حوار الطرشان بين الفيلسوف ورجل الدين

هذه هي المقالة التاسعة عشر من حواري الافتراضي مع الدكتور يوسف القرضاوي من خلال كتابه ((الإسلام والعلمانية، وجها لوجه)). الكتاب في الرابط:

http://www.scribd.com/doc/28242163

حوار الفيلسوف ورجل الدين ظل يفضي دائما إلى طريق مسدود، لأنه حوار النسبي ضد المطلق، والشك ضد اليقين، اللاهوتي ضد الناسوتي، النقل ضد العقل، التجديد ضد التقليد، باختصار هو حوار المستقبل ضد الماضي. نهايته غالبا ما تكون في غير صالح الفيلسوف، إما بإسكاته أو نكبته. نستثني من هذه المحنة بعض الفترات الحضارية في ظل خلفاء وملوك وأمراء مثقفين.

مقالة اليوم تتناول هذه الإشكالية من خلال الحوار الذي دار أواسط الثمانينات بين أستاذ الفيلسوف الدكتور فؤاد زكريا وعالم الدين الدكتور يوسف القرضاوي. وهو الحوار الذي نقله القرضاوي في كتابه الآنف الذكر.

يقول د. القرضاوي في مستهل هذا الفصل ص 109-130- تحت عنوان ((العلمانية والدعوة إلى تطبيق الشريعة:

لماذا الدعوة إلى تطبيق الشريعة؟)):

((قديما قال الشاعر العربي:

وليس يصح في الأذهان شيء ******* إذا احتاج النهار إلى دليل!

ومن أصعب الأشياء أن تحاول إقناع محاورك بأنك في نهار مشمس، إذا كانت الشمس ساطعة، لا يحول دونها ضباب ولا سحاب. ولهذا قال علماؤنا: إن توضيح الواضحات من المشكلات!

ونحن مضطرون أن نقاسي هذه الصعوبة في توضيح الواضح، وإثبات الثابت، مع د. فؤاد زكريا الذي ينكر أن في الإسلام “شريعة” من عند الله!)). انتهى

فهل عند القرضاوي من الأدلة ما يثبت أن فؤاد زكريا ((ينكر أن في الإسلام “شريعة” من عند الله!))؟ وأيهما هو فعلا في حاجة فعلية إلى توضيح الواضحات؟

لنقرأ كلام فؤاد زكريا كما أورده الشيخ القرضاوي في كتابه هذا ص 131.

((كتب القرضاوي: ((لقد بدأ د. زكريا، فوجه سؤالا من سؤالين رئيسيين عنده: أولهما: لماذا الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية؟

((وأجاب الدكتور على سؤالِ نفسه، بما يجيب به أنصار الشريعة، ودعاة الحل الإسلامي عادة، من خلال منطق قوي، لا يستطيع عقل مؤمن أن يهرب منه، أو يرفضه بغير مكابرة، كما اعترف بذلك الدكتور نفسه.

((يقول في جواب السؤال: إن الرد الجاهز الذي يجيب به كل من يتحمس لهذه الدعوة في هذا السؤال، هو أن تطبيق الشريعة ضروري، لأن الشريعة آتية من عند الله، بينما القوانين الوضعية، التي نعمل بها من صنع البشر، والمنطق البسيط والمباشر، الذي تتغلغل به هذه الدعوة إلى قلوب الملايين من البشر وعقولهم، هو أنه لا وجه للمقارنة بين قانون يأتي من عند الله، وقانون وضعه البشر. إن الإنسان كائن هش ضعيف، لا يمتد عمره إلا لحظة خاطفة في زمن الكون الأزلي، ولا يشغل كيانه إلا ذرة ضئيلة في كون شاسع، تقاس أبعاده بملايين السنين الضوئية، فإذا كانت لدينا شريعة أوحى لنا بها خالق هذا الكون، وقانون وضعه هذا الإنسان الضئيل المحدود، فهل يصح أن نتردد لحظة في الاختيار بين الاثنين؟!)).

((إنه كما قلت منطق واضح مباشر، يبدو في نظر الإنسان العادي أمرا يستحيل الاعتراض عليه، بل إن قدرته الإقناعية أعظم من قدرة أشد البديهيات الرياضية وضوحا. ومما يزيد من قدرة هذا المنطق على الإقناع، حالة التردي والتأزم، التي يعيشها الناس، فكلما أحكمت الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية قبضتها على رقابهم، ازدادوا استعدادا لقبول الحجة، التي تخاطبهم ـ بكل ثقة ـ فتقول: أرأيتم إلى أين يؤدي بكم حكم البشر؟ إن كل مصائبكم ترجع إلى ابتعادكم عن طريق الله. فلماذا لا تسيرون في هذا الطريق، إن كنتم تريدون ـ حقا ـ أن تنشلوا أنفسكم من هذه الهاوية؟)).

ثم يعلق الشيخ القرضاوي: ((وهكذا اعترف الدكتور بوضوح منطق دعاة الإسلام، وقوته وقدرته على التأثير والإقناع. وخصوصا مع ما نحن فيه من بلاء، لا تزيده الأيام إلا تفاقما..ولكن كيف تخلص الدكتور الفيلسوف من قوة هذا المنطق ومحاصرته وبديهيته، التي تفوق أشد البديهيات الرياضية وضوحا؟.. هنا يتلجلج الدكتور، وينزل إلى المستوى الذي وصف به الغزالي (يقصد الشيخ أبا حامد الغزالي في تهافت الفلاسفة)) من هم خير منه من أعمدة الفلسفة، وهو مستوى “التهافت”! (القرضاوي يتجاهل ابن رشد ورده على الغزالي في: تهافت التهافت) وليس ذلك لضعف الدكتور، فهو رجل متمكن في فنه، مالك لقلمه، ولكن لضعف الفكرة، التي يدافع عنها، وهي العلمانية الدخيلة، وقديما قالوا: الحق أبلح، والباطل لجلج. لنقرأ ـ معا ـ بتأمل وإنصاف ـ ما يقول الكاتب، تعقيبا على المنطق الفطري الناصع، الذي عرضه بعبارته، لندرك ونفحص ـ معا ـ قيمة الأدلة، التي يستند إليها، في نفي النسب الإلهي للشريعة الإسلامية، يقول (فؤاد زكريا)(. انتهى

قبل قراءة حجج فؤاد زكريا بودي أن ألاحظ هنا أن القرضاوي تعمد تقويله ما لم يقل. ففؤاد زكريا لم يعترف ((بوضوح منطق دعاة الإسلام، وقوته وقدرته على التأثير والإقناع)) كما توهم القرضاوي. هو فقد وصف منطق الإسلاميين في ذلك الموقف المحزن في بيئة مخيفة تمكن فيها الإسلاميون من كسب الشارع باسم الدين إلى صفهم وتوهموا أنهم قاب قوسين أو أدنى من استلام السلطة وإقامة خلافتهم الإسلامية. هذا كل ما في الأمر. كان على الفيلسوف أن يكون أكثر حذرا ومهادنة في سبيل تمرير خطابه وإنقاذ البلاد من الزحف الأصولي. وفعلا لم تمر عدة أشهر حتى اغتيل زميله في الحوار مع الإسلاميين، فرج فوده، على أيدي أتباعهم الإرهابيين. وأيد الغزالي شرعية الاغتيال رغم أنه كان يجالس فرج فوده في نفس المنصة:

http://www.4shared.com/get/p_R7o1qt/_______________.html

ووقف القرضاوي مناصرا للغزالي عندما تعرض للنقد والاستنكار في وسائل الإعلام المصرية والعربية.

يقول فؤاد زكريا: ((وبطبيعة الحال، فلو كان الاختيار ـ حقا ـ بين حكم إلهي وحكم بشري، لأصبحت المسألة محسومة على الفور، ولكن السؤال الأساسي هو: هل نحن ـ حقا ـ إزاء اختيار بين شرع الله، وقانون الإنسان؟ في رأيي أن الأمر ـ على حقيقته أبعد ما يكون عن ذلك، ويرتكز هذا الرأي الذي أقول به على أساسين جوهريين:

((الأول هو أن أحكام الشريعة، باعتراف الجميع تمثل في أغلبها مبادئ شديدة العمومية، يتعين بذل جهد كبير من أجل ملء تفاصيلها، بمضمون صالح للتطبيق في ظروف كل عصر بعينه، وكلما تعقدت أوضاع الحياة ازداد الدور الذي تلعبه هذه التفاصيل أهمية. ومن المؤكد أن مجتمعنا المعاصر، يمثل قمة التعقيد، الذي بلغته البشرية طوال تاريخها، نتيجة للتقدم العلمي والتكنولوجي المذهل، وما يترتب عليه من تغييرات متلاحقة في ظروف حياة البشر، وهي التغييرات التي واجهتنا بمواقف جديدة، لم يكن لها نظير في أية فترة سابقة. ومن هنا كان إلزاما على أي مجتمع، يريد لنفسه الحياة وسط عالم متغير متجدد، يتعين عليه أن يتعامل معه، أن يبذل جهدا بشريا هائلا، لكي يترجم المبادئ الدينية العامة إلى واقع، يمكن تحقيقه في عالم كهذا.

((ولنضرب لذلك مثلين: فمبدأ الإحسان مبدأ معترف به في الإسلام، تنص عليه آيات كثيرة، تهدف كلها إلى إشعار الأغنياء بأن للمحرومين في أموالهم حقا، أي إلى ضمان حد أدنى من المعيشة للفقير، أي أن الإحسان صيغة أساسية، تستهدف تحقيق شكل من أشكال العدالة الاجتماعية، غير أن تعقد المجتمعات الحديثة، وعدم وجود اتصال وثيق أو تعارف مباشر بين الغني والفقير في مجتمع المدينة الضخم المزدحم، يحتم علينا أن نأخذ من مبدأ الإحسان روحه العامة، وهي السعي إلى تضييق الفجوة بين الغني والفقير، ثم نبذل جهودا هائلة من أجل تحديد الوسائل، التي تكفل تحقيق شكل من أشكال العدالة الاجتماعية في هذا المجتمع المعقد. وتتفاوت الصيغة، التي يمكن تطبيقها، بين قيام الغني بتقديم صدقة مباشرة إلى الفقير “وهي صيغة لم تعد مجدية في معظم المجتمعات المعاصرة” وبين منع الأغنياء من أن يتملكوا الوسائل، التي تمكنهم من استغلال الفقراء والضعفاء، في الطرف الآخر من سلم الحلول الممكنة، وفيما بين هذين الطرفين تدور خلافات، لا أول لها ولا آخر، كلها خلافات بشرية خالصة، وإن كانت كلها قابلة لأن تندرج تحت المبدأ الديني العام “مبدأ الإحسان”.

((أما المثل الآخر، فهو مفهوم الشورى، فكما نعلم جميعا، مازال الخلاف محتدما حول طبيعة الشورى، وهل هي اختيارية أم ملزمة للحاكم، ولكن الأهم من ذلك أن مبدأ الشورى يحتمل تفسيرات شديدة التباين: ما بين همس الحاكم في أذن وزرائه وأمرائه المقربين، “للتشاور”. وما بين إجراء انتخابات نيابية نزيهة، تؤدي إلى اختيار ممثلين حقيقيين للشعب يكونون سلطة، تراقب جميع تصرفات الحاكم، وتضع لها ضوابط لا يستطيع أن يتعداها، فالمبدأ الإلهي واحد، ولكن التفسيرات متعددة ومختلفة، وكلها تفسيرات تتم بجهود بشرية.

((أما الأساس الثاني الذي أقول من أجله: إننا لسنا إزاء اختيار بين حكم إلهي وحكم بشري، فهو أن النص الإلهي لا يفسر نفسه بنفسه، ولا يطبق نفسه بنفسه، وإنما يفسره البشر ويطبقونه، وفي عملية التفسير والتطبيق البشري هذه، تتدخل كل أهواء البشر ومصالحهم وتحيزاتهم، ففي عصر الرسول وصحابته فقط، كان التشريع إلهيا، وكان التفسير والتطبيق بدوره إلهيا، لأن المكلف بالتفسير والتطبيق كان مبعوثا من عند الله. في مثل هذا العصر ـ فقط ـ يحق للناس أن يقارنوا بين الحكم الإلهي والحكم البشري، أما في جميع العصور اللاحقة، فقد دخل البشر، بكل ما يتصفون به من ضعف وهوى ولم يعد النص الشرعي الإلهي يتحول إلى واقع متحقق، إلا من خلالهم. وهذا هو التعليل الوحيد للتباين الشديد بين أنظمة متعددة، يقسم كل منها بأغلظ الأيمان أنه هو الذي يطبق الشريعة، كما ينبغي أن يكون التطبيق.

((ماذا نستنتج من ذلك كله؟ النتيجة الواضحة، التي تفرض نفسها على كل من يملك حدا أدنى من القدرة على التفكير، هي أن الهدف الأصلي، الذي تسعى إلى تحقيقه دعوة تطبيق الشريعة، هو هدف يستحيل بلوغه، فأصحاب هذه الدعوة، الذين تتملكهم رغبة حقيقية في الإصلاح، يريدون أن يتخلصوا من ضعف البشر وتخبطهم بالالتجاء إلى حكم إلهي، يسمو على كل ما يصل إليه البشر الفانون. ولكن المشكلة الكبرى هي أن ضعف البشر وتحيزهم، بل وفسادهم وانحلالهم، سيظل ملازما لنا، حتى عندما نحتكم إلى الشرع الإلهي، وبمجرد أن نطرد الهوى والتحيز البشري من الباب، نجده يقفز عائدا إلينا من النافذة.

((إن عملية الحكم عملية بشرية، ومادام الذين يمارسونها بشرا، فسوف يقحمون مشاعرهم وميولهم في أي نص يحكمون بمقتضاه، حتى لو كان نصا إلهيا. وعلى كل من يشك في ذلك أن يتأمل جميع تجارب تطبيق الشريعة، لا في العالم الإسلامي المعاصر فحسب، بل طوال التاريخ الإسلامي بعد عصر الرسول، لكي يتأكد من أن البشر مهما فعلوا لن يستطيعوا أن يهربوا من طبيعتهم أو يتخلصوا من أعمالهم”. انتهى

انتهى كلام فؤاد زكريا الذي بنى عليه القرضاوي حكمه التكفيري حول إنكاره ((أن في الإسلام “شريعة” من عند الله!)). فهل قال الدكتور فؤاد زكريا فعلا بأن الشريعة ليست من عند الله؟ ملخص ما قاله هو أن الشريعة من عند الله ولكن تطبيقها بشري وبما أن البشر ناقصون فلابد أن يكون التطبيق ناقصا وبالتالي فهو يطالب بضمانات أكبر في نزاهة التطبيق من خلال تبني الأدوات العصرية في سياسات البلدان خاصة الديمقراطية التي تجعل الحكام مسؤولين أمام الشعب. وهذه هي العلمانية كما رآها في حدها الأدنى في مجتمع يعيش انبهارا حقيقيا بالدين ورجاله.

المحزن أن الفيلسوف المصري لم يكن طليق اليد واللسان ليقول رأيه كفيلسوف في هذه الشريعة (الربانية)، وهذا مصدر كل الخيبات التي اصطدمت بها كل محاولات الخروج من هيمنة الماضي، ولقد اضطر الفيلسوف إلى بذل كنوز من الحيل البارعة ليتفادى التكفير ويقدم تنازلات لشريعة مزعومة لا تعدو أن تكون مجرد صنيعة بشرية مثل غيرها من الشرائع التي اخترعها البشر ونسبوها لله وفرضت نفسها بالعنف والترهيب والترغيب لصالح مجتمعات ذكورية قائمة على قانون السيف.

هذه بعض التنازلات، حسب رأيي، التي اضطر الفيلسوف إلى تقديمها طلبا للسلامة:

تنازل الفيلسوف عندما قال: ((بوضوح منطق دعاة الإسلام، وقوته وقدرته على التأثير والإقناع)). فلا وضوح لهذا المنطق إلا كونه يرتكز على العصبية والتكفير أمام جماهير مازال مستوى العقلانية عندها متدنيا جدا. نحن هنا إزاء منطق الذئب تجاه الخروف.

وتنازل الفيلسوف عندما قال: ((ومن هنا كان إلزاما على أي مجتمع، يريد لنفسه الحياة وسط عالم متغير متجدد، يتعين عليه أن يتعامل معه، أن يبذل جهدا بشريا هائلا، لكي يترجم المبادئ الدينية العامة إلى واقع، يمكن تحقيقه في عالم كهذا)). لكنه مجهود لا طائل من ورائه، لعله أشبه بمجهود سيزيف. لماذا يتوجب على مجتمعنا ((أن يبذل جهدا بشريا هائلا، لكي يترجم المبادئ الدينية العامة إلى واقع، يمكن تحقيقه في عالم كهذا))؟ من المحزن أن تواصل مجتمعاتنا إضاعة الوقت في ترجمة مبادئ دينية إلى واقع هي أصلا غير قابلة للترجمة إلا إذا أمسكنا بخناق مجتمعاتنا وفرضنا عليها أنماطا معيشية كتلك التي كان يعيشها مجتمع المدينة يثرب في بداية القرن السابع الميلادي. وما أشبه هذا الوضع المفروض بسرير بروكرست في الميثولوجيا الإغريقية حين كان ذلك العملاق الطاغية قاطع الطريق يمسك بالمسافرين ويضعهم على سريره، ثم يقوم بتمديد أوصال من يقصر عن السرير أو يقطع أوصال من يزيد طوله عليه. وهذا حالنا مع الدين: على الشعوب المؤمنة به أن تبقى جامدة بلا زيادة ولا نقصان حتى تنسجم معه. بينما الترجمة الحقيقية تتطلب تجاوزه تماما وجعل التشريع بين أيدي البشر يفصلونه مثل الخياط حسب حاجاتهم. خاصة ونحن أمامنا تجارب عالمية ناجحة لمجتمعات تحررت من هيمنة الدين لا بفضل ترجمته.

وتنازل الفيلسوف عندما قال: ((وفيما بين هذين الطرفين تدور خلافات، لا أول لها ولا آخر، كلها خلافات بشرية خالصة، وإن كانت كلها قابلة لأن تندرج تحت المبدأ الديني العام “مبدأ الإحسان)). في الحقيقة، التجارب التنموية الحديثة لم تعد تندرج تحت مبدأ الإحسان. بل تحت مبدأ الحقوق والواجبات، بحيث استبدلت المصطلحات الدينية مثل الإحسان بالضريبة على الريع والدخل والإنتاج والحق في العمل وفي العناية الصحية وغيرها من الحقوق التي هي من واجبات الدولة وليست مِنَّة من أحد، أما مشاريع الإحسان والجمعيات الخيرية فهي مرحب بها بشرط أن تتم على هامش السياسات الحكومية.

وتنازل الفيلسوف عندما قال: ((ولم يعد النص الشرعي الإلهي يتحول إلى واقع متحقق، إلا من خلالهم)). هنا أيضا لا بد أن نلاحظ أن الأمم الحديثة تجاوزت النص الشرعي من خلال علمنة دساتيرها وفرض فصل نهائي بين المجال الديني والسياسي.

وتنازل الفيلسوف عندما قال: ((هي أن الهدف الأصلي، الذي تسعى إلى تحقيقه دعوة تطبيق الشريعة، هو هدف يستحيل بلوغه)). لماذا يستحيل بلوغه؟ هل الشريعة هي من السمو والكمال بحيث يستحيل تطبيقها على أكمل وجه إلا من قبل واضعها أو نبيه؟ شخصيا أؤيد القرضاوي عندما يؤكد أن الشريعة الإسلامية ظلت مطبقة طوال عصور الإسلام مع اختلاف التطبيق حسب ضرورات الزمان والمكان ولم نقرأ لأي فقيه يستنكر فيه على الخلفاء عدم تطبيقهم للشريعة عدا بعض الخلافات في الجزئيات. هذا التنازل يصب في إناء الدين ورجاله. ليست شريعتهم كاملة، بل ومن الجحود أن نقارنها بشرائع البشر التي تجسدت في مواثيق حقوق الإنسان وفي دساتير الأمم الحديثة.

وتنازل الفيلسوف عندما قال: ((فأصحاب هذه الدعوة، الذين تتملكهم رغبة حقيقية في الإصلاح)). هل صحيح أن الإسلاميين تتملكهم رغبة حقيقية في الإصلاح؟ هذه هدية لا يستحقونها. كيف نسمي مصلحا من مازال يتشبث بتطبيق شريعة قروسطية أباحت كل التجاوزات في حق الإنسان الضعيف والمغلوب: عبودية، سبي، احتلال البلدان، نشر الدين بالقوة، تكفير المختلفين، تبرير الإرهاب….؟

وتنازل الفيلسوف عندما قال: ((ولكن المشكلة الكبرى هي أن ضعف البشر وتحيزهم، بل وفسادهم وانحلالهم، سيظل ملازما لنا، حتى عندما نحتكم إلى الشرع الإلهي، وبمجرد أن نطرد الهوى والتحيز البشري من الباب، نجده يقفز عائدا إلينا من النافذة)). شخصيا لا أشك في أن الفيلسوف فؤاد زكريا لا يرى في هذا الشرع الإلهي إلا مجرد صنيعة بشرية متواضعة جدا لا ترقى حتى إلى مستوى الشريعة اليونانية البشرية رغم أنها سبقتها بألف عام. بالعكس، كلما تحرر البشر من الدين كلما تقدموا نحو الكمال. البشر هم الذين صنعوا الأديان، وهم الذين عليهم أن يتجاوزها أو يتخففوا من هيمنتها ومن اغترابهم تجاهها. بعض الشعوب، سارت أشواطا بعيدة في هذا الطريق. لا أدري لماذا يتنازل الفيلسوف إلى هذا الحد؟ ألم ير، وهو الفيلسوف، كيف قام البشر في الأمم المتقدمة بوضع الأنظمة والشرائع والضوابط للتحكم في أهوائهم وتحيزاتهم منذ أن أعلن نيتشه، رمزيا، عن قتل الإنسان لله وتربعه مكانه، بما يعني أن الله لم يعد مصدرا للشرائع والأخلاق والتعاليم؟ أليست الديمقراطية وسيلة ناجعة لإدارة أنانيات واختلافات الناس بطرق سلمية؟ ألا يجري مراقبة ومحاسبة الحكام الذين أُنْزِلوا من عليائهم وأصبحوا مسؤولين أمام الشعب، ومعاقبتهم عندما يسيئون استخدام السلطات التي خولها لهم الشعب؟ كل هذا تحقق رغم حداثة التجربة مقارنة بأزمنة التيه والضلال الطويلة التي عاشها الإنسان مرهونا لقوى غيبية صنعها بجهله.

ومع ذلك وتحت عنوان جانبي ((مناقشة علمية هادئة )). يقول القرضاوي كلاما خطيرا في بيئة إسلامية هو أبعد ما يكون عن المناقشة الهادئة. نقرأ: ((ولنقف قليلا عند الأدلة، التي اتكأ عليها أستاذ الفلسفة، لينفي ـ بشدة ـ أن الإسلام شريعة، تنسب إلى الله، ويثبت أن الشريعة مثل القانون الوضعي، كلها من عمل الإنسان)).

ويقول: ((الحق أني ما كنت أحسب أن يتورط رجل مثله، في مثل هذا الباطل المكشوف، وأن يتوكأ على عكاز منخور، أكلته دابة الأرض.))

ويقول: ((ولا أدري كيف بلغ به الزهو، أن يتهم الأمة الإسلامية كلها بالغباء والجهل. فقد ظلت بجميع مذاهبها وفرقها طوال أربعة عشر قرنا، تعتقد أن عندها شيئا اسمه “شرع الله” عمل به من عمل، وانحرف عنه من انحرف، حتى الفلاسفة الذين لا يجهل الأستاذ أمرهم، كانوا يحاولون أن يثبتوا ما بين حكمة البشر وشريعة الله من الاتصال)). هنا يتحرج الشيخ من ذكر ابن رشد صاحب فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، بينما ذكر الغزالي متحيزا بذلك لعدو الفكر الحر والفلسفة ؟

فكيف فهم القرضاوي أن فؤاد زكريا ((ينكر أن في الإسلام “شريعة” من عند الله!))؟

للأسف، هذه هي طريقة الإسلاميين في الحوار، مآلها طريق مسدود. هم قلما يفرقون بين الدين والفكر الديني، بين النص وما نفهمه من النص، بين الفكرة وتطبيقها نظرا لعجزهم عن ممارسة القراءة الحديثة التي انتهجها أمثال محمد أركون ونصر حامد أبو زيد وغيرهم. بل الأخطر أن فكرهم كثيرا ما يتماهى مع النص (المقدس)، بل يتماهى صاحبه مع نبيه وإلهه. لهذا يتهمون خصوم فكرهم بأعداء الإسلام وأعداء الله ورسوله !

لنعد إلى مادة هذه التهمة، إلى كلام فؤاد زكريا، ونختار هذه الفقرة التي تلخص في رأيي فكره العلماني في التحفظ على تطبيق الشريعة الإسلامية. يقول: ((إننا لسنا إزاء اختيار بين حكم إلهي وحكم بشري، فهو أن النص الإلهي لا يفسر نفسه بنفسه، ولا يطبق نفسه بنفسه، وإنما يفسره البشر ويطبقونه، وفي عملية التفسير والتطبيق البشري هذه، تتدخل كل أهواء البشر ومصالحهم وتحيزاتهم)).

ولهذا لا يتساءل الإسلاميون كيف انقسم المسلمون طوال تاريخهم كل هذا الانقسام والتشظي إلى مذاهب وطوائف وطرق حد التناحر والتكفير والتذبيح، وهم كلهم يؤكدون على ارتباطهم الشديد بصحيح دينهم؟ هل يعقل هذا لو كانت تعاليم الإسلام كلها على درجة من الضبط والوضوح حتى في أبسط الأمور التعبدية أما إذا تطرقنا إلى أهم مسألة في حياة الناس وهي السلطة وإدارة شؤون المسلمين فالخلافات كانت هي القاعدة وليس الاستثناء؟

حتى أقرب الناس إلى صاحب الرسالة، علي بن أبي طالب، قال عن القرآن: ((كلمة حق أريد بها باطل))، وقال ((إنا لم نحكم الرجال، إنما حكمنا القرآن، وهذا القرآن إنما هو خط مسطور بين دفتين لا ينطق، وإنما يتكلم به الرجال))، ومع ذلك نصح ممثله لمفاوضة الخوارج: ((لا تجادلهم بالقرآن، فإن القرآن حمال أوجه وجادلهم بالسنن)). ولم تفلح لا المجادلة بالقرآن ولا بالسنن في المصالحة بين الخصوم، وكلهم كانوا يجدون في الكتاب والسنة ما يدعم مواقفهم المتنافرة حد الاقتتال.

وعليه فإن الفصل في مسائل خلافية بالطريقة التي فصل فيها القرضاوي، هو من قبيل الفاشية الدينية.

وبعد أن وجه القرضاوي هذه التهمة التكفيرية التي كانت كافية ليتكفل أحد الإسلاميين باغتياله لو أتيحت له الفرصة مثلما جرى مع فرج فودة، بعد هذا ينطلق في مساجلة طويلة مملة حول شرح الزكاة بحجة أن ((عيب الدكتور وجماعته من العلمانيين واليساريين أنهم لا يعرفون الإسلام، ولا يقرءون كتب علمائه القدماء ولا المحدثين)). وأن فؤاد زكريا خلط بين الإحسان وبين الزكاة. وأن الإسلام (يرفض) فكرة الإحسان، ولم يعتمد عليها في رعاية حقوق الفقراء. بينما المعول عليه هو الزكاة.

وهو كلام عبارة عن تملص من حجية فؤاد زكريا أو هروبا من مواجهة حصافتها أو مجرد عجز عن فهم آليتها. فمهما تحدث الشيخ عن أهمية الزكاة في الإسلام للقضاء على الفقر والتفاوت بين الأغنياء والفقراء، فليس هذا لب الفكرة التي شرحها الدكتور زكريا. فحتى في حال تمكن الدولة الإسلامية من جمع القناطير المقنطرة من الذهب والفضة من الأغنياء أو من استغلال الثروات الطبيعية مثلما هو الحال اليوم، تبقى مسألة التوزيع حجر عثرة لأن هذه الدولة الإسلامية قائمة على نظام حكم أهم خصائصه الاستبداد الذي يستمد مشروعيته من تطبيق هذه الشريعة بالذات. والاستبداد، كما هو معلوم، يحول دون مراقبة المجتمع للسلطة الحاكمة كما يجري حاليا في المجتمعات المتمدنة التي يعتبر فيها المجتمع المدني سلطة مضادة حقيقية تلعب فيها منظماته وجمعياته وصحافته ونقاباته ومعارضته وآلياته الانتخابية الدور الأكبر في مراقبة إدارة شؤون الناس وقيام الحكم الراشد. وهذه الحكمة الغربية العلمانية لا نجد لها أثرا في الإسلام نصوصا وممارسات ولا هي موجودة في الأديان الأخرى. بل نجد الإسلاميين المعاصرين يعارضون هذه الحكمة بحجة أنها أفكار مستوردة وأن في ديننا الخبر والبركة، ووقفوا دائما ضد مساعي النخب العلمانية للاستفادة من التجارب الغربية مثل الديمقراطية والعلمانية وحقوق الإنسان ومختلف الحريات مثل حرية التعبير والإعلام والنقد والاعتقاد والابتكار في غياب أية عصمة أو قداسة لأحد.

يتبع     عبدالقادر أنيس فيسبوك

About عبدالقادر أنيس

كاتب جزائري
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.