دروس فالنتين راسبوتين الفرنسية

valantinraspotin عبدالله حبه – موسكو

فالنتين راسبوتين
15 آذار عام 1937 – 15 آذار عام 2015
كتب الشاعر الروسي الكسندر بوشكين إن الدقة والايجاز هما من أوائل فضائل النثر. والحقيقة انني اجد متعة كبيرة لدى ترجمة أعمال بوشكين وجوجول وتشيخوف، لأنني أجد فيها فوراً فكرة الكاتب الواضحة الخالية من العبارات الانشائية والتزويقات المنمقة. وهذا بالذات ما جذبني إلى الكاتب الروسي الراحل فالنتين راسبوتين الذي توفي في موسكو منذ ايام عن عمر ناهز السابعة والسبعين عاماً، وحضر جنازته الآف الناس لكونه كاتبا روسيا أصيلا واصل التقاليد الادبية لكتاب ” العصر الفضي” لأدب روسيا في القرن التاسع عشر، ومنهم بوشكين وجوجول وتولستوي ودوستويفسكي وتشيخوف.
لقد تعرفت على راسبوتين ككاتب لأول مرة حين كلفتني إحدى الصحف بترجمة قصته ” دروس اللغة الفرنسية “، التي اثارت اهتمام الاوسط الادبية السوفييتية في مطلع اعوام السبعينيات من القرن الماضي. وقد كلفت بعمل الكاتب واحببته هذا ليس لموضوع القصة الانسانية بل لاسلوبه الرشيق في التعابير. تتحدث القصة عن طفل يتيم في فترة ما بعد الحرب في احدى قرى سيبيريا. وكانت البلاد تعاني من الجوع والخراب. ونظرا لتفوقه في المدرسة الابتدائية ولعدم وجود مدرسة متوسطة في القرية، أُرسل الى عمته الارملة التي تعيش في المدينة مع عدة اطفال يعانون من الجوع بسبب قلة الموارد. وقد عمد الطفل الى كسب روبل يوميا من اللعب مع اقرانه لكي يشتري به شيئا يؤكل. وكانت جوهر اللعبة اسقاط حصوة على قطعة نقود فان انقلبت على الطرة يعتبر الضارب هو الرابح. لكن هذا ما كان يروق لهم فكانوا ينهالون عليه بالضرب ويأتي الى المدرسة في اليوم التالي وعليه آثار الكدمات والجروح. وقد أثار هذا اهتمام معلمة اللغة الفرنسية الشابة التي عرفت بالامر وارادت مساعدته بارسال طرود بريدية فيها مواد غذائية باسمه الى المدرسة لكنه كان يعيدها اليها. واخيرا قررت دعوته الى بيتها واطعامه وممارسة اللعب معه ايضا. لكن معلم المدرسة اكتشف الأمر وطرد المعلمة من وظيفتها لكون فعلتها تخالف القواعد المرعية، فسافرت الى أهلها في كراسنودار.اعتبرت هذه القصة عند نشرها ايامذاك من افضل القصص، وتم تحويلها الى سيناريو فيلم تم عرضه لاحقا.
وقد إلتقيت الكاتب لاحقا مع الناقد السينمائي السوري سعيد مراد في نادي الكتاب بموسكو من اجل اجراء حديث صحفي لمجلة “الطريق” اللبنانية. ودار معه حديث ممتع حقا عن الادب الروسي عموما وعن الدور الاجتماعي للكاتب. فمن المعروف ان المثقفين في روسيا كانوا منذ اصلاحات بطرس الاكبر ينتمون الى فئتين هما “بوجفينيكي”؛ أي اصحاب الفكرة الوطنية الروسية و “زابادنيكي “؛ أي اصحاب الانتماء الى الغرب الاوروبي الاكثر تطورا من روسيا في تلك الفترة. واحتدم الصراع بين هاتين الفئتين وهو يتواصل حتى يومنا هذا. وكان دوستويفسكي من ابرز الكتاب الداعمين للفكرة الوطنية حيث كان يعتبر ان لروسيا دورها الحضاري المتميز ويختلف عن دور اوروبا الغربية. وقد ركز راسبوتين على هذا الجانب في حديثه معنا انذاك. لقد عارض فالنتين راسبوتين الافكار حول تخلي روسيا عن دورها الدولي كقوة كبرى، ووقف ضد جميع محاولات المنشقين لتسويد صفحة السلطة في موسكو ودافع عن وحدة اراضي البلاد. كما دافع عن ستالين وبرر الاحداث المأساوية في عهده بحصار الغرب للاتحاد السوفيتي وبهجوم المانيا النازية، واعطى اهمية لدوره في النصر في الحرب العالمية الثانية. وقال راسبوتين:”لولاه لاختفى الاتحاد السوفيتي وربما روسيا من الوجود”. وفيما بعد ايد قبل عامين معاقبة الفتيات من جماعة ” البانك” – بوسي ريوت – التي اقتحمت كاتدرائية المسيح المخلص بموسكو وقامت بالرقص الخلاعي والغناء المعادي للكنيسة، ممار اثار هذا الفعل استحسان وسائل الاعلام الغربية واستنكار الاوساط الاجتماعية الروسية.
وكان قد ردد لدعم افكاره في المؤتمر الاول لنواب الشعب في الاتحاد السوفيتي قول بيوتر ستوليبين رئيس وزراء روسيا في العهد القيصري مخاطبا اللبراليين من فئة “زابادنيكي”: انتم بحاجة الى هزات عظيمة. ونحن بحاجة الى بلاد عظمى”.
وفي الاعوام اللاحقة حين نشرت روايات راسبوتين ” عش وتذكر ” و” نقود لماريا” و”وداعا ياماتريونا” و” الحريق” وغيرها، ذاع صيت راسبوتين بكونه ” كاتب الريف”، حيث ان جميع احداث رواياته تدور في الارياف وعن حياة الفلاحين الروس. ومن الجدير بالذكر ان راسبوتين بقي في قريته التي ولد فيها ورفض العيش في العاصمة الروسية بالرغم من الدعوات المتكررة اليه للاقامة فيها وانتخابه عضوا في البرلمان السوفييتي. وبهذا سار في درب ميخائيل شولوخوف وفكتور استافييف وغيرهما من الكتاب السوفيت الذي بقوا في اقاليمهم بعيدا عن ضجيج العاصمة وحياتها المليئة بالاحداث السياسية الرسمية. وقال راسبوتين لاحقا في حديث صحفي انه يخجل لكونه ضيع الوقت بالانضمام الى مجلس الرئاسة في عهد الزعيم السوفييتي ميخائيل غورباتشوف.
وقد واصل راسبوتين تقاليد الكتاب الواقعيين الروس الذين كان هدفهم الاول هو إبراز حياة المستضعفين والفقراء. وقد اثارت روايته ” الحريق” ضجة في الاوساط الادبية والرسمية، حيث أظهرت بشكل صريح الطبيعة البشرية الجشعة في وقت الازمات. فقد كان الاهالي يسرقون محتويات مخزن المواد الغذائية في القرية الذي شب فيه الحريق. اما في ” نقود لماريا” فإن الكاتب يصور اوجاع ماريا وزوجها وبحثهما عن مخرج من ورطة ماريا البائعة في المتجر التي لم تكن لها خبرة في العمليات الحسابية وفي النتيجة حدث نقص في وارد المتجر. وكان لابد من تغطية النقص في الوارد المالي، وتوجه الزوج الى جميع الاقارب والاصدقاء بطلب المساعدة لكن بلا جدوى. ومن المعتقد ان جميع قصص وروايات فالنتين راسبوتين مستمدة من وقائع حياته الشخصية . فقد ولد في 15 مارس عام 1937 في عائلة فلاحية بقرية اوست – اودا بمقاطعة اركوتسك في سيبيريا. وتخرج من كلية التاريخ واللغات في جامعة اركوتسك، وعمل في الوقت نفسه مراسلا لعدة صحف محلية. ونشر اول قصة له بعنوان ” لقد نسيت ان اسأل لوشكا” في عام 1961. وبعد ذلك نشر مجموعة قصصية بعنوان “أقليم تحت جنح السماء ” وصدرت في اركوتسك في عام 1966 . وفي عام 1967 نشر مجموعة قصص بعنوان ” رجل من ذلك العالم”. وعندما اشتهر في الاوساط الادبية، نشرت رواياته المذكورة آنفا في فترة 1970 – 1980. وفي الاعوام الاخيرة بعد تفكك الاتحاد السوفييتي انهمك في النشاط الاعلامي وركز بصورة خاصة على حماية البيئة في سيبيريا من التلوث بالنفايات الصناعية، ولاسيما في منطقة بحيرة “بايكال”. وفي عام 2004 اصدر آخر كتبه بعنوان “ابنة ايفان ، أم ايفان “، والطبعة الثالثة من مجموعة مقالاته ” سيبيريا ، سيبيريا”.
وقد تأثر راسبوتين كثيرا لمصرع ابنته عازفة الارغن ماريا راسبوتينا في كارثة جوية في عام 2006، ثم لوفاة زوجته في عام 2012 . وفي 14 مارس نقل راسبوتين الى المستشفى في موسكو في حالة غيبوبة وتوفي في 15 مارس عام 2015.
22/3/2015

About عبدالله حبه

ولد عبدالله محمد حسن حبه في بغداد وفي محلة صبابيغ الآل عام 1936. انهى الدراسة الابتدائية في المدرسة الجعفرية والمتوسطة في مدرسة الرصافة المتوسطة في السنك والثانوية في الاعدادية المركزية. وانهى الدراسة الجامعية في كلية الآداب فرع اللغة الانجليزية. أنهى معهد الفنون الجميلة فرع التمثيل. وحصل على بعثة لدراسة الدكتوراه في الاتحاد السوفييتي ونال الشهادة من معهد غيتيس للتمثيل في منتصف الستينيات. في بداية مشواره الفني مارس الرسم لعدة سنوات، إلى جانب كتابته للقصة. وأصدر مع صديقه القاص منير عبد الأمير مجموعة قصصية تحت عنوان "الحصان الأخضر" في بداية الخمسينيات من القرن الماضي. عمل في الصحافة الفنية وتحديداً في مجلة السينما التي كان يصدرها الفنان كاميران حسني في الخمسينيات من القرن الماضي. ثم انتقل للعمل في المجال المسرحي، وفي البداية مع الفنان جعفر السعدي ثم الفنان جاسم العبودي ثم انتسب الى فرقة المسرح الحديث قبل سفره الى الاتحاد السوفييتي عام 1960. شارك في التمثيل في الجامعة وفي اخراج عدد من المسرحيات في كليان بغداد، كما شارك في التمثيل في عدد من المسرحيات وفي تصميم الديكورات والمكياج للفرق التي عمل معها في تلك الفترة. ومنذ منتصف الستينيات توجه للترجمة من اللغة الروسية في موسكو،وترجم للعديد من فطاحل الأدب الروسي الكلاسيكيين والمعاصرين. عمل في وكالة تاس في موسكو وفي عدد من الصحف الصادرة ياللغة العربية في موسكو وفي عدد من البلدان العربية، ثم عمل لفترة في تلفزيو روسيا باللغة العربية، وعاد الآن للعمل في وكالة تاس.
This entry was posted in الأدب والفن. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.