حين يفقد المغترب العراقي بوصلة عقله

 محمد الرديني

 تعج الذاكرة باسئلة مستعصية تتعلق ببعض المغتربين العراقيين الذين رأوا جنتهم في بلاد الكفار ولكنهم فقدوا بوصلة انفسهم.

ترى العراقي يناضل بل ويستميت من اجل ان يخرج من قارورة العوراق باي ثمن، لايألوا جهدا في سؤال معارفه واصحابه بل ويتوسل بهم لكي يعينوه ويخلصوه من هذا الجحيم الذي هو فيه ، ويركض نحو السفارات الاجنبية يدق ابوابها بابا بابا وينتظر طاقة الفرج وليس له الا الصبر في بعض الاحيان.

وحين تفتح له طاقة الفرج وما ادراك ماطاقة الفرج ويتقرر قبوله في احدى بلاد الكفار يرقص فرحا فقد نجا هو وعائلته من موت محقق اما بكاتم صوت او في موقف حافلة او جنب احد باعة الخضار.

ويلملم حاجاته الاساسية مستعدا للرحيل الى بلاد الكفار.

في الطائرة يرسم له وجها عبوسا،ولايجد الحماس في محادثة زوجته فهو مسافر هناك حيث الامان والسلام والاستقرار وضمان مستقبل الاولاد.

ينزل من الطائرة ليجد ان موظفي المطار يبتسمون له كلهم، كلهم بدون استثناء حتى اذا وصل الى ضابط تدقيق الجوازات وجده يبتسم له هو منذ سنوات.

عجيب من وين يعرفني هذا الاشكر؟.

خجل من نفسه حين وجد وجهه لايعرف الابتسام، انه وجه عبوس قمطريرا، وهذا ليس ذنبه .

انهى معاملة التدقيق فيما كانت زوجته تحني رأسها خجلا فقد كان ضابط الجوازات يبتسم لها وهو يقول اتمنى لكم اقامة سعيدة.

عند باب الخروج وجد اسمه مكتوبا على لافتة صغيرة يحملها احدهم والذي بدا انيقا وكأنه مدير عام في مؤسسة عراقية محترمة.تقدم اليه وهو يشعر بالوجل وساقيه ترتجفان دهشة واستغرابا ورآه يتقدم اليه مبتسما هو الآخر حاملا له حقائبه بعد ان تأكد انه هو الشخص المعني.

صعد الى سيارة ليست فارهة فقط وانما تشع نظافة من الخارج ورائحتها تشبه رائحة الجوري من الداخل.

رحّب السائق بهم واخبرهم انه سينقلهم الى بيتهم المؤقت الى حين يجدون بيتا ملائما لهم توفره لهم الحكومة.

في الاسبوع الاول لم يخرج من البيت، ولماذا يخرج؟ وهو يجلس على “قنفات” لم يجد مثلها الا في فندق الرشيد الذي ذهب اليه مضطرا ذات يوم.

وفي اليوم الثامن دق احدهم الباب وكان عراقيا يسكن الى جواره.

بعد الترحاب والكلام اياه قال له العراقي:

اسمع ياصديقي.. لديك حقوق هنا يجب الا تنساها وتطالب بها في اول فرصة اولها لك منحة سنوية لتصليح اسنانك واسنان العائلة ولك منحة اخرى لتشتري بها ما تحتاجه من مواد غذائية اذا وجدت ان راتبك لايكفي في هذا الشهر.. التعليم مجاني والعلاج مجاني ولاتنسى ان تأخذ معك كل اولادك في اليوم الاول لصرف راتبك فالاولاد لهم راتبهم والزوجة ايضا ويمكنك ان تذهب الى دائرة الرعاية الاجتماعية القريبة من بيتك مرة كل اسبوعين او ثلاثة وتطلب قائمة بالمواد الغذائية التي تحتاجها حتى ولو كنت في غير حاجة لها لأنك على الاقل ستوفر مبلغا من المال الى يوم الحاجة.

ويمكنك ايضا ان تجد عملا عند احد المعارف ليصرف لك راتبا يسموه هنا”اندر تيبل” تضيفه الى حسابك في البنك.

ويمكن بعد سنة او اكثر ان تخبر هذه الدائرة بانك انفصلت عن زوجتك فيصرف لك راتب خاص وزوجتك ايضا ويكون لديكما راتبين بدل الراتب الواحد اضافة الى رواتب الاولاد..لا لا اخي الانفصال وهمي بس “كدامهم” هاي شبيك انت، انا شخصيا اضمن لك ان تسكن مع زوجتك كما فعلت انا والى ان ياخذ الله امانته.

بعد سنة…

في اليوم السادس من السنة الجديدة شعر صاحبنا بمخه يكاد يفلت من مكانه كما احس بان جيناته العراقية قفزت امامه لتعلن الصراع ضد كل الاشياء امامه .

استطاع بعد جهد ان يحدد ثلاثة انواع من الجينات كانت بارزة امامه وبقوة.

الاولى:قفزت هذه الجينات وهي اكبرهم واضخمهم حجما ووقفت امامه بتعال وتكبر رافعة شعار”جاءت الاوامر العليا واضحة وعليك التنفيذ.. الحسينية قريبة من بيتك ويجب ان تصلي فيها جماعة، ولاتنسى ان تشارك في طبخ القيمة والهريسة ، واياك ثم اياك ان تسمح لأحدهم ان “يجيب” طاري ايران بالشين، مثلنا الاعلى هو ولاية الفقيه ولاغيره مثالا بعد الخميني.

الثانية:هذه الجينات بدت دلوعة وهي تهمس في اذنه”الشورت ممنوع،قصة الشعر الغريبة ممنوعة،التدخين في الحسينية ممنوع، ضرورة تسجيل الاطفال في المدرسة الايرانية او الافغانية ليتعلموا قراءة القرآن،لاتشتري الحلويات من المحلات العامة لأنها محشوة بزيت الخنزير، سندلك على المحل الباكستاني الوحيد الذي يبيع الدجاج ولحم الخرفان بالحلال، ولا تقرب الخمر فانه من عمل الشيطان ولا تسير في جنازة أي احد من جيرانك الكفرة.

الثالثة: هذه الجينات صغيرة جدا و”حبابة” وشكلها لايدل على انها مؤذية ولكنه حين سمع صوتها ارتجف رعبا وانصاع للامر الواقع: اشتر نقاب عدد 3 لزوجتك ولاتدعها تمشي جنبك في الاسواق العامة كما لاتدعها تخرج بمفردها فانها ربما ترى الرجال الشقر وتتحسر على سمار وجه زوجها العبوس دائما.

سندلك على احد الجيران الذي سيعطيك صورا للخميني تعلقها في صالون البيت مع صور لولاية الفقيه واذا اردت صورا عن لطميات الحسينيات بالنجف وكربلاء فاطلبها منه.

قفلت الجينات راجعة الى مكانها الاصلي فيما استعد صاحبنا لتطويل لحيته وشراء محبس عدد 5 من احد البنغاليين و”عرقجينة” مرسوم في حاشيتها صورة احد الائمة.     تواصل مع محمد الرديني فيسبوك

About محمد الرديني

في العام 1949 ولدت في البصرة وكنت الابن الثاني الذي تلاه 9 اولاد وبنات. بعد خمسة عشر سنة كانت ابنة الجيران السبب الاول في اقترافي اول خاطرة انشائية نشرتها في جريدة "البريد". اختفت ابنة الجيران ولكني مازلت اقترف الكتابة لحد الان. في العام 1969 صدرت لي بتعضيد من وزارة الاعلام العراقية مجموعة قصص تحت اسم "الشتاء يأتي جذلا"وكان علي ان اتولى توزيعها. في العام 1975 التحقت بالعمل الصحفي في مجلة "الف باء" وطيلة 5 سنوات كتبت عن كل قرى العراق تقريبا ، شمالا من "كلي علي بيك" الى السيبة احدى نواحي الفاو. في ذلك الوقت اعتقدت اني نجحت صحافيا لاني كتبت عن ناسي المعدومين وفشلت كاتبا لاني لم اكتب لنفسي شيئا. في العام 1980 التحقت بجريدة" الخليج" الاماراتية لاعمل محررا في الاخبار المحلية ثم محررا لصفحة الاطفال ومشرفا على بريد القراء ثم محررا اول في قسم التحقيقات. وخلال 20 سنة من عملي في هذه الجريدة عرفت ميدانيا كم هو مسحوق العربي حتى في وطنه وكم تمتهن كرامته كل يوم، ولكني تعلمت ايضا حرفة الصحافة وتمكنت منها الا اني لم اجد وقتا اكتب لذاتي. هاجرت الى نيوزيلندا في العام 1995 ومازلت اعيش هناك. الهجرة اطلعتني على حقائق مرعبة اولها اننا نحتاج الى عشرات السنين لكي نعيد ترتيب شخصيتنا بحيث يقبلنا الاخرون. الثانية ان المثقفين وكتاباتهم في واد والناس كلهم في واد اخر. الثالثة ان الانسان عندنا هو فارزة يمكن للكاتب ان يضعها بين السطور او لا. في السنوات الاخيرة تفرغت للكتابة الشخصية بعيدا عن الهم الصحفي، واحتفظ الان برواية مخطوطة ومجموعة قصصية ويوميات اسميتها "يوميات صحفي سائق تاكسي" ومجموعة قصص اطفال بأنتظار غودو عربي صاحب دار نشر يتولى معي طبع ماكتبت دون ان يمد يده طالبا مني العربون قبل الطبع. احلم في سنواتي المقبلة ان اتخصص في الكتابة للاطفال فهم الوحيدون الذين يقرأون.
This entry was posted in الأدب والفن, فكر حر. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.