سنغافورة… نموذج غير قابل للتكرار

الإتحاد الاماراتية

عبدالله المدني

 منذ إتمامي لدراستي الجامعية العليا وتخصصي في الشأن الآسيوي، وأنا أحرص على متابعة وملاحقة كل ما يكتب عن «لي كوان يو»، باني المعجزة السنغافورية، سواء ماكتبه بنفسه عن تجربته في الإدارة والحكم، أو ما كتبه عنه الآخرون من وحي مقابلاتهم معه. فهذا الرجل الذي يبلغ اليوم التاسعة والثمانين من عمره، وقضى جله زعيماً لبلاده وقائداً لمسيرتها التنموية الوضاءة عبر قبضة سياسية متشددة وأخرى اقتصادية منفتحة، جدير بأن ُيتابع، ليس لأنه بنى معجزة قد لا تكون قابلة للتكرار في أماكن أخرى، وليس لأن معجزته باتت مضرب الأمثال، ويحلم صناع القرار في دول العالم الثالث بتحقيق ربعها أو خمسها، ولكن لأنه أحد القلائل الباقين على قيد الحياة من حكماء العصر الحديث.

وكيف لا يكون «لي كوان يو» حكيماً، وهو الذي حوَّل بلاده في زمن قصير نسبياً إلى شيء لا نظير له في العالم النامي. فإلى حنكته وبعد نظره ورؤيته السديدة وتخطيطه الدقيق يُعزى تحويل سنغافورة من جزيرة معزولة ومستنقع مليء بالأوبئة ومكب لنفايات دول الجوار إلى دولة مدنية عصرية، وعاصمة براقة من أنظف عواصم العالم وأكثرها تنظيماً وجمالا ورخاء، ومركز من أكبر مراكز المال والأعمال العالمية، وكيان يمتلك اليوم أكبر أحواض السفن وأحد أفضل المطارات وأكبر شركات الطيران على مستوى العالم، دعك من مستويات المعيشة والدخول الفردية المرتفعة، ومستويات الخدمات الصحية والتعليمية والإسكانية والاجتماعية الراقية، والبنى التحتية المتطورة التي تضاهي مثيلاتها في دول الغرب المتقدمة، إنْ لم تكن أفضل منها بأشواط.

مؤخراً كتب سمير عطاالله عموداً تحدث فيه عن الرجل ومزاياه ومواهبه القيادية، وكيف أنه اتخذ من ثلاثة زعماء كبار في التاريخ المعاصر قدوة له لما رأى فيهم من قوة وجسارة، وإقدام في لحظات ضعف أوطانهم، واقترابها من الهزيمة والانهيار. هؤلاء الزعماء لم يكونوا سوى الرئيس الفرنسي الأسبق تشارل ديغول، الذي «أنقذ فرنسا من خيانة فيليب بيتان»، وحررها من قبضة القوات النازية، وتشرتشل الذي «قاد بريطانيا إلى النصر تحت صواريخ هتلر»، والزعيم الإصلاحي الصيني دينج زياو بينج الذي أسدل الستار على الحقبة الماوية بتخبطاتها ونهجها الراديكالي ورعونة سياساتها الخارجية، ففتح بذلك أبواب الأمل لمئات الملايين من الصينيين، وغيّر حياتهم، وقادهم من الفقر والعزلة إلى المراكز الأولى في العالم.

ويخبرنا عطا الله في عموده المذكور أن كتاباً جديداً ظهر مؤخراً يحتوى على محادثات مطولة أجراها «لي كوان يو»، عبر السنين مع أستاذين من جامعة هارفارد. وهذا خبر مفرح لمن يريد التعلم من تجربة الرجل من زعماء الدول المأزومة الذين لم يصنعوا مسماراً، ولم يبنوا طوبة، ولم يعلموا حرفاً، ولم يحققوا انتصاراً.

إن أحد أسرار نجاح «لي كوان يو» في ما حققه لسنغافورة، وخصوصاً لجهة تحويل مواطنيه البالغ تعدادهم اليوم نحو خمسة ملايين نسمة إلى شعب يفتخر بوطنه ويفاخر بمواطنته، إنه كان يفتح مصنعاً أو مدرسة أو مستشفى أو مجمعاً سكانياً مقابل كل سجن أو إذاعة تحريضية أو كوخ يفتحه الآخرون.

وطبقاً لأحد الذين تابعوا مسيرته، فإنه زعيم غير موتور، لا يجيد العنتريات وإطلاق الشعارات الفارغة، ولا يحبذ خداع شعبه بالوعود الوردية، ولا يتعلق بالأوهام والأساطير والخرافات مثلما يفعل بعض نظرائه من قادة دول العالم الثالث. وبعبارة أخرى فإن نجاحه يعود إلى واقعيته في النظر إلى المعطيات المحلية والإقليمية والدولية، والتصرف وفقها في اللحظة المناسبة.

وهذه خصلة نجدها تتجسد في طريقة تصرفه مع مستعمري بلاده من البريطانيين. فهو مثلا لم يلجأ إلى تحريض مواطنيه ضدهم، ولم يقطع روابط سنغافورة بهم، ولم يتخذ مواقف عدائية تجاههم، وإنما فضل التعاون والتفاهم معهم، بل لم يجد غضاضة في أن تصبح بلاده جزءاً من الكومنولث البريطاني من أجل جني أكبر قدر من المساعدات المالية والفنية البريطانية في مرحلة تأسيس بناء دولة ما بعد الاستقلال. وحينما كانت بريطانيا على وشك تصفية قواعدها في سنغافورة وسحب قواتها منها وتدمير ما بنته من مهاجع لجنودها ومنشآت للرصد والتحميل والتصدير، كما يقتضي القانون البريطاني لم يسارع «كوان يو» إلى استعجال المستعمر بغرض الظهور أمام مواطنيه كبطل قومي، ودغدغة عواطفهم، وسحب البساط من تحت أقدام خصومه اليساريين، وإنما اتصل بصديقه تشرتشل ليطلب منه تأجيل الموضوع لفترة قصيرة كي لا تخسر سنغافورة ما كان البريطانيون يضخونه من أموال في الاقتصاد السنغافوري الضعيف وقتذاك. ولاحقاً طلب من تشرتشل أن تـُستثنى سنغافورة من القانون البريطاني آنف الذكر، فكان له ذلك. وهكذا انطلقت نهضة سنغافورة كميناء عملاق للشحن والمناولة والتصدير وصيانة السفن مما تركه البريطانيون لها من منشآت صالحة للاستعمال. التجسيد الآخر لتلك الخصلة نجده في طريقة انسحابه الهادئة من الاتحاد الماليزي في عام 1965 بالتراضي ودون استعداء ماليزيا وشعبها، بعدما تبين له أن كوالالمبور لا تعدل بين القوميات والثقافات المكونة للاتحاد.

ومن صور واقعية «كوان يو» وعدم انجراره نحو التمنيات – وهو المعجب بتجربة الصين في حقبة ما بعد الماوية والحريص على صلاته مع قادة بكين- أنه لا يرى أن الصين مؤهلة في المدى المنظور لقيادة العالم والحلول محل الولايات المتحدة كقوة عظمى. وتبريره المقنع هو ما سطره الزميل عطا الله في ثلاثة أسباب وهي: أولاً: صعوبة عبور الحضارة الصينية إلى الآخر وصعوبة عبور الآخر إلى الحضارة الصينية وثقافتها بسبب اللغة الصعبة. وهذا أمر استوعبه الهنود مبكراً وتجاوزوه بالإبقاء على لغة مستعمرهم الانجليزي كلغة لتعاملاتهم مع الآخر وكوسيلة تواصل أيضاً ما بين شعوبهم المختلفة ثقافة وإثنية وديانة. والشيء نفسه فعلته سنغافورة بعيد استقلالها عن بريطانيا في عام 1959، وذلك حينما أبقت الإنجليزية لغة رسمية للبلاد، وعامل وصل بين قومياتها وثقافاتها المحلية.

ثانياً: انتشار الفساد وضعف محاسبة الفاسدين في الصين بسبب نظامها الشمولي غير التعددي.

ثالثاً: صعوبة تدشين نظام ليبرالي تعددي، لأن من شأن ذلك تفكك البلاد، إذ اعتاد الصينيون منذ 5 آلاف سنة على حكم الرجل الفرد.

 
This entry was posted in دراسات سياسية وإقتصادية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.