ضرورة وأهمية الثقافة الجنسية

-1-
الثقافة في الجنس مهمة، وضرورية.
وقراءة الجنس في كل أشعار العالم يمكن أن تؤدي إلى فهم أفضل للجنس. وكل شعر، يمثل الكيان الذي ينقل المعرفة إلى أبعد حدود امتلاكها، على حد تعبير الشاعر الفرنسي لويس أراغون.
يقول المفكر والمناضل الايطالي (انطونيو غرامشي)، في كتابه (دفاتر السجن):
“ليس هناك استيلاء على السلطة السياسية، دون الاستيلاء على السلطة الثقافية.”

ومن هنا نرى، أن المهمة الأساسية للمثقف، ممارسة النقد الابستمولوجي (المقصود بالابستمولوجيا

Épistemologie

علم نظرية المعرفة، أو فلسفة المعرفة، وليست المعرفة بحد ذاتها، وإنما الشروط الأولية التي تجعل المعرفة ممكنة الوجود، أو صالحة. أنظر: محمد أركون، [العلمنة والدين: الإسلام، المسيحية، الغرب]، ص 107)، المرفود بموقف إيديولوجي تحرري، يعمل على تفجير المكبوت المهيمن عليه سلطوياً، من قبل السائد الثقافي. (والمثال الواضح والمعاصر لهذا، ما فعلته الباحثة التونسية رجاء بن سلامة في رسالتها للدكتوراه [العشق والكتابة]، وقراءة فرج بو عشة).
ومن أكثر المكبوتات في الحضارة العربية إحراجاً، المكبوت الأنثوي. وهو ما قام به بشجاعة متناهية، وريادة واضحة، وبدعم من السلطة السياسية، في القرن الثالث عشر، ثلاثة قضاة من الفقهاء في تونس.

-2-
إن الشعر في تخطيه العقبات، يغدو خالقاً لما فوق الواقع، ويعبر عن قدرة الإنسان لتطوير الواقع.
فمهمة الشعر بعث الأمل.
والشعر معين الأزل، الذي لا ينضب في واجهة الزمن.
الشعر وسيلة السيطرة على الزمن الذي يصيبنا باليأس.
فيض تجاوز الشعر لذاته، مدعاة لإعجابنا.
الشعر ليس فلسفة ممنهجة.
الشعر مغامرة.

-3-
تحت عنوان “الطقس الديني والجنس الدرامي”، نرى أنه، منذ أرسطو حتى مطلع القرن العشرين، اعتُبرت التراجيديا الإغريقية امتداداً لطقوس ديونيزوس المتمثلة في الديثرامب

Dythyrambe

[شدو جوقة الغناء] (دراما دينية غنائية راقصة، على شكل أنشودة، تثير حالة من الصخب، والهستيريا، والجنون المقدس. والديثرامب مجموعة من القصائد الحماسية التي تمجد الآلهة الإغريقية، وخاصة ديونيزوس)، والدراما الساتيرية (الدراما الخرافية الساخرة

Satiric Drama

المسليَّة، التي سادت في العهد الإغريقي القديم. وكانت تقوم بنقد المجتمع، والسخرية من عيوبه)، وطقوس تقديس الأبطال، وغيرها. وكانت هذه الطقوس مناسبة للعروض والمسابقات التراجيدية. فكل الأساطير والطقوس الدينية اتخذت شكلاً درامياً. كما يقول عبد الواحد بن ياسر، في كتابه (حياة التراجيديا: في فلسفة الجنس التراجيدي وشعريته)، ص 17.
وكان لتصور الإغريق لآلهتهم، على أنهم بشر مثلنا، أثر في تحرير عقولهم، وتمجيد الإنسان.
فالفرق بين الآلهة والإنسان، أن الآلهة كانت خالدة، وجميلة، وقوية.

-4-
من ناحية أخرى، كانت هناك أسباب مختلفة، لتطور “ثقافة اللذات”، عند الإغريق، منها:
– عادة الزواج عند الإغريق.
– التغيرات في قواعد اللعبة السياسية اليونانية.
وقد لا تكون ثقافة اللذات، النتيجة الحتمية للتغيرات الاجتماعية، أو التعبير عنها، في مجال الإيديولوجيا الإغريقية، لكنها قد تُشكِّل جواباً مبتكراً لهيئة جديدة، للعيش في زمن الإغريق، كما يقول ميشيل فوكو في الجزء الثالث من كتابه (تاريخ الجنسانية) (الانهمام بالذات Le Souci de soi)، أو كما تُرجم الى الانجليزية (The care of the self)، ص 51.
كما أن عادة الزواج عند الإغريق تطورت، وأثبتت أن الزواج مدروس، كطريقة عيش، لا ترتبط قيمتها حصراً بالإرث، وإنما بنمط العلاقة بين شريكين. وأنه يتعين على الرجل أن ينظم سلوكه، انطلاقاً من دور علائقي، تجاه زوجته، من خلال لعبة معقدة، من التبادل العاطفي، وليس من خلال وظيفة إدارية، أو تربوية.
والمقصود، تحديد الطريقة، التي يجب على الرجل أن يصبح فاعلاً أخلاقياً، في العلاقة الزوجية.
وأما عن التغيرات، التي تمّت في قواعد اللعبة السياسية عند الإغريق، والتي كانت السبب الآخر لتطور ثقافة اللذات، حيث تبدلت الشروط التي كانت تتمسك بها الأخلاق التقليدية لضبط النفس، فيقول فوكو، أننا أصبحنا في عالم، حيث من المتعذر أن تسري الأخلاق التقليدية على النمط ذاته.

وأصبح من المهم جداً، إعادة النظر في مبدأ التفوق على النفس، كنواة أخلاقية أساسية.
وهو ما يفسح المجال للتوازن في الحياة الزوجية، والمدنية، والسياسية. وعلى الفرد أن يفصل بين السلطة على النفس، والسلطة على الآخرين.

ولا شك، أن تطور الثقافة الذاتية، وأهمية النفس الإنسانية، قد ساهمت في إعداد أخلاق جديدة خاصة، لضبط النفس. وإعادة النظر في استعمال اللذات الذي كان له علاقة مباشرة في السيطرة على النفس، وعلى البيت، وعلى الآخرين.
وفي الجزء الثالث من (تاريخ الجنسانية)، يركِّز فوكو على كتاب (مفتاح الأحلام) للباحث الإغريقي أرتيميدور. (ومن المعروف أن أرتيميدور كاتب وفيلسوف إغريقي عاش في القرن الثاني ق. م. والكتاب المذكور [مفتاح الأحلام

Onirocriticon]

، طريقة من طرق التنبؤ بالأحلام. ويحتوي هذا الكتاب على قاموس أحلام غني جداً بالنسبة للمؤرخين. فقد التقى أرتيميدور هذا بالعرافين، كما قرأ المصنفات القديمة، وصنف الشهادات التي جمعها خلال أسفاره، التي جاب خلالها كل بلدان حوض البحر الأبيض المتوسط. ووصف في مجموعها أكثر من ثلاثة آلاف حلم. وخصَّ جزءاً كبيراً منها للأحلام الجنسية. وقد اهتم سيغموند فرويد بهذا الكتاب، وأشاد به، في تأويل الأحلام. ولم ينكر فرويد بعض تأويلات أرتيميدور).
ويصف فوكو كتاب أرتيميدور، من أنه يتناول “الممارسة” والحياة اليومية. وهو النص الوحيد الباقي من بين النصوص التي تقدم لنا عرضاً منهجياً، لمختلف الأشكال الممكنة للأفعال الجنسية.
فهو لا يبدي بشكل مباشر وصريح آراء أخلاقية بصدد هذه الأفعال، لكنه يظهر تصورات تقويمية مقبولة، بوجه عام.

وهذه التصورات قريبة جداً من مبادئ العصر الكلاسيكي(تجربة الأفروديزيات الأخلاقية).
وسيتيح هذا الكتاب، معرفة التفكير الفلسفي أو الطبي للذات، والسلوك الجنسي.
ولا ننسى أن تحليل الأحلام، كان جزءاً من تقنيات العيش.
(كان تحليل الأحلام يُعرف في الأدبيات العربية – الإسلامية بـــ [تفسير الأحلام]. وكان ابن سيرين [تفسير الرؤى والأحلام]، وكتاب ابن شاهين [تفسير الأحلام]، وكتاب الإمام جعفر الصادق [تفسير الأحلام]، وكتاب عبد الغني النابلسي الدمشقي[ تفسير الأحلام] وغيرهم، من أشهر من بحثوا، وكتبوا في هذا الموضوع في الثقافة العربية – الإسلامية. ومن الملاحظ أن تفسير الأحلام منذ العصر الإغريقي حتى العصر العربي- الإسلامي، ارتبط بشكل مباشر – لدى الباحثين العرب – أو بشكل غير مباشر بالدين- لدى ارتيميدور- الذي يقول فوكو عنه، أنه كان يُصغي إلى الله، الذي كان يرسل له أحلاماً طوال تقلبات مرضه العجيبة، والمعالجات المتعذر احصاؤها، التي قام بها. وأن الإله أبولون أمره، أو أوحى إليه بتأليف كتابه [ مفتاح الأحلام].
وكان برودون (الفيلسوف اليوناني الملحد، وزعيم السفسطائيين)، يرى أن المرأة لا تحسن التعميم، ولا التركيب، وإن كانت تتلقى الفكرة، وتتابع الاستنتاج، وفهمه، وأن ذهنيتها ضد الميتافيزيقيا، كما يقول فيليب كامبي، في كتابه (العشق الجنسي والمقدس)، ص 228.

-5-

كان جالينوس

Galenus

(130-200ق. م) (الطبيب الروماني البارز، والفيلسوف الجراح)، الذي يطلق عليه فوكو في (الانهمام بالذات) جالين

Galen،

قد حلل العلاقات بين الموت والخلود والتناسل، وهي في مجموعها، ما يُطلق عليه (الأفروديزيات

Aphrodisia).
وكان يرى – على غرار تقليد فلسفي – أن إمكانية التوالد، تستمد أصلها من اللاخلود. وتبدو الأفروديزيات قائمة على ثلاثة مستويات:
1- راسخة بقوة، في نطاق عناية الخالق.
2- تشترك في لعبة الترابطات المعقدة والدائمة، مع الجسد.
3- وقوعها في حزمة مجموعة من أمراض، تقيم داخلها علاقات العلة بالمعلول.
ويقول فوكو، أن ثمة خيط يربط تحليلات جالينوس، من كوزمولوجيا التناسل إلى باثولوجيا الإفرازات التشنجية، ومن الأساس الطبيعي للأفروديزيات. وهذا يقود إلى تحليل الآليات الخطرة، التي تُشكِّل طبيعتها الأصلية، وتقربها من أمراض مخيفة.

-6-
أما الشعراء العرب فقد ابتكروا ، لغة مدهشة وخارقة في العشق. خاصة لدى الشعراء الذين تسموا بأسماء من أحبوهن من النساء، كمجنون ليلى، وكثير عزة، وجميل بثينة، وغيرهم.
وسرت مفردات لغتهم المدهشة في قصائد حب، في لغات أخرى.
وشعراء الحب، يجعلوننا نحب من يحبون من النساء.
فالشاعر لا يحب الأشياء لذاتها، بل يصنع بكلامه منها عالماً سحرياً، يقربه من أسراره، بقدر ما يبعده عنها.
فنحن لا نحب هؤلاء النساء (حبيبات الشعراء) كما هُنّ في الواقع، ولكن كما تمَّ تصويرهن في مخيلة هؤلاء الشعراء، ونتمنى لو أننا كنا مكان هؤلاء الشعراء نعشق العشق المُلْهِم، لأجمل الكلام.
لقد اخترع قيس بن الملوَّح “ليلى” جديدة – ربما- لم تكن هي كذلك في واقع الأمر، وربما صوّرها قيس بأجمل مما كانت عليه.
إن أجمل الكتابة، كتابة العاشق لعشقه، وغرامه.
والمهم، تجارب الحب الفذة والعوالم، التي يبتكرها العشاق بلغاتهم الفريدة، ورؤاهم الأصيلة.

فلا مفر من الهوى.
والتغلب على الهوى، يحتاج إلى هوى أقوى منه.

-7-
كذلك، كان معظم العرب في الأندلس شعراء غزل، وحب، وجنس.
فإذا كان الشعر العربي في الشرق ارستقراطياً، لا تقوله إلا فئة معينة ومحددة من الناس، فإن الشعر في الأندلس الأموية، كان شعبياً يغنّونه معظم الناس في الطرقات، والمقاهي، والمجالس، كما يقول هنري بيريس في كتابه (الشعر العربي الأندلسي في القرن الحادي عشر).
ولئن مثَّل الشعراء الإغريق الحب في الآلهة، فقد مثَّله الشعراء العرب في الأندلس الأموية بالفتاة الجميلة العذراء. حيث كان للشعراء قدر كبير عند العرب. وتُعزى إليهم قدرة سحرية في التعبير عن قوة المشاعر.
كما كان الشعراء العرب، يحظون باحترام، شبه ديني.

About شاكر النابلسي

شاكر النابلسي كاتب وباحث أردني من مواليد 1940 م مختص بقضايا الإصلاح في الوطن العربي والقضايا الإسلامية بالإضافة لكونه باحث لبرالي في الفكر العربي, ويصنف بين من يوصفون "بالليبراليين الجدد" في المنطقة العربية.له مؤلفات كثيرة وعُرف بمقالاته التي تتناول في مجملها الإصلاح إضافة للمنظمات والأفكار "الراديكالية" و"المتطرفة" في الوطن العربي. توفي في الولايات المتحدة في 14 كانون الثاني (يناير) 2014. أثارت أفكاره المتعلقة بالإسلام جدلاً واسعاً في الأوساط الإسلامية, فقد تميزت كتابات النابلسي بالجرأة على نقد المقدس، ففي سياق حديثه عن القرآن يقول: «فالقرآن الكريم، هو أهم مصدر تاريخي/ وعظي/ عجائبي/ أخلاقي لنا ولغيرنا من المؤرخين ومن الباحثين –حيث كان الكلام التاريخي المكتوب الوحيد الدال في صدر الإسلام المبكر-، من الصعب أن يكون مصدراً تاريخياً علمياً، لسبب بسيط جداً وهو أن الأخبار التي وردت فيه عن الماضي وعن حاضر القرآن غير موثّقة بتواريخ محددة، أو بمصادر تاريخية أخرى موثوقة تسندها، يستطيع المؤرخ أو الباحث معها اعتمادها، وبناء أحكامه واستنتاجاته على أساسها. فالقرآن جاء على دفعات متفرقة، خلال مدة طويلة بلغت حوالي ثلاثة وعشرين عاماً، وتاريخ مجيء معظم آيات القرآن غير موثق تاريخياً باليوم والشهر والسنة والمكان المحدد، وترتيب القرآن توفيقي، لم يراعَ فيه تاريخ النـزول ولا اتخاذ الموضوع، ولا سيما أن في القرآن الكريم آراء متضاربة حول كثير من المواقف نحو الأحداث والأديان الأخرى، وعلى رأسها اليهودية، وبالتالي فإن القرآن لم يكُ "كتاب تاريخ" بقدر ما كان كتاب "موعظة تاريخية"»
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.