دليلك إلى حياة مقدسة ( الفصل التاسع عشر)

سالي شابة في أول أربعينياتها… تطلقت من زوج ظالم، وخرجت من تلك العلاقة روحا معذبة ومضطربة. عندما ألتقي بها أركّز على طبيعة حديثها فلا أجد فيه كلمه واحدة تنعش الروح. ـ الطقس حار، وأنا أكره الطقس الحار… ـ سيارتي تحتاج إلى عجلات جديدة، وليس عندي وقت لأغيرها! ـ أختي في سوريا مريضة وحالتها ميؤوس منها
ـ مدير العمل ابن كلب، يكرهني وأخاف منه
ـ جارتي أمريكية حقيرة بتغار مني
ـ هل سمعتِ اليوم، الحرائق التهمت شمال كالفورنيا؟
وقس على ذلك
اتصلتْ بي مؤخرا:
ـ وفاء، تعرفت في العمل على شاب أمريكي، ودعاني اليوم إلى العشاء!
ـ رائع، اذهبي واستمتعي بوقتك…. من يدري؟ قد يكون ابن حلال وينسيك الماضي…
ـ مافي رجل ابن حلال، وكما تعرفين حظي خرا…
…..
تعود للاتصال بعد الغداء:
ـ انقلع…ناقصني شراشيح…ههههه…فيني اجي اشرب فنجان قهوة معك؟
ـ تعالي
تدخل بيتي وفي يدها هدية ملفوفة بأوراق جميلة وشريطة أجمل، وفي اليد الأخرى باقة ورد زاهية… ـ واااااو، هل هذه هداياه؟
تقلب عيناها، وتكشّر: اي، رح نشوف شو ها الهدية؟
تفتح العلبة الصغيرة وتُخرج منها زجاجة عطر، تمد يدها باتجاهي لتريني نوعها، فتسقط الزجاجة على الأرض وتصبح أكبر قطعة فيها بحجم حبة العدس.. أول مرة في حياتي أرى زجاجة عطر تنكسر، فعادة تكون مصنوعة من زجاج سميك ومقاوم..
لقد اسقطتُ من يدي زجاجات العطر مرات كثيرة، ولم تنكسر أي منها
تشهق سالي: ألم أقل لك حظي أخو شــــ ؟؟


بعد حوالي ساعة، خلتها دهرا، همّتْ بالخروج، فتأبطت باقة الورد وغادرت…
لم يمضِ أكثر من نصف ساعة حتى عاودت الاتصال:
ـ وفاء، نسيت عندك باقة الورد!
ـ لا لقد أخذتيها معك..
ـ ولكنني لم أعثر عليها في السيارة!
خرجتُ إلى الحديقة الأمامية ورحتُ أجول ببصري في أرجائها، وإذ بي أرى باقة الورد على إحدى الصخرات جانب المكان
الذي كانت قد صفت عنده السيارة.
ـ سالي، الباقة هنا على إحدى الصخرات، ارجعي!
ـ لا….بالناقص منو ومن وردو، سأسوق ساعة اخرى من أجل الباقة؟؟
لمدة أكثر من اسبوع ورائحة العطر تملأ بيتي ومنظر باقة الورد يضفي على المكان رونقا آخر… ألم أقل لكم بأن الطاقة تشد مثيلتها وتنبذ مادون ذلك؟؟؟
……………
لم اشعر يوما بالارتياح للحديث مع سالي، وأشعر دائما أنها تتأجج طاقة سلبية.
حاولت مرارا أن أشد انتباهها إلى الأشياء الجميلة في الحياة، وما أكثرها!
أذكر مرّة وخلال إحدى دردشاتنا حول فنجان قهوة
قلت لها: انظري إلى هذا الصقر الذي يحوم فوق بيتي،
كم أعشق عنفوانه!
فردت: هل نسيتِ أنه أكل لك قطتين؟
(فالج لا تعالج)!!!
…..
اتصلت بي مؤخرا…
تناولت سماعة الهاتف، واستمريت في غسل الصحون وأنا أراقب المدى البعيد والجميل
الذي يمتد وراء نافذة مطبخي.
ـ هالوووو
ـ مرحبا وفاء
ـ هلااااااااا سالي، كيفك حبيبتي؟
ـ خير يارب، صوتك يدل على أنك مريضة؟
لم تكد تنهي عبارتها حتى لمحني كلبي ماتشو من وراء زجاج النافذة، فانقض بطريقة
عدوانية غريبة وعلى غير عادته، وحاول أن يخبط بيديه الأماميتين على زجاج النافذة.
كانت هناك على حافة النافذة الخارجية مزهرية جميلة جدا، ومن الوزن الثقيل،
تلقيتها كهدية، ومن شدة اعجابي بها وضعتها في ذلك المكان كي استمتع
برؤيتها كلما مارست هواية غسل الصحون.
وقعت المزهرية وسمعت صوت ارتطامها بالأرض وتناثرها.
لم يكن تحطمها هو الحدث الوحيد الذي كان من المفروض أن يثير غضبي،
لكنها سقطت فوق اصيص من الزهر موجود على الأرض تحت النافذة.
الاصيص يحوي شجيرة، هي من أحب نباتاتي وأقربها إلى قلبي.
هي شجيرة يقال أن اصلها من البلدان الاستوائية، ولكن لسبب ما انتعشت في حديقتي
وقعت المزهرية فوق الشجيرة، وقطعت ساقها من مستوى التربة، ثم ارتطمت بالارض.
عندما لمحت الشجيرة المقطوعة تخللني تيار من طاقة سلبية، شعرت أنه موصول بسالي
بشكل أو بآخر!
كان عليّ أن أقطع هذا التيار أولا وقبل أن أنظف آثار “الجريمة”
اعتذرت منها وأعدت سماعة الهاتف إلى مكانها!
………
سالي ليست انسانة بسيطة، فهي حاملة ماجستر في
computer graphic desin
ولديها وظيفة جيدة جيدا ودخل يفي ويكفي، وتملك بيتا، ولكن؟؟
هل يُعقل أن تتصل بصديق بعد غياب أكثر من شهر لتدردش معه،
وأول عبارة تقولها: صوتك يدل على أنك مريض؟؟
وخصوصا عندما يكون صوتك طبيعيا، بل وفرحا في نبرته التي تشد إليه كل
الطاقات الإيجابية في الكون…
من يفعل ذلك ليس إنسانا طبيعيا!
لا تقل: إنه تصرف عفوي، وقد لا يحمل أية خلفية!
بل هو تصرف مقصود ويحمل دلالاته، سواء في ساحة الوعي أو في اللاوعي عند صاحبه.
الإنسان الساخط، وسالي صورة عنه، يشعر بالارتياح عندما يساهم في استفزاز شخص آخر،
ويشعر بالارتياح عندما يقابل شخصا تعيسا
ويشعر بالارتياح عندما يلتقي بشخص سعيد، فيحاول أن يسقط عليه مشاعره، أملا في أن يلعب
دورا في تغيير مزاجه نحو الأسوأ.
طبعا مشاعر الإرتياح تلك هي مشاعر وهميّة وليست حقيقية، ولذلك لا تدوم طويلا،
فالإلتقاء بانسان ساخط، أو المساهمة في إثارة سخط انسان آخر،
سيزيده سخطا، لأن الطاقة تجذب (ربّما خلسة) مثيلتها!
………………….
أثبتت الدراسات والتجارب في علم النفس أن المشاعر تنتقل بالعدوى، وإن
الناس الكئيبين ـ وهم بالمطلق ساخطون ـ يُصيبون غيرهم بالكآبة.
لم ترتقِ علاقتي بسالي يوما إلى مستوى الصداقة، لأنه لا يمكن
أن تصادق إنسانا مالم تملكان نفس مستوى الطاقة ونفس نوعيتها،
فالبشر ـ كما الطيور ـ على أشكالها “الطاقوية” تقع!
بعد أن أوشكت سالي على استنزافي، اكتشفت أن العامل الوحيد الذي
فرض عليّ تلك العلاقة كل هذا الوقت، هو شفقتي عليها.
ولقد قيل: أكثر من يحتاج إلى الشفقة هم الذين لا يستحقونها!
أما أنا فأضيف: وأكثر من يستحق شفقتك هو نفسك،
إذ عليك أن تحافظ
على توازنك النفسي كي تبقى جاهزا دوما لتمد يد المساعدة.
…………….
التعامل مع هذا النوع
من البشر يساهم في اختلال توازنك، ويشفط آخر ذرة طاقة منك،
حتى لاحقا يسلبك سكينتك.
لهذه الأسباب مجتمعة، اسقطت سالي من حياتي،
وأريدك أن تسقط كل شخص ـ على شاكلة سالي ـ من حياتك!
……
من الجميل أن تشفق، ومن الأجمل أن تجسد شفقتك عطاءا.
لكن ليس من العقلانية بمكان أن يكون عطاءك على حساب أعصابك،
وعلى حساب مزاجك، وعلى حساب سكينتك!
أول ثمرة العطاء الصحيح هو إحساسك بالراحة، ذلك الإحساس
الذي يعزز رضاك عن نفسك، وبالتالي يرسخ مستوى سكينتك!
أما أن تضخ طاقتك في قربة مثقوبة، فهذا تصرف أحمق لن يملئ
القربة، وسيستنزفك روحانيا وعاطفيا!
………………
لا أكره سالي رغم سلبيتها القاتلة، لا أكرهها لسبب بسيط، ألا وهو أنني أحب نفسي،
ولنفس السبب اسقطتها من حسابي.
حرر نفسك من سلبياتها، وتجنب الناس الذين ـ كالضفادع ـ لا يجيدون إلا النق،
فالطاقة السلبية تقف حائلا بينك وبين المنبع الكوني،
وعندما تفعل ذلك يصبح الشحّ طريقة حياة!

About وفاء سلطان

طبيبة نفس وكاتبة سورية
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.