حوار مع القرضاوي 5

عبد القادر أنيس

أواصل في هذه الحلقة الخامسة قراءة كتاب الشيخ يوسف القرضاوي “الإسلام والعلمانية، وجها لوجه”.
مقالة اليوم تتناول فصل “العلمانية والعلمية” ص 57-65.
الإسلام والعلمانية، وجها لوجه
يستهل الشيخ هذا الفصل بقوله: “انتهز بعض العلمانيين فرصة الترجمة الخاطئة لكلمة “العلمانية”، محاولين أن يجعلوها مرادفة لـ “العلمية”، وقالوا: إن العلمانية تعني استخدام العلم والعقل، موهمين بذلك ـ أو مصرين ـ بأن الإسلام ضد العقل والعلم!”
ويقول: “وهذه مغالطة مكشوفة، فإن البون شاسع بين العلمية والعلمانية، ونحن نقول: “نعم” للأولى، و”لا” للثانية”.
هنا أرى من المفيد أن يطلع القارئ على رأي آخر حول مصطلح العلمانية في الثقافة العربية اكتشفه المفكر جورج طرابيشي. قال: ” نعم من هنا أيضا كان تركيزي على اكتشاف كلمة العلمانية التي لم تأتنا من الغرب كما نتهم، ويتهموننها أنها كلمة عميلة للغرب؛ فالعلمانية جزء أساسي من تراثنا، فهي موجودة في قلب التراث، وهنا أحيل إلى “ابن المقفع المصري” في القرن الرابع الهجري الذي استعمل هذه الكلمة دون أن يشرحها في كتابه “مصباح العقل” مما يعني أنه لم يكتبها ويحدث بها، فهي معروفة لدى الناس، فالعلماني هو بالنسبة لابن المقفع المصري القبطي “من ليس راهبا” أي من ليس رجل دين، وكلمة علماني ليست من “العلم” فلا نقول عِلمانية بكسر العين، ولكن علماني بفتح العين أي من “العالم” فرجل الدين ينتسب إلى الآخرة، في حين أن العلماني ينتسب إلى هذه الدنيا، إذن الكلمة ليست جديدة في تراثنا، ولم تستورد في القرن التاسع عشر أو العشرين كما يقال، بل هي موجودة في هذا التراث العربي المسيحي، والذي هو جزء من التراث العربي الإسلامي، وهو في حاضرته، وليس منفصلا عنه..” انتهى. للمزيد: أنظر الرابط:
http://www.islamonline.net/servlet/Satellite?c=ArticleA_C&pagename=Zone-Arabic-ArtCulture%2FACALayout&cid=1213871492021
ورغم هذا التأصيل المفحم لمصطلح العلمانية في التراث العربي، فإن العلمانية كما ظهرت حديثا في أوربا كانت أقرب إلى العلم، بوصفها حركة واكبت الفتوحات العلمية في شتى الميادين وتأكدت بفضل ما أتاحته هذه الفتوحات من تعرية لخرافات الأديان وعدائها الدائم للعلم. وبالتالي فصاحب المغالطة المكشوفة هو القرضاوي وليس العلمانيين، وبقدر ما تقترب طروحات العلمانيين من العلم بقدر ما تبتعد طروحات الأديان، وخاصة الإسلام، من العلم وتقترب من اللاعلم.
ويواصل الشيخ على هذا المنوال إلى أن يقول: “ونحن المسلمين أولى الناس باحترام “العلم”، وتبني “العلمية” في كل أمورنا، فالدين عندنا علم، والعلم عندنا دين. ولم يعرف تراثنا صراعا بين الدين والعلم، كما عرفه الغرب، الذي أدار رحى الحرب بينهما قرونا، كان من آثارها محاكم التفتيش وأهوالها، التي يندى لها جبين التاريخ”.
وهو كلام يتناقض مع ادعاءات رجال الدين المسلمين عندما يقررون أن العلمانية قضية نصرانية بحجة أن عيسى المسيح قال: “أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله” ولا شأن لها بالإسلام الذي يخلو من طبقة الكهنوت كما هو حال المسيحية حسب زعمهم. يقولون هذا مع أن العلمانيين الغربيين هم الذين أبرزوا هذا القول للمسيح وطالبوا بتوظيفه في صالح العلمانية مثلما يفعل العلمانيون المسلمون عندما يوظفون حديث محمد: “أنتم أدرى بشؤون دنياكم”.
ويقول: “ومعجزة نبي الإسلام لم تكن “آية كونية”، تخضع لها الأعناق مقهورة، بل “آية علمية” تذعن لها العقول مقتنعة، وهي القرآن الكريم”.
القرضاوي يتحدث وكأن العلم والإبداع والاختراع والرخاء والتفوق ليس في البلاد التي انتهجت العلمانية كسياسة ومعاملات وأخلاق وأسلوب حياة بل هو في بلاد المسلمين حيث يعشش الجهل والظلامية واللاعلم. فمن يغالط هنا؟ وكيف نفسر حالة بلاد المسلمين المتخلفة لو لم يكن الإسلام ضد العقل والعلم فعلا؟ نعم البون شاسع، لكنه بين العلم والإسلام. هل يمكن أن يبلغ شخص هذا الحد من الجحود مثلما بلغه القرضاوي وهو يسفه ويتنكر لجهود أجيال من العلماء في شتى المجالات تحدوا في سبيل ذلك نظراء القرضاوي من رجال الكهنوت المسيحي طوال قرون، كما يشكك في النتائج التي توصلوا إليها ويخص بالذكر العلوم الإنسانية التي فتحت آفاقا واسعة لدراسة الظواهر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والنفسية والتربوية دفعت بالمجتمعات التي أخذت بها نحو مراتب سامقة في التنظيم السياسي والاجتماعي والاقتصادي والتربوي ومع ذلك يبقى المسلمون الذين يحتلون ذيل الترتيب العالمي في جميع المجالات في عرف القرضاوي ” أولى الناس باحترام “العلم”، وتبني “العلمية” في كل أمورنا، فالدين عندنا علم، والعلم عندنا دين. ولم يعرف تراثنا صراعا بين الدين والعلم، كما عرفه الغرب”.
يقول بهذا الصدد: ” ومن ذلك كثير من نتائج العلوم الإنسانية والاجتماعية، التي يريد بعض دارسيها أن يلبسوها ثوب العلم اليقيني، وهي ليست أكثر من استنتاجات، مبنية على مقدمات غير يقينية، قد يقبل بعضها، ويرفض بعضها، وقد ترفض كلها. ولا أدل على ذلك من اختلاف النتائج، باختلاف المدارس الفكرية، التي ينتمي إليها الباحثون، ما بين شرق وغرب، وما بين يمين ويسار، يختلف كل منهما في درجاته من يمين اليمين إلى يسار اليسار!”.
رؤية الشيخ للغرب توقفت عند مجموعة من الكليشيهات على شاكلة محاكم التفتيش في العهود التي كانت للكنيسة فيها اليد العليا وهو ما يخدم رؤية الشيخ حول عالم تتصارع فيه الأديان، أما الغرب غرب المغامرة الإنسانية الحديثة العظيمة التي فتحت أبواب الحداثة بما بعثته من تمرد على الأقدار وعلى التخلف والرجعية والجمود الديني وانطلاق جامح نحو الحريات والمواطنة والديمقراطية والإبداع الفني والأدبي والعلمي فقد حرص الشيخ على التعتيم عليه.
متى، يا شيخنا، كان الدين عندكم علم والعلم عندكم دين؟ وأين تجسد هذا في أرض الواقع؟
فما يفتخر به المسلمون الآن من فلاسفة وعلماء ومتكلمين كان رجال الدين في زمانهم يحاصرونهم ويكفرونهم ويستعدون العامة والحكام ضدهم، وقلما نجا عالم من محنة كانت تفضي إلى قتله أو حرق كتبه أو نفيه أو الهروب بجلده.
عندما يقول القرضاوي ” لم يعرف تراثنا صراعا بين الدين والعلم، كما عرفه الغرب”. فهو كلام مشبوه من وجوه عدة. فالعلم الذي بدأ يعرفه الغرب مع بداية نهضته، لم يعرفه الشرق، كمعرفة شككت في مسلمات الأديان ولهذا كان الصراع هناك بتلك الحدة والشراسة، ومع ذلك فقد تحالفت في تاريخنا قوى الاستبداد مع قوى الدين باكرا ضد المحاولات العقلية التي بدأت تشق طريقها في العصر العباسي الأول وتمكنت من وأدها في المهد قبل أن تثمر وتعطي أكلها عندنا. ومحنة المعتزلة ثم الفلاسفة طوال تاريخ الإسلام معروفة. أما المضحك المبكي فهو أننا اليوم لا نجد ما نفتخر به من علم ومعارف عقلية في تراثنا إلا ذلك التراث الذي كان يُعَد يومئذ من قبيل العلم الذي لا ينفع، كما ورد في الحديث النبوي. لقد اتهم عباس ابن فرناس في عقله وزج به في السجن بينما نفتخر به اليوم كرائد وصاحب أول محاولة للطيران !!!
نعم كان الإسلام ولا يزال ضد العلم والعقل. لكن العلم والعقل ليسا كما يفهم القرضاوي الذي يقول: ” معجزة نبي الإسلام لم تكن “آية كونية”، تخضع لها الأعناق مقهورة، بل “آية علمية” تذعن لها العقول مقتنعة، وهي القرآن الكريم”. بل هو العلم الذي لا يتوقف عن طرح الأسئلة بحثا عن أجوبة لها وعن فهم ضرورات لا بد منها لحدوث ما يجب أن يحدث غير مقتنع بالمسلمات الدينية كما يقرر ذلك القرضاوي وهو يقول: “إخضاع كل شيء ـ فيما عدا المسلمات الدينية والعقلية ـ للفحص والاختبار، والرضا بالنتائج، كانت للإنسان أو عليه”.
فماذا أبقى للعقل؟
البحث عن الأسباب هو عصب العلم والبرهان العقلي أما في القرآن فلله الأمر من قبل ومن بعد، وبيد الله الأسباب يقررها كيفما شاء “لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ” وبالتالي فأي عقل في الآية: ” قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ”. بينما علوم السياسة والإدارة والتسيير الحديثة التي شكك القرضاوي في علميتها، قامت بإلغاء الحق الإلهي الذي ادعاه الحكام لأنفسهم عندما كانت الأديان مهيمنة وجعل هذا الحق بأيدي المواطنين ومن يمثلهم ديمقراطيا.
ولا علم في هذه الآية: “هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء، لا إله إلا هو العزيز الحكيم”. بينما علوم الطب الحديثة صارت تتدخل في ما في الأرحام فتصحح العيوب الخلقية قبل الولادة وتداوي العقم وتساعد المرأة على الوضع بغير ألم رغم أنف رجال الدين الذين نراهم اليوم عندنا يكفرون اللجوء إلى علم التجميل بوصفه تدخلا في خلق الله رغم أن نسبة عالية من البشر تعد بمئات الملايين تولد بعيون خلقية مثل الصمم والعمى واليكم وغيرها من الإعاقات التي تجعل صاحبها يعيش حياته في محنة.
وأي عقل في الحديث النبوي: ” عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك الا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له” رواه مسلم. بينما علوم الاقتصاد والاجتماع والسياسة وغيرها لم تعد ترى في الفقر والمرض ومختلف الشرور والآفات قضاء وقدرا يجب الصبر عليه بل هي حالات ناتجة عن تأخر التنمية وسوء التوزيع وفشل الإدارة وتقاعس المواطنين والعمال عن الدفاع عن مصالحهم بالطرق الحديثة.
طبعا هذا الغرب الذي فجر القرائح والعقول وحرر قدرات الإنسانية الإبداعية ما كان له أن يحقق له ما حقق لولا انتصاره على قوى الماضي المتخلفة ومنها المؤسسات الدينية وملوك وأمراء الحق الإلهي ولولا تمكنه من نزع القداسة عن كثير من القوى الغيبية والظاهرة، وهي حضارة لا دينية كما قال القرضاوي ولكنها حضارة تحترم كل الأفكار والآراء والمعتقدات وتوفر شروط ممارستها بكل حرية. لهذا اكتفى نابليون بالابتسام عندما سأل العالم لابلاس حول مؤلفه ميكانيكا الأجرام السماوية: “لكن أين الله في كل هذا؟ فأجاب العالم: “سيدي، أنا لست في حاجة إلى هذه الفرضية”.
العلم عند هؤلاء: عبارة عن كل معرفة نسبية تتعلق بظواهر تخضع لقوانين مع إمكانية التحقق منها بالطرق التجريبية. ولم يعد العالم هناك مضطرا ليبدأ كلامه بالبسملة والحوقلة والحمدلة أو ليختم ما قرره بـ “الله أعلم أو بإذن الله”.
لهذا لا يمكن أن نعتبر من قبيل البرهان العلمي قول القرضاوي: “ولما طلب مشركو العرب من النبي صلى الله عليه وسلم أن تكون له آية حسية، كما كان للأنبياء من قبله، كان الرد الإلهي عليهم (أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب، يتلى عليهم؟) (سورة العنكبوت:51)”.
وقوله: “وحسبنا أن أول سورة نزلت في القرآن، بدأت بقوله تعالى (اقرأ باسم ربك الذي خلق) (سورة العلق:1)”.
وهنا لا بد من تذكير القراء بمقالات الدكتور كامل النجار القيمة والتي ينشرها هذه الأيام في الحوار المتمدن ومدى سذاجة السور التي يدعي الإسلاميون أن فيها علما غزيزا وسبقا كبيرا.
وأي علم في قوله: “وحسبنا أن القرآن نوه بالعلم، وأشاد بآثاره في عدد من قصص الأنبياء الكرام. فهو في قصة آدم، المرشح الأول لخلافة الإنسان في الأرض، وبه أثبت آدم تفوقه على الملائكة المقربين.؟”
أليس الله هو الذي لقنه الأسماء ثم أمره أن يكررها؟ فبماذا تفوق آدم على الملائكة المقربين؟
وأي علم في خرافة يوسف العبرانية التي لا نجد لها أثرا في نقوش وكتابات الفراعنة رغم اشتهارهم بالتدوين خاصة ما تعلق بعظائم الأحداث، ومع ذلك يقول القرضاوي: “وهو (أي العلم) في قصة يوسف الذي أنقذ الله به مصر وما حولها من المجاعة الماحقة، نتيجة التخطيط الاقتصادي الزراعي المحكم ـ إنتاجا وادخارا واستهلاكا ـ لمدة خمسة عشر عاما”.
فمن أين ليوسف بعلم التخطيط، وهل تفسير منام تخطيط؟ ثم أليس يوسف عند القرضاوي نبي يوحى إليه؟ ثم كيف يعقل أن يتفوق يوسف الراعي البدوي على خبرة الفراعنة المديدة؟
وأي علم عندما يقول الشيخ: ” وهو (العلم) في قصة سليمان، الذي استطاع به صاحبه “الذي عنده علم من الكتاب” أن يحضر به عرش ملكة سبأ من اليمن إلى الشام؟)، قبل أن يرتد إليه طرفه، وهو ما لم يستطعه “عفريت من الجن”، فدل على أن قوة الإنسان بالعلم تفوق قوة الجن، على ما لهم من قدرات وإمكانات”.
أي علم في هذه الخزعبلات والخوارق يا شيخ؟
وأي علم عندما يكتب “أن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء، علمه من علمه، جهله من جهله” فهل حقق الإنسان في الغرب حيث يلجأ شيوخ الإسلام للتداوي عندما يمرضون ولا تنفعهم صلاواتهم وابتهالاتهم لله، ما حققه من انتصارات على الأمراض المختلفة بوحي إلهي أم نتيجة لجهود مضنية تواصلت وتراكمت عبر آلاف السنين وتسارعت في القرون الأخيرة ولم يساهم فيها لا الدين ولا الأنبياء ولا وكلاؤهم بل عرقلوها دائما؟ اللهم إلا إذا كان القرضاوي يؤمن فعلا بنجاعة وصفة بول البعير كدواء؟
وأي علم عندما يكتب القرضاوي: “ونرى الرسول الكريم ينزل عن رأيه الخاص، إلى رأي الخبراء، كما في موقعة بدر، ونزوله على رأي الحباب بن المنذر” بينما المعروف أن محمد عمل برأي هذا الصحابي ثم عاد بعد ذلك والتف على هذا الإنجاز البشري بجعل النصر من الله الذي أرسل آلاف الملائكة غير المرئيين للقتال في صف المسلمين. هل هذه استراتيجية حربية وهل هي من قبيل العلم؟
وأي علم في قوله: “ونراه صلى الله عليه وسلم يعتمد نتائج التجربة في الشئون الفنية المتعلقة بشئون الدنيا، من كيفيات الزراعة والصناعة والتسليح والطب ونحوها، وفي هذا جاء الحديث الصحيح: “أنتم أعلم بأمر دنياكم”.
بينما العكس هو الصحيح حسب رواية هذا الحديث، بعد أن تدخل محمد فيما لم يكن له فيه خبرة وضرب عرض الحائط بتجربة وخبرة مئات السنين، لم يكن يعرفها بوصفه راعيا ثم تاجرا ثم نبيا خانه الوحي في هذه المسألة وفي مسائل أخرى كان يتأخر عنه فيها الوحي الإلهي !!!!!..).
وشخصيا أجد صعوبة كبيرة في متابعة القرضاوي وهو يسرد كل هذه الحماقات التي جنت علينا بنرجسيتها وأكاذيبها وتلفيقاتها وحتمت على خبرائنا ومعلمينا ومسؤولينا اللجوء كل مرة لتطعيم كلامهم بالآيات والأحاديث حتى يمكن تمريرها.
بينما يقول الدكتور فؤاد زكريا بكل بوضوح وتواضع: “ليس التفكير العلمي هو تفكير العلماء بالضرورة. فالعالم يفكر في مشكلة متخصصة، هي في أغلب الأحيان منتمية إلى ميدان لا يستطيع غير المتخصص أن يخوضه، بل قد لا يعرف في بعض الحالات أنه موجود أصلا. وهو يستخدم في تفكيره وفي التعبير عنه لغة متخصصة يستطيع أن يتداولها مع غيره من العلماء، هي لغة اصطلاحات ورموز متعارف عليها بينهم، وان لم تكن مختلفة كل الاختلاف عن تلك اللغة التي يستخدمها الناس في حديثهم ومعاملاتهم المألوفة. وتفكير العالم يرتكز على حصيلة ضخمة من المعلومات، بل إنه يفترض مقدما كل ما توصلت إليه البشرية طوال تاريخها الماضي في ذلك الميدان المعين من ميادين العلم.
أما التفكير العلمي الذي نقصده فلا ينصب على مشكلة متخصصة بعينها، أو حتى على مجموعة المشكلات المحددة التي يعالجها العلماء، ولا يفترض معرفة بلغة علمية أو رموز رياضية خاصة، ولا يقتضي أن يكون ذهن المرء محتشدا بالمعلومات العلمية أو مدربا على البحث المؤدي إلى حل مشكلات العالم الطبيعي أو الإنساني. بل إن ما نود أن نتحدث عنه إنما هو ذلك النوع من التفكير المنظم، الذي يمكن أن نستخدمه في شئون حياتنا اليومية، أو في النشاط الذي نبذله حين نمارس أعمالنا المهنية المعتادة، أو في علاقاتنا مع الناس ومع العالم المحيط بنا. وكل ما يشترط في هذا التفكير هو أن يكون منظما، وأن يبنى على مجموعة من المبادئ التي نطبقها في كل لحظة دون أن نشعر بها شعورا واعيا، مثل مبدأ استحالة تأكيد الشيء ونقيضه في آن واحد، والمبدأ القائل إن لكل حادث سببا، وأن من المحال أن يحدث شيء من لاشيء”. انتهى.
فشتان بين هذا و بين التفكير الديني الذي يعده القرضاوي ضمن التفكير العلمي؟
ولكن يجب مواصلة الحوار مع هذا (العالم) بغير علم يمكن الاعتداد به في ضوء علم فؤاد زكريا، رغم تأثيره السلبي العظيم على حياتنا العقلية المنهارة أصلا.
يقول: “والكفار أولئك الذين يرفضون الاستماع إلى دعوة محمد، يوصفون بأنهم “قوم لا يعقلون”، لأنهم قاصرون عن أي جهد عقلي، يهز تقاليدهم الموروثة، وهم بهذا كالجمادات والأنعام، بل أكثر عجمة، ولذلك يكره الله هؤلاء الناس، الذين لا يريدون أن يعيدوا النظر في أسس تفكيرهم”.
وهو كلام يضع أربعة أخماس العالم ممن لا يؤمنون بما جاء به محمد في خانة: “الجمادات والأنعام، بل أكثر عجمة”.
يتبع

عبدالقادر أنيس فيسبوك

About عبدالقادر أنيس

كاتب جزائري
This entry was posted in فكر حر. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.