حليب ابو قوس في ساحة الفردوس

محمد الرديني

2012 / 7 / 19

في ظاهرة فريدة من نوعها تجمع امس المئات من العراقيين ومن مختلف الاعمار في ساحة الفردوس وبعضهم يحملوت شعارات غريبة والبعض الاخر اكتفى بالتلويح بصمت بما يريد.
وقد ظن الكثير من المارة والفضوليين ان هذا التجمع سيقود تظاهرة ضد الحكومة التي حرمتهم من الماء المثلج في هذا الصيف القاتم بينما همس البعض بأحتمال ان يطالبوا باستقالة حسين الشهرستميغاواطي نائب وزير الكهرباء لشؤون الطاقة ورفيق دربه السيد عبد الكريم عفتان وزير الكهرباء.
ولكن الذي اثار فضول معظم المتفرجين عشرات الامهات وهن يحملن اولادهن او بناتهن الرضع بيد ويمسكن (قواطي) حليب ابو قوس الفارغة بيد اخرى.
نقطة نظام: كان حليب ابو قوس الغذاء الوحيد الذي يباع بالاسواق العراقية آنذاك وهوز متوفر لأصحاب الدخل المحدود، اما اصحاب الدخل غير المحدود فيفضلون حليب (الطوز) الذي صح به المثل القائل(نكعه واشرب مايه).
انتظر المتفرجون اي اشارة تنبىء عن تفسير لما يفعله هؤلاء القوم وهم مختلطون ببعضهم رجالا ونساء واطفالا مما اثار حفيظة البعض من يرى ان البحر ذكر ومن الحرام ان تسبح به المرأة خوفا على شرفها.
ولم تمض دقائق حتى حرّك بعض الشباب لافتاتهم ذات اليمين وذات اليسار ليراها اكبر عدد من المتفرجين.
وقرأ الناس في اللافتة الاولى :
نريد من الحكومة ان تلتزم بالقانون الدولي.
اللافتة الثانية: تعطيل كافة الدوائر الحكومية والخاصة بمناسبة ارتفاع درجة الحرارة مافوق الخمسين.
اللافتة الثالثة:مايهم فوق السبعة تحت السبعة نريد اجازة شبعنا حر.
اللافتة الرابعة: نريد العطلة مادام الحر موجود.
وفي اللافتة الخامسة: آب قادم، ويلكم ايها المفطرون.
وفي اللافتة السادسة: السكن في بلد الخراب ولا العيش في آب.
وفي اللافتة السابعة: ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟.
توضيح: وضعت علامات الاستفهام للاستدلال على هروب الكثيرين الى ايران من شدة الحر وبحجة الزيارة(وكأنه لم يكفهم الزيارات الى كربلاء والنجف والكوفة ومقامات الاولياء الاخرين بينما تشير تقارير الهجرة والجوازات الى ان سبب الزيارات الكثيفة هي ان (الرس) حن وكل من واصله).
وفجأة عم السكون والهدوء وخيم الصمت ثقيلا على اجسام الحاضرين (الناشفة) بينما سقطت بعض(قواطي) حليب ابو قوس من ايد بعضهن دهشة ورهبة.
فقد رأى الجمع سيلا من السيارات الفارهة جدا وبعضها مكشوف وهي تحمل رجالا ملثمين ووجوههم مغطاة بنظارات سوداء ويحملون اسلحة في ايديهم تبهر الناظر وذخيرة تسيل اللعاب على صدورهم.
ورأى القوم فيما رأوه توقف السيارات (وهي انواع وموديلات لاتحصى ليس منها الكيا ومونيكا) ونزل المسلحون منها بخفة النمر البني واحاطوا برجل وسيم توقف برهة لينظر الى القوم بعد ان عدّل ياقة قميصه التي لاتشدها ربطة عنق.
ورأوا كذلك ان مجموعة من الرجال المنظرين(يلبسوا النظارات) احضرت منبرا ومكبر للصوت فيما مسك احدهم الميكروفون ليصعد الرجل الوسيم على المنبر ويتنحنح قبل ان يقول:
اولادي وبناتي
لشد ما ابكي عليكم في الليل والنهار من شدة هذا الحر ولكنكم تعرفون انه امتحان من الله عز وعلا ..ليعرف قوة ايمانكم وصبركم على الشدائد والملمات وكأني بلسان حال هذا القيظ يقول، اذا لم تتحملوا حرارتي فكيف باشراركم وضعيفي ايمانكم يتحملون نار الجحيم.
شفتوا ياأولادي كم هي نعمة علينا هذا الحر الذي شرفنا بالقدوم مع شهر رمضان الكريم الذي انزل فيه القرآن.
اولادي وبناتي: اننا نملك الايمان الان بل وقوة الصمود والتصدي بعد ان حرمنا من طقوسنا وعاداتنا الشريفة قرونا طويلة فها نحن نقيم شعائر الزيارات وجعلنا لكل ولي من اولياء الله الصالحين يوما للزيارة يأخذ فيه القوم وانتم منهم اجازة يستريحون بها ومنحناهم 250 يوما في السنة ولم تبق منها الا 56 يوما اذا كانت السنة كبيسة وهي كافية للدوام الرسمي بعد استقطاع اجازات عيد الفطر المبارك وعيد الاضحى ورأس السنة الهجرية والميلادية واعياد نوروز ويوم الحكم الذاتي في كردستان العراق واليوم المحلي للبصرة عاصمة العراق الاقتصادية ويوم الكوفة في احتفالها السنوي في ملاحقة ركب الحضارة الاسلامية عدا ان سنتنا ليست كبيسة في كل مرة وليس بها 365 يوما بل هي فقط 360 يوما ايها الاخوة.
ومن هنا(قبل ان يكمل قدّم له احد المرافقين “لفة” من مناديل الكلينكس ليمسح بها شعيرات وجهه ولفة اخرى لوجهه الكريم).. عفوا ايها الاخوة اقول من هنا لم اجد ضرورة لتنفيذ طلبكم بتعطيل الدوائر الحكومية حسب قرار هيئة الامم المتحدة لأننا لا نجد مكانا مناسبا لهذه الواقعة واقصد واقعة الحر الشديد فنحن كما تعرفون ومن شدة اقبالنا على منهجية الزيارات وقدسيتها لم نجد يوما شاغرا لتحقيق طلب الامم المتحدة في هذا الحر الشديد.
لهذا ارجو منكم العودة الى بيوتكم مع وعدي لكم بان اجعل لكل فرد مشارك برنامج زيارة من الصباح وحتى المساء وعلى حسابي الخاص.
صفق القوم ورقص بعضهم وارتجلوا الهوسات العراقية الجاهزة التي تقال في كل مناسبة ثم انصرفوا عائدين الى بيوتهم.
فاصل نفطي: يقال ان البعض يحتفل هذه الايام بمناسبة العثور على كنز لاينضب من الدولارات وهو غير معروف من قبل سليمان الحكيم.
الكنز يقع في حقول نفط منطقة بيجي حيث يتم تحميل النفط المسروق.. استغفر الله العظيم ،غدا رمضان والغيبة حرام فيه.

About محمد الرديني

في العام 1949 ولدت في البصرة وكنت الابن الثاني الذي تلاه 9 اولاد وبنات. بعد خمسة عشر سنة كانت ابنة الجيران السبب الاول في اقترافي اول خاطرة انشائية نشرتها في جريدة "البريد". اختفت ابنة الجيران ولكني مازلت اقترف الكتابة لحد الان. في العام 1969 صدرت لي بتعضيد من وزارة الاعلام العراقية مجموعة قصص تحت اسم "الشتاء يأتي جذلا"وكان علي ان اتولى توزيعها. في العام 1975 التحقت بالعمل الصحفي في مجلة "الف باء" وطيلة 5 سنوات كتبت عن كل قرى العراق تقريبا ، شمالا من "كلي علي بيك" الى السيبة احدى نواحي الفاو. في ذلك الوقت اعتقدت اني نجحت صحافيا لاني كتبت عن ناسي المعدومين وفشلت كاتبا لاني لم اكتب لنفسي شيئا. في العام 1980 التحقت بجريدة" الخليج" الاماراتية لاعمل محررا في الاخبار المحلية ثم محررا لصفحة الاطفال ومشرفا على بريد القراء ثم محررا اول في قسم التحقيقات. وخلال 20 سنة من عملي في هذه الجريدة عرفت ميدانيا كم هو مسحوق العربي حتى في وطنه وكم تمتهن كرامته كل يوم، ولكني تعلمت ايضا حرفة الصحافة وتمكنت منها الا اني لم اجد وقتا اكتب لذاتي. هاجرت الى نيوزيلندا في العام 1995 ومازلت اعيش هناك. الهجرة اطلعتني على حقائق مرعبة اولها اننا نحتاج الى عشرات السنين لكي نعيد ترتيب شخصيتنا بحيث يقبلنا الاخرون. الثانية ان المثقفين وكتاباتهم في واد والناس كلهم في واد اخر. الثالثة ان الانسان عندنا هو فارزة يمكن للكاتب ان يضعها بين السطور او لا. في السنوات الاخيرة تفرغت للكتابة الشخصية بعيدا عن الهم الصحفي، واحتفظ الان برواية مخطوطة ومجموعة قصصية ويوميات اسميتها "يوميات صحفي سائق تاكسي" ومجموعة قصص اطفال بأنتظار غودو عربي صاحب دار نشر يتولى معي طبع ماكتبت دون ان يمد يده طالبا مني العربون قبل الطبع. احلم في سنواتي المقبلة ان اتخصص في الكتابة للاطفال فهم الوحيدون الذين يقرأون.
This entry was posted in دراسات سياسية وإقتصادية, فكر حر. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.