دستور مصر الجديد

عطاء الله مهاجراني      الشرق الاوسط

يبدو لي أن مصر تواجه موقفا ملتبسا شديد الحساسية في تاريخها الحديث، وهذا يعني – كما يوضح مارتن هايدغر في كتابه الكلاسيكي «الكينونة والزمن» – أننا في حاجة إلى أن نرى بآذاننا وأن نسمع بأعيننا («الكينونة والزمن»، بلاكويل، ص 215 – 216). وقد بدأت الأزمة المصرية يوم 22 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي عندما أصدر الرئيس مرسي قرارات – تم إبطالها منذ صدورها – وضعته فوق رقابة القضاء، وفي صميم هذا المأزق القائم حاليا تأتي مسودة الدستور، التي يؤكد خصوم مرسي أنها تمنح السلطات الدينية نفوذا أكبر من اللازم على الحياة اليومية. وقد تركت نتائج هذا المأزق مصر في أشد حالات الانقسام التي تشهدها منذ خلع حسني مبارك قبل ما يقرب من عامين، حيث تضع مرسي وجماعة الإخوان المسلمين التي ينتمي إليها والإسلاميين المتشددين والسلفيين في جانب، وباقي البلاد، بما في ذلك الليبراليون واليساريون والمسيحيون، في الجانب الآخر.

 وقد حرص الإسلاميون الذين يؤيدون مسودة الدستور على توزيع نشرات وملصقات إعلانية تحث الناس على التصويت بـ«نعم»، كما استغلوا المساجد لنشر رسالتهم. ومن جانبها، قامت المعارضة بإطلاق حملات على القنوات التلفزيونية المستقلة، تعرض شعارا متواترا وهو: «أنا لا أوافق على الدستور الذي يقسمنا». وتعد هذه رواية أخرى للقصة القديمة، قصة الخير والشر، أو قصة الملاك والشيطان: فإذا ما صوتت لصالح الدستور فأنت بذلك تنصر الإسلام والقيم الإسلامية، أما إذا أدليت بصوتك ضد الدستور، فأنت معاد للإسلام وللقيم الإسلامية! وفي نظر الشيخ محمد عبد المقصود، فإن مرسي هو الرمز للشرعية.

 قال الشيخ محمد عبد المقصود: نحن لن نتخلى عن الرئيس محمد مرسي، لأنه أتى عبر الانتخابات، ونسانده لأننا ندافع عن الشرعية، ونحترمه طبقا لما دعت إليه الشريعة، فمن أهان السلطان أهانه الله. إن العميل الأميركاني والعميل الشيعي وثالثهم كلبهم يريدون أن يسرقوا منا عروبتنا وإسلامنا، ولا بد أن نبذل الغالي والنفيس لنصرة الشريعة، لأنهم يريدون إدخالنا في نفق مظلم. ومن أهان مرسي فقد أهانه الله!

 ومثل هذه المواجهة سوف تكون بداية سلسلة من الأزمات والكوارث، فالدستور ليس الجزء الرئيسي من الحل فحسب، بل إنه على العكس سيكون الجزء الرئيسي من المشكلة ومن الأزمة. وأعتقد أن مصر ينبغي أن تضع في اعتبارها 3 تجارب في غاية الأهمية، وهي إيران والعراق وتونس، وكل دولة منها لها خصوصيتها، وأنا لا أريد التركيز على النموذجين الإيراني والعراقي، فأنا أومن حقا بأن التاريخ لا يمكن قراءته وفهمه وتفسيره بناء على مجموعة ثابتة من القواعد والتكوينات، بل إن كل حقبة وكل بلد له أنماط التفسير الخاصة به.

 وأنا أرى أن تفسير القانون الدستوري أهم من نص الدستور، فعلى سبيل المثال، عندما تنص المادة الثانية من مسودة الدستور على ما يلي:

 الإسلام دن الدولة، واللغة العربة لغتها الرسمة، ومبادئ الشرعة الإسلامة المصدر الرئيسي للتشرع.

 فما هو تفسير الإسلام دين الدولة؟ وأي مؤسسة هي التي ستفسر هذه المادة؟ لقد حاولوا في القانون الدستوري العراقي مثلا تفسير هذه المادة بكلمات واضحة:

 المادة 2:

 أولا: الإسلام دين الدولة الرسمي، وهو مصدر أساس للتشريع:

 أ) لا يجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت أحكام الإسلام.

 ب) لا يجوز سن قانون يتعارض مع مبادئ الديمقراطية.

 ج) لا يجوز سن قانون يتعارض مع الحقوق والحريات الأساسية الواردة في هذا الدستور.

 ثانيا: يضمن هذا الدستور الحفاظ على الهوية الإسلامية لغالبية الشعب العراقي، كما يضمن كامل الحقوق الدينية لجميع الأفراد في حرية العقيدة والممارسة الدينية، كالمسيحيين والإيزديين والصابئة المندائيين.

 والدستور ينبغي أن يكون في غاية الوضوح، وعندما تكون كل كلمة وكل مادة معقدة ومفتوحة أمام أي تفسير، فإن مآلنا سوف يكون إلى الجحيم وليس إلى الجنة.

 وفي يوم 10 أغسطس (آب) عام 2005، كتبت مقال عن الدستور العراقي، وقد نشرت هذا المقال هنا في صحيفة «الشرق الأوسط»، وفي الفقرة الأخيرة منها، ذكرت تجربتنا في إيران:

 «أيها الأصدقاء العراقيون، انتبهوا إلى بناء وأساس دستوركم. إن الشعب العراقي تحمل الصعوبات والشدائد أكثر مما يستحق. ليس من الإنصاف أن تجعلوا الشعب العراقي ينكوي بالاستبداد الديني، الذي هو أعنف وأشد أنواع الاستبداد. هذا النوع من الاستبداد الذي حذر منه الفقيه الكبير آية الله نائيني قبل قرن كامل من الزمان في كتابه المهم (تنبيه الملة وتنزيه الأمة)، حيث قال عن الاستبداد الديني بأنه أمر من الاستبداد الملكي بمرات».

 ويروى أن أنوشروان، ملك بلاد فارس، سأل وزيره العظيم بزرجمهر عن الفرق بين الرجل الحكيم والرجل الأحمق، فأجابه بأن الحكيم يستفيد من خبرات الآخرين بمن فيهم الأحمق، بينما الأحمق لا ينظر سوى إلى خبراته. ما أبغي قوله هو أن التجربة التونسية بناءة ومثمرة جدا بالنسبة إلى مصر، فنحن لا ننسى أن بداية الربيع العربي كانت في تونس. وكانت استراتيجية راشد الغنوشي ذكية، فهو لم يركز على الشريعة الإسلامية، بل على ما هو متفق عليه وعلى أرضية مشتركة تجمع كل التونسيين. لقد أقروا مسودة دستور لعام واحد يبدأ في فبراير (شباط) 2012 وينتهي في فبراير (شباط) عام 2013. وكان هذا قرارا حكيما. كذلك كان هناك توافق بين كافة الأحزاب السياسية والإسلاميين والليبراليين واليساريين. وحصل حزب النهضة على الأغلبية خلال الانتخابات بنسبة 41 في المائة، وتمكن من إقامة ائتلاف مكون من أحزاب صغيرة ومستقلين لتشكيل وإدارة الحكومة والتحضير لصياغة الدستور.

 مع ذلك كان حزب النهضة يركز على وحدة تونس والتونسيين. ونرى الآن أن الرئيس التونسي ورئيس البرلمان هم قادة الأحزاب الأخرى. كان راشد الغنوشي يقول إن التوافق الوطني مهم للجميع. وأعتقد أن استبداد الأغلبية أسوأ من استبداد الأقلية؛ لأننا نستطيع أن نرى بارقة أمل في حالة استبداد الأقلية، مثل سوريا، في حين أن استبداد الأغلبية يدمر البلاد والأمة. وكما يقول المفكر البارز كمال أبو المجد إن مصر تمر بوقت حرج، حيث يوضح قائلا:

 «إن هناك شقاقا وانقسامات حقيقية بين أطياف الشعب المصري بسبب الأزمة التي تعيشها البلاد، وهذا الشقاق يحتاج إلى طبيب نفسي، إن مصر ليست الدولة الوحيدة التي تمر بهذه المرحلة، وعلينا الاستفادة من الدرس الذي نعيشه الآن جميعا».

About عطاء الله مهاجراني

كاتب صحفي ومحلل سياسي
This entry was posted in دراسات سياسية وإقتصادية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.