دليلك إلى حياة مقدسة (الفصل السابع عشر)

إحساسي بالرضى عن نفسي لا يعني بالضرورة أن كل شيء في حياتي على خير مايرام، بل يعني أنني وصلت إلى مرحلة من النضح الروحاني أيقنت عندها أن الحياة فوضى، ومن المستحيل أن أتنبأ بما تحمله لي، ولكنني أملك من القوى النفسية والداخلية ما يؤهلني لأواجه كل شيء أصادفه في طريقها! هذا اليقين يحميني من أن أتأزم وأسخط، ويساعدني على أن أنساب بعفوية وانسجام مع الدفق الكوني مهما علت أمواجه، وابتلعني صخبه! في القرن الواحد والعشرين كل إنسان على سطح الأرض، بغض النظر عن الظرف والمكان، مرشّح لأن يدخل في حالة احباط شديد، فالتكنولوجيا نفخت الـ “أنا” على حساب الروح، والإحساس بالإحباط هو
حالة نفسية تعكس الشح الروحاني! لا يمكن أن تتجنب ذلك الإحباط إلا إذا ارتقيت بنفسك روحانيا إلى تلك المرحلة.
…………..
أحب أن أشير هنا إلى أنني وفي موقفي من الإسلام، الذي أصبح معروفا على مستوى العالم، كنت قد طرقت دربا لم يسلكه أحد في التاريخ، وكان أكثر وعورة من أن يتخيله أي انسان. لكنني ـ ومنذ اللحظة الأولى ـ أيقنت أنني أملك حذاءا متينا ويصلح للسير رغم تلك الوعورة! لم يتلقَ أحد في التاريخ الحديث التعنيف الفكري والنفسي والعاطفي الذي تعرضت له، ناهيك عن التهديدات التي وضعتني مئات المرات أمام فوهة مسدس، ومع هذا لم أسخط يوما ولم أتأزم، ورحت أزداد بلورة وإشعاعا يوما بعد يوم. فالشجرة المثمرة لا تأبه يوما لحجر ضُربت به، إذ أن كل حجر يبرهن على ضخّها للثمار، والبراهين الكثيرة شجعتني على مزيد من الضّخ والعطاء! كان إحساسي بالرضى عن نفسي هو مصدر رباطة الجأش التي ميّزتني، وأنا اليوم فخورة بأنني اكتسبت هوية كونية، واكتسبت معها حجما أكبر من اسمي بكثير!
……….
لم يعش أي سوري خلال تلك الحرب المجنونة خوفا يتفوق على الخوف الذي كان من المتوقع أن أعيشه بعد مقابلتي في الجزيرة
عام ٢٠٠٦، تلك المقابلة التي حكمت عليّ غيابيا بالتعليق (حيّة أو ميتة) على جدران الكعبة لأكون عبرة لمن لم يعتبر!
نعم، لقد وضعتني تلك المقابلة في المدى “المجدي” لفوهة مسدس، يتحكم بزناده ملايين من المجانين المهووسين بالجنة وفروجها وأكعابها وأترابها، وذلك بعد أن تُرجمت تلك المقابلة إلى أكثر من عشر لغات في ليلة واحدة! لم يكن السؤال: هل سيطلقون النار؟
بل كل السؤال: متى؟


هكذا أكدت كل التقارير الأمنية التي اهتمت بشأني في أمريكا، والتي لا أريد أن أدخل في تفاصيلها. لكن لم أسمح لأي من تلك التقارير أن ينال من مستوى رضاي عن نفسي، أو أن يعبث بسكينتي، أو أن يقوّض من اصراري على أن أعيش تميّزي كي اؤدي الغاية من وجودي! نعم عشت في حدود المدى المجدي لتلك الفوهة، حتى تاريخ انطلاق مسيرة “الربيع” العربي.
عندها اختلط الحابل بالنابل، ولم يعد أحد من هؤلاء المهوسيين يعرف من يقف في المدى المجدي لفوهته، فراح يطلق
رصاص حقده جزافا! في تلك السنوات الحرجة من عمري، تعمق فهمي وازداد عطائي، وتشبثتُ أكثر باصراري على أن أمارس تميّزي!
……
قرأت مؤخرا تعليقا لمهووس منهم على أحد فيديوهاتي، جاء فيه: وفاء سلطان تسعى لمجد شخصي ليس إلاّ، هي تعيش في أمريكا، ولذلك تتظاهر بالجرأة؟؟؟ أتظاهر بالجرأة؟؟؟ هناك ستون مليون مسلم يعيشون في اوروبا وأمريكا، كم واحد منهم “تظاهر” بالجرأة على غرار وفاء سلطان، وقرر أن يكون نفسه؟؟؟؟ هذه من جهة ومن جهة أخرى، ليست الجرأة هي وحدها التي صنعت وفاء سلطان، بل علمها ومعرفتها وموهبتها وايمانها بذاتها العليا، وبكونيّة المهمة التي ولدت من أجلها! فعندما لا يتسلح المرء بتلك الخصائص تصبح الجرأة نوعا من التهور وضربا من الجنون…..
………….
لم أعد أذكر اسم من قال:
The world is beautiful outside when there is stability inside
(العالم الخارجي سيكون جميلا عندما يكون عالمك الداخلي مستقرا) لكنني أذكر أن الشاعرة الإنكليزية الرومانسية،
Percy Best Shelle
هي من قالت:
Nor peace within nor calm around
(مالم يوجد سلام في داخلك لا يمكن أن توجد سكينة حولك)! فالواقع المعاش في أي بلد على سطح الأرض هو انعكاس
لطبيعة الروح “الجمعية” لذلك البلد!
…..
صديقة أمريكية، خسرت أخاها الوحيد إثر اصابته بمرض السرطان، وكان في عزّ شبابه روت لي مرّة قصة حبه للحياة وتعلقه بها، وتلك السكينة التي كانت تسربله حتى في آخر أيامه. عندما قال له الأطباء لن تعيش أكثر من ستة أشهر على أبعد تقدير، قررت العائلة أن تأخذه في رحلة إلى اليابان، إذ كان مغرما بشعبها وثقافتها… أثناء تقديم الطلب للحصول على جواز سفر،
سألته الموظفة: هل تريده لخمس سنوات أم لعشر، فالرسوم تختلف؟ ردّ وبكل برودة أعصاب: لعشر سنوات! مات بعد اسبوعين من عودته من تلك الرحلة. ليست السكينة أن تتجنب العاصفة، بل أن تكون ساكنا ومحكوما بيقين الخلاص وأنت في قلبها!
…………….
تلك القصة بالذات، تأخذني أكثر من ثلاثين عاما إلى الوراء. كنت طبيبة في لجنة فحص الموظفين في مدينة اللاذقية. وكان هناك مفرق طرق خطير جدا قريب من بيتي حيث أسكن، إذ لا يمضي شهر على أبعد تقدير، إلا وحادث سيارة عند ذلك المفرق يودي بحياة شخص ما.
مرّة كان عليّ أن أزور مريضا في المشفى اُصيب بحادث سيارة لتقييم وضعه الصحي. كانت دهشتي كبيرة عندما اكتشفت أنه كان ضحية الحادث الذي وقع على ذلك المفرق قبل اسبوع. قيل يومها أنه مسؤول كبير في الدولة، وكان عائدا مخمورا من إحدى سهراته. بدا ساخطا ومتأذما وجاهزا ليتصارع مع ذبابة تحوم حول وجهه. في محاولة لأخفف من سخطه، وأرطب الجو بيني وبينه، كي يتسنى لي تقييم وضعه، قلت له: لقد رأيتُ هذا الصباح عمالا على ذلك المفرق، يبدو أنهم قرروا أن يسدوا إحدى الطرق المؤدية إليه كي يخففوا من خطورته. لم أكد أنهي عبارتي، حتى شعرت بنار سعيره تحرقني، وحمم بركانه تغرق المكان: عا طيزي، إذا أصلحوا الأمر أم لم يصلحوه… وتابع: بعد حماري ما ينبت حشيش! تمنّيت عندها أن تضغط قوالب الجبس الملتفة حول عظامه المكسّرة، أن تضغط عليه حتى تسحقه، لكنني غادرت الغرفة بكل هدوء، وأنا أتعثر بدموعي…. تركت للكون أن يقتص بطريقته، ولقد اقتص!
……….
اليوم لم أعد اتساءل لماذا نشبت تلك الحرب المجنونة في سوريا، لأنني أعرف السبب. إنه الإنسان الذي لم تعرف يوما روحه السكينة… رجل يعرف أنه لن يعيش أكثر من ستة أشهر، ولكنه وبكل برودة أعصاب طلب جواز سفر صالحا لمدة عشرة أعوام، فلقد بقي حتى رمقه الأخير متمسكا بالحياة، ومتشبثا بالأمل.. ورجل آخر أهدته الحياة عمرا جديدا إثر حادث مرعب، لكنه لا يريد أن ينبت في الأرض حشيش بعد موت حماره، فالأرض تدور حول محورها، وهو ذلك المحور (!!!!) كل منهما ناتج ثقافته!
لذلك وبكل أسف، أنا مضطرة أن أقول، لهؤلاء الذين أنجبتهم ثقافة صحراوية قبيحة قاحلة، وأخص بالذكر السوريين: (ليست الحروب هي التي سلبتكم سكينتكم، بل افتقار أرواحكم للسكينة هو السبب المباشر لتلك الحروب!) فأيّ ثقافة تنجب إلها منتقما وكارها وجبارا، بل خير الماكرين، لا يمكن أن تنتج روحا تعرف السكينة، وقس على ذلك! كانت جدتي أم علي لروحها السلام، تقول: الحجر الذي يتدحرج لا ينبت عليه. يبدو أنها كانت تقصد “الروح التي تتأزم وتسخط وتتخبط لا تبدع ولا تثمر”!
……..
عالم النفس الأمريكي الدكتور
Dan Baker
وفي كتابه
What happy people know
(ما يعرفه الناس السعداء) يطلق على هذه الأرواح تعبير
Defeated Souls
“الأرواح المهزومة” أما العالمة الروحانية الأمريكية سيلفيا بروان، فتطلق عليها تعبيرا آخر طالما أعجبني
Troubled Souls
“الأرواح المضطربة” هذا ما يحدث عندما تهزم ثقافة أبنائها، فتضطرب الروح “الجمعية” للأوطان التي تتبنى تلك الثقافة!
عندئذ تتصارع الأحقاد وتتأجج نار الحروب…..

About وفاء سلطان

طبيبة نفس وكاتبة سورية
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.