ج 6 / مُربّو السلالات وبرامج كومبيوترية عن التطوّر! (قراءة في كتاب أعظم عرض على وجه الأرض / د. ريتشارد داوكنز)

رعد الحافظ

رعد الحافظ

ج 6 / مُربّــو السلالات وبرامج كومبيوترية عن التطوّر! (قراءة في كتاب أعظم عرض على وجه الأرض / د. ريتشارد داوكنز)

مقدمة :
في هذا الجزء سيرد الحديث عن تمازج الأجناس غير المرغوب به لدى مُربّي سلالات نقيّة من الكلاب والخيول والأبقار والأزهار .. وغيرها!
وبعض الدروس من عملية تدجين الكلاب (تحدثنا عنها في الجزء السابق).
وشرح لما يحدث من تضخيم العضلات لدى لاعبي كمال الأجسام مثلاً .
ومقارنة ذلك في حالة أبقار الألبان وخنازير اللحوم وما شابه.
وأخيراً موضوع (برامج المحاكاة الكومبيوترية) ,التي تساعد حتى الاطفال الصغار في فهم عملية التطوّر والإنتخاب (الإصطناعي) الذي هو مرآة عاكسة لعملية الإنتخاب الطبيعي (لكن مع فارق الزمن المُستغرق)!
***
تمازج الأجناس !
تمازج الأجناس هو أسوء شيء ممكن أن يحصل في سجل مُربّي سلالةٍ ما
يحدث شي غريب للأحواض الجينيّة للكلاب المُدجنة!
يمضي مربّو سلالة الكلب الپيكيني
Pekineses
,أو الكلب الدلماسي
Dalmatians
في وضعِ حدود مُحكمة لمنع تهجين الجينات من حوض جيني الى آخر!
هذا الأمر يشبه إحتجاز كلّ سلالة من الكلاب في جزيرة خاصة بها!
بحيث تبقى معزولة عن باقي السلالات ,لكن حاجز التهجين ليس الماء إنّما التحكمّات البشرية!
النمّو الذي يحصل للحيوان بنفس المُعدّل في جميع أجزائه ,بحيث يكون البالغ منه صورة مطابقة (لكن مُتضخمّة) للطفل ,يسمى النمو التقايسي!
يعني (متساوي المقاييس) .هذا نادر تماماً في الكلاب وأغلب الكائنات!
عكس ذلك (النمو غير التقايسي) هو السائد ,يعني الاجزاء المختلفة تنمو بمعدلات مختلفة!
(تذكرتُ الآن حقيقة علميّة حول الإنسان مفادها أنّ العين لا تكبر مع تقدّم العمر بل تصغر لاحقاً مثل معظم أجزاء الجسم ,ماعدا الأذن والأنف فهذه تستمر في النمو حتى مع تقدّم الشيخوخة كونها مكوّنة من غضاريف/لكن هذا موضوع آخر/ كاتب السطور) !
***
دروس من تدجين الكلاب !
يبرهن التنوّع العظيم بين سلالات الكلاب ,من الدنماركي الضخم الى اليوركي.من الإسكتلندي الى الأردليس .من الرايدباك الى الدشهند .من الوَبت الى كلاب القديس برنار .يبرهن كم هو سهل على الإنتخاب غير العشوائي إنتاج تغيّرات دراماتيكيّة حقاً في التشريح والسلوك!
فإذا كانت تلك التغيّرات تحدث خلال قرون قليلة,أو حتى عقود من السنين!
فتخيّل ما يُحدثه التطوّر الطبيعي خلال ملايين السنين مع باقي الاحياء!
ناظرينَ الى هذهِ العملية خلال القرون فإنّه ليس (محض خيال) كون البشر مُدجني الكلاب قد تحكموا في أجسادها كصياغة الطين وضغطهِ وسحبهِ وخزفهِ الى شكلٍ (أكبر أو أصغر) حسب الرغبة!
بالتاكيد (كما أشرتُ سابقاً) لقد خزفنا ليس أجساد الكلاب,إنّما الأحواض الجينيّة لتلك الكلاب!
في الواقع تعبير (نحتنا) أفضل من (خزفنا) ,رغم كون الإثنان مجازيّان!
ولاحظوا أنّ بعض النحتاتين يعمل بأخذ قطعة من الطين وعجنها الى شكلٍ معين .بينما الآخرون يأخذون قطعة من الصخر أو الخشب فينحتونها بطرحِ كسراتٍ صغيرة بإزاميلهم .لكن يتحتّم القول (بجلاء) أنّ مُدجني الكلاب لا يعملون بتلك الطريقة ,فالأمر أعقد من ذلك!
هم لايقطعون أجزاء من أجساد الكلاب فيرمونها .إنّما يقومون بشيء شبيه بنحت الأحواض الجينيّة للكلاب بطرحِ كسراتٍ منها!
لقد أخذَ (مايكل أنجلو) قطعة رُخام غليظة ,فأزال منها أجزاءً لتوحي أنّ (دواد النبي) مختبيء بداخلها .هنا لا شيء اُضيف!
أمّا في الأحواض الجينيّة فيضاف لها بإستمرار!
***
ص 25 / كمال الأجسام !
تستدعي فكرة النَحت الى الذهن البُنيات الجَسدية للبشر من لاعبي كمال الأجسام ,والمكافئات غير البشرية كسلالة الماشية البلجيكية الزرقاء!
لقد اُختِرِعَ هذا المصنع لـ (اللحوم البقرية) السائر على قدمين من خلال تعديل جيني مُعيّن ,يُدعى (باني العَضلات المُضاعف) !
هناك مادة تدعى ميوستاتين
Myostatin
التي تحّد من نمو العضلات!
ببساطة ,إذا (اُعيقَ) الجين الذي يصنع الميوستاتين ,فسوف تنمو العضلات بشكلٍ أكبر من المعتاد!
غالباً يمكن لجين مُعيّن أن (يتطفّر) بأكثر من طريقة ليُنتج نفس النتيجة!
وبالفعل هناك طُرق عديدة يمكن أن يُعطّل بها الجين صانع الميوستاتين!
هذا ينطبق أيضاً على نوع من الخنازير يدعى (الغريب الأسود) وبعض أنواع الكلاب لتضخيمها!
لكن لاعبي كمال الاجسام يُحققون بُنية مُشابهه بنظام شديد من التدريب مُستخدمين (غالباً) الستيرويدات الأيضيّة البنائيّة!
إنّما في النهاية كلاهما تلاعبان بيئيّان يحاكيان جينات الماشية البلجيكيّة والغريب الأسود .والنتيجة النهائية هي ذاتها ,وهذا درس في حدّ ذاته!
الآن : يُمكن أن تنتج الوراثة والتغيّرات البيئيّة نتائج مُتطابقة!
إن أردتَ أن تبني طفلاً بشريّاً ليفوز في بطولة كمال أجسام وإحتجتَ لتوفير عدّة قرون ,يمكنك أن تبدأ بالتلاعب الجيني ,مُهندِساً نفس الجين الغريب (الذي يُميّز الماشية البلجيكية وخنزير الغريب الأسود)!
وبالفعل هناك بعض البشر معروفين بأنّ لديهم إلغاء لجين الميوستاتين!
هؤلاء يميلون ليكونوا متعضلين على نحوٍ يقوق الطبيعي!
***
ص 26 / المُعارضة السياسيّة والأخلاقيّة !
قد تظهر مُعارضة سياسيّة وأخلاقيّة لفكرة معيّنة مثل بناء الاجسام!
وقد يقول الكثير عنها بأنّها شيء خاطيء وسخيف .وقد أشاطرهم الرأي!
لكن هذا لا يعني أنّ تحقيق الفكرة مستحيل!
لا يساورني الشكّ مطلقاً بأنّكَ لو عزمتَ على ذلك (وكان لك وقت وقوّة سياسيّة كافية) ,فإنّكَ ستُربّي جنساً بشريّاً من بنّائي الأجسام الخارقين,أو الواثبين أو رماة الجلّة أو صيادي اللؤلؤ أو مُصارعي السومو أو العدائين الخارقين أو حتى (لكن بثقة أقلّ) موسيقيين وشعراء ومختصي رياضيّات وذائقي نبيذ خارقين!
كلّ شيء وكلّ صفة تقريباً يمكن التوّصل إليها عن طريق التدجين (مع بعض الإستثناءات) .مَنْ كان ليظن أنّ الكلاب (مثلاً) يمكن أن تُدجّن لمهارات تجميع الخراف ,أو تحديد المواقع ,أو مُضايقة الثور ؟
إذا أردتَ أبقاراً تعطي حليباً بكميات أكبر بكثير من المعتاد فإنّ (التربيّة الإنتخابيّة) ستوفر لك ذلك!
يُمكن أن تُعدّل الأبقار لتُنمي ضروعاً ضخمة وثقيلة الحركة ,تمنح حليباً لفترة غير محدودة بعد فطام طفلها (العجل)!
(يمزح البعض ويبالغ في الحديث عن ضرع بلا بقرة / كاتب السطور)!
(صورة للبقرة العملاقة ـ البلجيكية الزرقاء)!

في الواقع لم تُرّبَّ خيول مُنتجة للألبان .ربّما رُبيّتْ للجري الأسرع!
لكن السؤال :هل سيُعارض أحد لو قلنا أنّ ذلك ينطبق حتى على البشر؟
بشر ينتجون ألبان ؟ لو أراد أحدكم ان يُجرّب ذلك ,خصوصاً مع بعض
النساء المخدوعات (بخرافة) أنّ الأثداء الكبيرة كالبطيخ جذّابة !
يدفعنّ للجراحين مبالغ ضخمة لزرعِ السليكون!
نعم يمكن ذلك عن طريق التربيّة الإنتخابيّة بنفس طريقة الأبقار الفيريسيّة!
(أسعدني كون داوكنز يشبهني بكراهية الأثداء الضخمة/كاتب السطور)
***
ص 27 / برامج مُحاكاة كومبيوتريّة!
قبل حوالي 25 عام طوّرتُ (يقول داوكنز) برنامج مُحاكاة كومبيوتريّة لتوضيح قوّة الإنتخاب الإصطناعي!
نوع من لعبة كومبيوتر متكافئة مع عملية تربية الزهور أو الكلاب أو الماشية!
يواجه اللاعب مصفوفة من تسعةِ أشكال على الشاشة (أشكال بيولوجيّة كومبيوترية) ,الكائن المتوّسط بينهم هو الأب للثمانية المُحيطين به!
كلّ الأشكال اُنشئَت تحتَ تأثير دستات من الجينات وما يماثلها إفتراضياً.
والتي هي ببساطة على شكل أعداد ورثّت من الأب الى النسل!
مع وجود إحتمالية طفرات صغيرة تطرأ أثناء ذلك!
تُمثّل الطفرة في هذا البرنامج بزيادة أو نقص ضئيل في القيمة العدديّة لجين الأب!
كلّ شكل تمّ إنشاؤه تحت تأثير مجموعة مُعيّنة من قيم الاعداد ,التي هي القيم المُعيّنة لدستة الجينات!
اللاعب يلقي نظرة على مصفوفة التسعة أشكال ,هو لا يرى الجينات بل يختار الشكل المُفضّل (للجسد) الذي يريد أن يبدأ التربية منه!
عندئذٍ تختفي الأشكال البيولوجية الإفتراضية الثمانية الأخرى من الشاشة!
ينزلق (الشكل المُختار) الى منتصف الشاشة!
ثمّ يقوم بوضع ثمانية أبناء مُطفرين جُدد!
تتكرر هذه العملية لأجيال عديدة حسب رغبة ووقت اللاعب!
الشكل المتوسط أو الشائع (للكائنات) على الشاشة يتطوّر تدريجياً كلّما مضت الأجيال! الجينات فقط هي ما يُنقَل من جيل الى جيلٍ آخر تالٍ له!
وهكذا بإختيار الأشكال البيولوجيّة مباشرةً بالنظر ,فإنّ اللاعب (دون قصد عمدي) يختار الجينات!
هذا هو الذي يحدث بالضبط عندما يختار المربّون كلاباً أو زهوراً لتربية سلالة منها !
إذاً من خلال هذا البرنامج الكومبيوتري الإفتراضي يمكننا تخيّل أشكال وأنماط أجنّة مختلفة كثيرة!
هذا ما فعلته أيضاً في برنامجي الأوّل (صانع الساعات الأعمى) ,حيث توجد شجرة أنساب تنمو بإستمرار .يتفرّع جذعها الى فرعين ,كلاً منهم يتفرع الى فرعين وهكذا تستمر العملية بحيث عدد الفروع وزواياها وأطوالها كلّها خاضعة للتحكم الجيني!
ثمّة برنامج آخر أكثر إتقاناً يدعى الأشكال المفصليّة
Arthromorphs
كتبته (يقول داوكنز) بالمشاركة مع
Ted Kaehler
الذي عملَ لاحقاً في شركة
Apple
للكومبيوتر.يشتمل على برامج عمل شجرة تطوّريّة ذي بعض الخصائص البيولوجيّة المثيرة للإهتمام ,المُهيّأة خصيصاً للتربيّة الإصطناعيّة للحشرات والعناكب وأم 44 ,وكائنات إفتراضية أخرى!
وهناك برامج أخرى شرحتها في كتابي المدعو :
(تسلّق جبل اللاإحتمال /Climbing Mount Improbable ) !
کبرنامج الأشكال البيولوجيّة Biomorphs !
وبرنامج الأشكال الصَدفيّة Conchomorphs
وهي أشكال إفترضيّة للرخويات الكومبيوترية! وبرامج أخرى من نفس النمط !
سوف أعود ثانيةً لهذه البرامج (لكن لغرض آخر) في الفصل الاخير من هذا الكتاب .إنّما ذكرتها هنا لغرض توضيح قوّة الإنتخاب الإصطناعي حتى في بيئة كومبيوتريّة مُبسطة للغاية!
أمّا في العالَم الحقيقي للزراعة والبستنة وهواة الحمام ومربّي الكلاب فإنّ الإنتخاب الإصطناعي يمكنه عمل ما هو أكثر من ذلك بكثير!
إنّ برامج المُحاكاة الكومبيوترية هذهِ توّضح مبدأ الإنتخاب فقط !
كما يفعل تقريباً (الإنتخاب الإصطناعي) في توضيح (الإنتخاب الطبيعي)!
إنتهى الجزء السادس!
***
الخلاصة :
مادُمنا هذه الأيام نسمع كثيراً عن الألعاب الكومبيوترية التي تشغل الأطفال والشباب (اللي في سن حضرتك) ,مثل هذه الاخيرة
Pokemon go
فأنا أقترح على القرّاء الراغبين بفهم نظرية التطوّر والإنتقاء الطبيعي لداروين (الذين لايوّدون القراءة المعمّقة) ,أن يبحثوا عن بعض برامج داوكنز التي ورد ذكرها أعلاه مثل الـ
Biomorphs
وغيرها ,كي يفهموا مبدأ التطوّر الإصطناعي من خلال اللعب الكومبيوتري المُسلي!
وسأضع لكم رابطاً للبدء منه في طريق البحث!
على كلٍ يقول داوكنز بهذا الخصوص :
لقد كان لداروين خبرة مباشرة بقوة الإنتخاب الإصطناعي .أعطاه الاهميّة الكبرى في الفصل الأوّل من كتابه (عن أصل الأنواع) .كان يمهّد لقرائه ليوصل لهم تبصّره العلمي العظيم عن قوّة الإنتخاب الطبيعي!
فإذا كان البشر قد أمكنهم تحويل ذئب الى كلب پيكيني أو غيره من أنواع الكلاب .و حولوا الملفوف البريّ الى القرنبط والكرنب ,في بضعة قرون فقط أو آلاف الأعوام .فلماذا لا يؤدّي البقاء غير العشوائي عبر الإنتخاب الطبيعي للحيوانات البريّة والنباتات ,نفس الأمر خلال ملايين الاعوام ؟
تلك هي ما ستكون نتيجة قراءة الفصل القادم من هذا الكتاب!
إنّما ستبقى إستراتيجيتي (يضييف داوكنز) ,الإستمرار أولاً في عملية التمهيد للفكرة ,لأجل تسهيل الإنتقال الى فهم الإنتخاب الطبيعي!
***
رابط للوصول الى برنامج لعبة كومبيوترية عن التطوّر !
http://www.emergentmind.com/biomorphs

تحياتي لكم
رعد الحافظ
16 يوليو 2016

About رعد الحافظ

محاسب وكاتب عراقي ليبرالي من مواليد 1957 أعيش في السويد منذُ عام 2001 و عملتُ في مجالات مختلفة لي أكثر من 400 مقال عن أوضاع بلداننا البائسة أعرض وأناقش وأنقد فيها سلبياتنا الإجتماعية والنفسية والدينية والسياسية وكلّ أنواع السلبيات والتناقضات في شخصية العربي والمسلم في محاولة مخلصة للنهوض عبر مواجهة النفس , بدل الأوهام و الخيال .. وطمر الروؤس في الرمال !
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.