاتور وتضفي عليه هالة من التقديس. هذا أحدث الأمثلة على ظاهرة موجودة بكثرة في التاريخ والتي يطلق عليها اسم شيوخ السلطان ولكن هذا المفتي يوضّح إلى أي درك يمكن أن تنحدر هذه الفئة من البشر. شهد التاريخ الإسلامي آلاف الحالات من هؤلاء في قصور الخلفاء والملوك والرؤساء وكان كل المطلوب منهم مدح الحاكم وتبرير ما يقوم به من موبقات وتجاوزات وجرائم. تعتبر هذه المهنة مجزية ماديّا والمواصفات المطلوبة لها بسيطة وهي عبارة عن صوت مرتفع جهوري وإلمام جيّد باللغة العربية ومخارج حروف تتماشى مع أحكام التجويد مع موهبة عفوية بالكذب بدون تأنيب ضمير وقابلية على ارتجال أطول الخطابات بدون جهد وقلة الروادع الأخلاقية. يستند شيوخ السلطان في أفعالهم هذه على عبارة يستخدمونها دائما للدفاع عن الحاكم الجائر وهي “طاعة أولي الأمر”، التي جعلوها من مرتكزات الدين وأركان الإيمان.
عدة آيات في القرآن تمّ التأكيد فيها على طاعة الله ورسوله، ولكن واحدة منها في سورة النساء كانت كالتالي: “يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا”. رغم أن هذه الآية تشير لأولي الأمر بصيغة الجمع بما يعني زعماء محليين مثل شيخ القبيلة أو وجيه القوم أو كبير العائلة، لكن شيوخ السلطان استخدموها وفسروها كأمر من الله لإطاعة الحاكم الملك أو الأمير، كما اعتمدوا على مجموعة كبيرة من الأحاديث التي تدعم رأيهم هذا، والتي تحضّ على السمع والطاعة لهؤلاء الحكام مثل: “عن ابن عباس قال قال النبي من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبرا فيموت إلّا مات ميتة جاهلية، أخرجه البخاري ومسلم، وعن أنس بن مالك قال قال رسول الله: اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة، أخرجه البخاري، وفي أحد الأحاديث الأخرى عن أبي سلام قال حذيفة بن اليمان مقطع في آخره يقول: تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع، أخرجه مسلم، وفي حديث آخر عن أبي بكرة قال قال رسول الله: السلطان ظل الله على الأرض فمن أهانه أهانه الله ومن أكرمه أكرمه الله، أخرجه ابن أبي عاصم والبيهقي، وعشرات الأحاديث المماثلة. وحول المصدر الثالث للتشريع الإسلامي وهو الإجماع فقد قال النووي: أما الخروج عليهم وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين وإن كانوا فسقة ظالمين وأجمع أهل الأمة على أنه لا ينعزل السلطان بالفسق، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: ولهذا روي أن السلطان ظل الله في الأرض ويقال ستون سنة من إمام جائر أصلح من ليلة واحدة بلا سلطان ….. فالواجب اتخاذ الإمارة دينا وقربة يتقرّب بها إلى الله فإن التقرّب إليه فيها بطاعته وطاعة رسوله من أفضل القربات، وقال الفضل بن عياض: لو كان لي دعوة مستجابة ما جعلتها إلّا في السلطان، وحديث للبيهقي يقول: الجهاد واجب عليكم مع كل أمير برّا كان أو فاجرا وإن عمل الكبائر. وعشرات الأمثلة الأخرى لأحاديث من هذا النمط.
هذه الأحاديث لا تتفق مع بدايات الإسلام وتاريخه ولا مع القرآن، فقد قدّم الإسلام نفسه كثورة للمستضعفين ضد الجبرة المتحكّمين، وقد ذكرت الملوك عدة مرات في القرآن كان أغلبها بصيغة الجبار العنيد الذي يجب مقاومته والنضال ضده: “قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزّة أهلها أذلّة وكذلك يفعلون” سورة النمل 34. كما أن هناك آيات تدعو صراحة لعدم الخوف والتمرّد على الحكام الظالمين “إلّا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني ولأتمّ نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون” سورة البقرة 150. “ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون” هود 113. “فاستخفّ قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين” الزخرف 54. هذه الآيات القرآنية معناها واضح وتؤكد على عدم إطاعة الأمراء الظالمين الفاسقين والذين يستخفّون بقومهم، بما يتناقض تماما مع الأحاديث التي يحرص على ترديدها شيوخ السلطان، كما أن الفترة المبكرة من الإسلام لا تتفق أيضا مع أمثال هذه الروايات، وما نعرفه عن تلك الأيام يختلف تماما عن مبدأ الطاعة العمياء هذا، فالخليفة أبو بكر الصديق حسب مراجع التراث قد قال في خطبته عند تولّيه الخلافة: “يا أيها الناس لقد ولّيت عليكم ولست بخيركم فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوّموني”، ورغم ذلك فإن عددا من كبار الصحابة لم يبايعه مثل علي بن أبي طالب وعموم بني هاشم وسعد بن عبادة زعيم الخزرج وعمار بن ياسر والزبير بن العوام وأبو ذر الغفاري وغيرهم. وتاريخ الصراعات السياسية في ذلك الوقت معروف بالتفاصيل، ولا ننسى أن بقيّة الخلفاء الراشدين عمر وعثمان وعلي قد تم اغتيالهم في سياق هذه الصراعات مما يلقي ظلالا من الشك حول صحّة الأحاديث المنسوبة للرسول والتي تدعو لطاعة أولي الأمر، والمفروض أنها كانت حديثة العهد وقتها وأن يكون هؤلاء الصحابة قد سمعوها من الرسول قبل غيرهم لو كانت صحيحة ولما كانوا اختلفوا حينها.
مع الخلافة الأموية والعباسية وما بعدها تحول شكل الدولة الإسلامية إلى النموذج الوراثي الذي تنتقل فيه السلطة للأبناء بغض النظر عن مواصفاتهم، وسلوك الكثير من هؤلاء الخلفاء كان بعيدا تماما عن أي اعتبارات دينية أو أخلاقية، وبدأت منذ تلك الأيام الحاجة لشيوخ السلطان وفتاويهم التي تزداد طردا مع فساد الحاكم وظلمه وجهله وحماقته، واستخدم هؤلاء الشيوخ هذه الآية الوحيدة التي تمر بها عبارة طاعة أولي الأمر لهذا الهدف ثم روّجوا لهذه الأحاديث التي لا تتماشى مع القرآن ولا مع ما نعرفه عن تاريخ بدايات الإسلام ولكنها تنسجم مع مصالح الحكام على مر العصور، وقد جعل هؤلاء الخلفاء والملوك والرؤساء بمساعدة حاشيتهم من رجال الدين أي تشكيك بصحة هذه الأحاديث هجوما على الدين وعلى كتب الصحاح التي وضعوها بمنزلة من التقديس قريبة من القرآن. وكمثال على ذلك فقد قال الإمام الشوكاني: واعلم أن ما كان من الأحاديث في الصحيحين أو في أحدهما جاز الاحتجاج به دون بحث، وقال أبو الحسن الندوي “وليس الاتفاق بين الأمة وعلمائها مجرد مصادفة – حول كتب الصحاح – ولا عن تواطؤ ومؤامرة … بل كان ذلك إلهاما من الله”، أي أنهم يريدون إغلاق الباب أمام اخضاع هذه الأحاديث لأي بحث أو تحقّق من صحتها مهما كانت غريبة أو ضعيفة أو بعيدة عن العقل.
في أيامنا هذه نرى ما يحدث في الدول الديموقراطية المتطورة من تداول للسلطة كل بضع سنوات مع قضائها المستقل وإعلامها الحر، ونرى أن أي هفوة سياسية أو شخصية للرئيس أو الوزير أو أي مسؤول قد تضعه تحت سلسلة من التحقيقات والمحاسبة تجعل من الصعب عليه الاحتفاظ بمنصبه إذا لم تثبت براءته، ولذلك تبدو المواضيع التي نناقشها مثل طاعة أولي الأمر الملوك والرؤساء مهما ارتكبوا من موبقات وجرائم بحق الشعب والبلد وكأنها من عصر وعالم آخر، ورغم ذلك كل المؤشرات تدل على أن إعادة قراءة كتب التراث بعين ناقدة موضوعية لتنقيتها من الشوائب التي دخلتها في عصور الانحطاط مازال حلما بعيد المنال.
ـــــــــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)
-
بحث موقع مفكر حر
أحدث المقالات
** كيف بلع نظام الملالي ... الطعم ألإسرائيلي **
Published by:سرسبيندار السندي** كيف يسخر ويضحك صبيان محمد الجدد ... على عقول ألمسلمين **
Published by:سرسبيندار السنديالمسيح في فكر الإسلام والعقيدة المسيحية
Published by:صباح ابراهيممن يوميات إمرأة حلبجية
Published by:مفكر حراسطورة الإسراء والمعراج
Published by:صباح ابراهيمالفيلم الألماني " حمى الأسرة"
Published by:طلال عبدالله الخوري** جدلية وجود ألله … في ضوء علم الرياضيات **
Published by:سرسبيندار السنديفيلم ايطالي عام 1959 عن تدمر والملكة العربية زنوبيا … علامة المصارع
Published by:مفكر حر** أمة الكُورد بين ألإسلام … والتخلف والتعصب والاوهام **
Published by:سرسبيندار السنديالنظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/10
Published by:علي الكاشأفكار شاردة من هنا وهناك/51
Published by:مفكر حرقراءة متأنية في ديوان (قصائد منزوعة السلاح) للشاعر نينوس نيراري
Published by:آدم دانيال هومه** كيف رتبت أل سي اي ايه … لقاء الصحفي تايكر ببوتين ولماذا ألان **
Published by:سرسبيندار السندي** هل سينجو ملالي إيران بفروة رؤوس … بعد مجزرة طوفان الاقصى وغزة والمنطقة**
Published by:سرسبيندار السنديالنظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/8
Published by:علي الكاشأفاعي السوء وباعة الكذب في مهب الريح( 18-19 )
Published by:حسن محموديأفكار شاردة من هنا وهناك/49
Published by:مفكر حرالانتخاب
Published by:مفكر حر" الاشياء البائسة" Poor Things
Published by:طلال عبدالله الخوريالأدب النسوي ما بين الإبداع والاستغلال
Published by:اسعد عبد الله عبد عليأفكار شاردة من هنا وهناك/48
Published by:مفكر حرالرب يفضح الأنبياء الكذبة
Published by:صباح ابراهيمأخطار تهدد الحياة على الأرض
Published by:صباح ابراهيمكأس عسل
Published by:عصمت شاهين دو سكيسليلة الآلهة
Published by:آدم دانيال هومهأفاعي السوء وباعة الكذب في مهب الريح ( 16, 17)
Published by:حسن محمودي** محنة العقل في الاديان ومعضلة كتبها … بالدليل والبرهان **
Published by:سرسبيندار السندي** لماذا قصف نظام الملالي الارعن … مدينة أربيل ألان **
Published by:سرسبيندار السندياوبنهايمر
Published by:طلال عبدالله الخوري** مَن سيُحاسب قادة حماس … على جرائمهم بحق غزة وأهلها **
Published by:سرسبيندار السندياسرار #الموساد عن #العراق - ج 1
Published by:صباح ابراهيمالمرأة بين الماضي والحاضر مسيرة كفاح وتنمية ونماذج معاصرة
Published by:مفكر حرالنظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/4
Published by:علي الكاشالقاسم الأيمانيّ المشترك :
Published by:مفكر حرعام جديد..
Published by:مفكر حر** قصة مِيلادِ السيّد المَسِيحْ … العجيبة والفريدة **
Published by:سرسبيندار السندي#محمد_الماغوط من الغباء ان ادافع عن وطن لا املك فية بيتنا
Published by:محمد الماغوطأفكار شاردة من هنا وهناك/43
Published by:مفكر حرمن هو يسوع المسيح ؟ - يسوع المسيح يكشف لنا حقيقة الله-
Published by:مفكر حرالنظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/3
Published by:علي الكاشفاطمة الزهراء و غموض تاريخها
Published by:صباح ابراهيم#نزار_قباني: أيها المسيح العظيم هل تقبل دعوتي إلى العشاء .
Published by:نزار قباني** أيا عُبَّاد الهلال … لنا لكم سؤال **
Published by:سرسبيندار السنديهل روح الله هو الله ام جبريل ؟
Published by:صباح ابراهيمأُمة فيها العجب
Published by:عصمت شاهين دو سكيتجاعيد وايجار واتهام
Published by:اسعد عبد الله عبد عليتقاسيم على أوتار الريح
Published by:آدم دانيال هومهالنظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/1
Published by:علي الكاشالدعاء على المسيحيّين
Published by:مفكر حرمباحث في الأدب واللغة/63 الطعام والمطبخ العربي
Published by:مفكر حرأفكار شاردة من هنا وهناك/41
Published by:مفكر حر#مسيحيو_المشرق و(الخيارات المرة )!!!:
Published by:مفكر حرهادي العامري واوهام المدمنين
Published by:علي الكاشالكفاءة
Published by:عصمت شاهين دو سكيأفكار شاردة من هنا وهناك/40
Published by:مفكر حرالعهد الجديد و سفر التكوين والخليقة
Published by:صباح ابراهيمحرب #اسرائيل مع #حماس دينية ام سياسية ؟
Published by:صباح ابراهيمأحدث التعليقات
- س . السندي on الفيلم الألماني ” حمى الأسرة”
- Sene on اختلاف القرآن مع التوراة والإنجيل
- شراحبيل الكرتوس on اسطورة الإسراء والمعراج
- Ali on قرارات سياسية تاريخية خاطئة اتخذها #المسلمون اثرت على ما يجري اليوم في #سوريا و #العالم_العربي
- ابو ازهر الشامي on الرد على مقال شامل عبد العزيز هل هناك دين مسالم ؟
- س . السندي on ** هل سينجو ملالي إيران بفروة رؤوس … بعد مجزرة طوفان الاقصى وغزة والمنطقة**
- مسلم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- الحكيم العليم الفهيم on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- المهدي القادم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- Joseph Sopholaus (Bou Charaa) on تقاسيم على أوتار الريح
- س . السندي on النظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/3
- س . السندي on اوبنهايمر
- محمد on مطالعة الرجل لمؤخرة النساء الجميلات
- ألعارف الحكيم : عزيز الخزرجي on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- س . السندي on علماء النصارى كانوا يتسمون اسماء اسلامية
- س . السندي on فاطمة الزهراء و غموض تاريخها
- س . السندي on ** أيا عُبَّاد الهلال … لنا لكم سؤال **
- س . السندي on سورة مريم اقتبست من شعر امية بن ابي الصلت
- لينا on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- لينا on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- س . السندي on #محمد_الماغوط من الغباء ان ادافع عن وطن لا املك فية بيتنا
- Mohammad Al Kassab on ضحايا صدام حسين 7
- ابن الرافدين on ** أيا عُبَّاد الهلال … لنا لكم سؤال **
- قثيم بن سنحريب الفيروزي on ** أيا عُبَّاد الهلال … لنا لكم سؤال **
- مسلم on القرآن زور التوراة والإنجيل
- ألعارف الحكيم : عزيز الخزرجي on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- قثم بن عبد الات القرشي on هدف حماس من (طوفان الأقصى) وهدف إسرائيل من اعلان حالة الحرب
- طوفان البدروسي on ** لماذا ورطت إيران قادة حماس … بطوفان الاقصى ألان **
- مفكر حر on القول ما قاله سماحة #الكاردينالساكو بشأن فاجعة #عرسالحمدانية
- مفكر حر on القول ما قاله سماحة #الكاردينالساكو بشأن فاجعة #عرسالحمدانية