خيارات إيران التي «لا تقهر» وخيارات حلفائها في سورية

جورج سمعان: الحياة اللندنية

الحملة الديبلوماسية التي تشنها الإدارة الأميركية على أوروبا والمنطقة، من خلال جولتي الرئيس باراك أوباما ووزير خارجيته جون كيري، يفترض أن تثير قلق إيران، الدولة التي «لا تقهر». فقد بات واضحاً أن واشنطن التي أطلقت يد موسكو في البحث عن حل لأزمة سورية منذ انفجارها، تقترب من التفاهم معها على المرحلة الانتقالية واعتماد تسوية تنهي حكم آل الأسد. وتكون بذلك منحتها صورة الدولة العظمى أو الشريك اللدود الكبير الذي تسمع كلمته. يبقى أن يبادلها هذا الشريك خدمة مماثلة هي بالتأكيد في الملف النووي الإيراني. لم تتضرر إدارة أوباما حتى الآن مما جرى في سورية بقدر ما تضررت الجمهورية الإسلامية التي يحذر قادتها هذه الأيام من أنه «لا يمكن الاحتفاظ بطهران إذا خسروا سورية»! فهم يدركون أن هذه الخسارة لن تقف عند حدود هذا البلد، بل تتعداه ربما إلى لبنان والعراق.

يعبر هذا الموقف عن مخاوف عميقة في طهران التي لا يغيب عن بالها، في ضوء تجارب أميركا من فيتنام إلى أفغانستان والعراق، أن لا وجود لدولة كبيرة «لا تقهر»، فلا الولايات المتحدة خرجت منتصرة من هذه البلدان، ولا الاتحاد السوفياتي أيضاً ربح في كابول من قبل. وهي إن غالت في الاعتداد بالنفس، لا تنكر حراجة التحدي الذي تواجهه في العراق وسورية ولبنان. ومهما حاولت نشر أسلحتها إلى اليمن وأفريقيا، تعي دقة الموقف الذي قد تواجهه في أفغانستان غداً عندما تعود إليها «طالبان» أياً كان شكل التسوية عشية انسحاب قوات حلف الأطلسي. ولن تنفعها عراضة القوة في مناوراتها على الحدود الشمالية الشرقية. صحيح أن إيران مارست حتى اليوم سياسة ممانعة في ساحات كثيرة بمواجهة أميركا، لكن هذا التمدد أو التقدم أو الدور لا يمنحها حصانة بقدر ما يؤدي إلى إضعافها، وفي الداخل أولاً. بل يشبه إلى حد كبير الدور الذي مارسته سورية على مر عقود. يومها كانت تمارس ما كان الغرب يعتبره «دوراً معطلاً» في ساحات فلسطين ولبنان والعراق، أو «دوراً مخرباً» في تركيا والأردن وغيرهما، وأصبحت اليوم ساحة لكل من يبحث عن دور. بل باتت «المحافظة الـ35» للجمهورية الإسلامية!

هل بإمكان إيران أن تتعامى عن صورة الاصطفاف السني حول سورية، من العراق إلى لبنان فالأردن وتركيا، ناهيك عن مجلس التعاون الخليجي ودول «الربيع الإخواني»؟ إنه اصطفاف يهدد بغياب «الهلال الشيعي»، كما سماه عدد من القادة العرب. ولن تنفعها محاولات الهرب إلى أمام، أو تهريب السلاح إلى نيجيريا بعد اليمن وغيرها. فالتحرك السني من طرابلس إلى بغداد ينذر بتسعير الصراع السني – الشيعي في الإقليم كله، ولا ضمان في أن تخرج الجمهورية الإسلامية منتصرة… إلا إذا كان هذا ما يقصده من رأى أن بلاده «أحدثت تحولاً في المجتمعات البشرية»! ولن تنفعها أيضاً مغازلة روسيا بلفتها إلى أن «الحضور الإيراني المقتدر في المنطقة يخدمها». بل ستجد أن موسكو لن تحيد عن الموقف الأميركي في قضية الملف النووي، تماماً مثل الصين. فإذا كانت بكين تعارض قيام دولة نووية في «بحرها» سواء في كوريا الشمالية أو اليابان، فإن روسيا أيضاً حريصة على أمنها الإقليمي وجمهورياتها السابقة وسط آسيا، وليست مستعدة للقبول بجيران نوويين. من هنا وقوفها والصين مع العقوبات الاقتصادية التي قررها مجلس الأمن على الجمهورية الإسلامية.

تباطأت الإدارة الأميركية حيال الأزمة السورية. ومنحت روسيا الوقت الكافي حتى اقتنعت هذه بعجز النظام عن الحسم. وتركت إيران تنخرط مباشرة في الصراع عبر تقديم الدعم إلى النظام السوري بكل أشكاله وعبر مشاركة «حزب الله» أيضاً. كان ضغط الإدارة على إيران بلا جدوى قبل المتغيرات التي طرأت على المشهد في المنطقة. أما اليوم فقد خرجت «حماس» من دمشق إلى القاهرة. وتكاتف خصوم نوري المالكي في العراق وبات مطلبهم ليس إسقاطه فحسب بل إسقاط الدور الإيراني في بغداد، ما ينذر بتجدد حرب مذهبية، معطوفة هذه المرة على صراع مكشوف مع كردستان متحالفة مع تركيا. ويصعب بعد هذا التطور أن تركن طهران إلى ما يجري على حدودها الغربية مباشرة.

بلغت الأزمة السورية حدوداً لا يجوز بعدها أن يجازف المجتمع الدولي بسقوط الدولة بكل مؤسساتها واحتمالات التفتيت، مع ما قد يجره تنامي حركات التطرف من تهديد للمنطقة بأسرها. كما أن تفاقم المأساة الإنسانية بكل صورها، من المجازر المتنقلة إلى تدمير المدن ودفع النازحين والمهجرين في الداخل وخارج الحدود، لم يعد يحتمل السكوت. وإذا قيض لموسكو أن تنجح في إدارة التسوية سيكون عليها أن تبادل الأميركيين في الملف النووي الإيراني، إذا كانت طهران ترفض دعوة واشنطن إلى الحوار. لا يعني هذا أن موقف إيران سيكون مهادناً أو مساعداً. فلا شيء يشي بأنها ستقبل بتسوية. بل هي تتصرف بخلاف ذلك. لجأ حلفاؤها في العراق إلى بعث ميليشياتهم استعداداً للمواجهة دفاعاً عن حكومة ائتلاف «دولة القانون». وأشارت على دمشق بإنشاء ميليشيات مماثلة بدأت تأخذ مكانها في جبهات القتال. أما في لبنان فلم يعد سراً أن خيارها كان زج «حزب الله» في الميدان… وكلها وصفات تقود إلى حروب أهلية تصب مزيداً من الزيت في النار المذهبية المستعرة في الإقليم.

كان «حزب الله» ولا يزال يدرس خياراته منذ اندلاع الأزمة في سورية. فريق يميل إلى تفاهم مع تيار المستقبل يعيد الحكومة إلى «الأكثرية السابقة» في مقابل طي صفحة سلاح المقاومة والحملة على هذا السلاح. لكن مثل هذا التفاهم دونه شروط، إذ لا يمكن عزله عن أطراف الصراع الدائر في المنطقة. أي أن يكون جزءاً من تفاهم أوسع بين إيران وعدد من الدول العربية في مقدمها دول الخليج. أو أن يكون مقدمة لتفاهم إقليمي أوسع، ويستدعي طبعاً كلفة وأثماناً. وهذا ما لا توحي به الأجواء في المنطقة. وثمة فريق آخر يميل إلى التشدد ويرفض تقديم ما يسميه «تنازلات مجانية». ويرى فريق آخر أن التشدد وحده يحفظ للمقاومة ما في يديها. ودليله إلى ذلك النتائج التي أفضت إليها أحداث السابع من أيار (مايو) 2008.

ويدرك الحزب أن سياسة «النأي بالنفس» التي لجأت إليها حكومة نجيب ميقاتي ودعمتها دول غربية انتهت إلى ما يشبه حرباً بين اللبنانيين ولكن على الأرض السورية. وقد لا تظل كذلك إذا اجتازت النار الحدود بقاعاً وشمالاً. كما هددت قيادة «الجيش الحر». ولعل آخر ما يريده الحزب هو جره إلى مواجهات في الداخل تصيبه بمقتل هو الرافع شعار «السلاح لمواجهة إسرائيل». وليس سراً أنه احتاط ويحتاط لمثل هذا المنزلق بخيارات بديلة عن التفاهم أو المواجهة المباشرة. فقد باتت لحلفائه في معظم المناطق مجموعات من الأنصار يمكن أن تشكل واجهة تقيه الانخراط المباشر في أي إشكال أو جولة هنا وهناك. كما أن الجيش اللبناني لن يسلم بنقل الصراع حول سورية إلى الداخل، وقد لا يكتفي بترتيبات أمنية تقليدية ما دام جميع اللبنانيين ينادونه ملجأ وحامياً.

في ضوء هذه التحديات، لا يمكن إيران التي أفادت من الغزو الأميركي لأفغانستان ثم العراق وراكمت رصيداً إقليمياً وازناً، أن تقنع العالم بأنها باتت دولة «لا تقهر» في حين أنها تواجه وضعاً مقلقاً اقتصادياً وسياسياً في الداخل، ويواجه دورها في العراق ولبنان وسورية تهديداً حقيقياً وقاتلاً. لا يكفي أن تفخر بإنجازاتها الصاروخية فوق حطام اقتصاد متهاوٍ وأمامها ما آلت إليه تجربة الاتحاد السوفياتي. لم يعد بإمكانها الرهان على الانكفاء الأميركي العسكري عن المنطقة. ولا يمكنها أن تقنع روسيا بأن مصالحها معها تتقدم على مصالح موسكو مع الولايات المتحدة وأوروبا عموماً. وإذا قيض للقابلة الروسية توليد تسوية لأزمة سورية ستجد طهران نفسها معزولة تماماً ما لم ترضخ لموجبات هذه التسوية، مهما عاندت وبالغت في تقدير قوتها. لا يمكنها أن تخوض حروباً على كل الجبهات دفعة واحدة. عندما يحين وقت الصفقات بين الكبار، عليها أن تقتنع بأنها لا يمكنها أن تضع نفسها في مصاف هؤلاء. لم تدفعها سياسة العقوبات إلى الرضوخ لشروط خصومها، فهل تعاند حيال تآكل دورها في الإقليم بعد تآكل اقتصادها؟ ألا تعتقد بأنها تجازف بضياع أوراق جهدت لامتلاكها على مر سنين؟ ألا تجازف بخسارة ورقة «حزب الله» في سورية فتخسر معها ورقة فلسطين؟ ما نفع هذه الأوراق ما لم تصرف في أيام كهذه؟ وهل تعتقد طهران بأن الكبار سيسلمون لها بتغيير المشهد العام في الشرق الأوسط؟ إصرارها على ثمن كبير عشية اجتماعاتها مع مجموعة الخمسة زائد واحد في كازخستان يعني أنها ليست مستعدة بعد أو هي تنتظر إلى حين عبور استحقاق انتخاباتها الرئاسية في حزيران (يونيو) المقبل… ولكن هل تنتظر سورية حتى ذلك اليوم؟

This entry was posted in دراسات سياسية وإقتصادية, ربيع سوريا, فكر حر. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.